المنع أم العقاب؟ الجدل بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول أفضل السبل لردع إيران
المنع أم العقاب؟ الجدل بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول أفضل السبل لردع إيران
Part of a series: Risks and Opportunities in the Post-April 13 Middle East
or see Part 1: The Palestinian Arena in the Shadow of the Iran-Israel Crisis
تظهر التجربة أن الاستراتيجية المتوازنة التي تمزج بين الردع من خلال المنع والردع من خلال العقاب أن بإمكانها احتواء إيران بشكل أكثر فعالية.
“أدى القرار الذي اتخذته إيران بشن هجوم مباشر ضد إسرائيل في 13 نيسان/أبريل إلى زيادة خطر نشوب صراع تقليدي مفتوح في الشرق الأوسط. وكان هذا الهجوم كبيراً من حيث نطاقه وحجمه وتعقيده، إذ استُخدمت فيه مئات الطائرات المسيّرة الهجومية ذات الاتجاه الواحد وصواريخ “كروز” والصواريخ الباليستية. وفي موازاة ذلك، نظّمت الولايات المتحدة جهوداً لا تقل أهمية لصد الهجوم الإيراني، إذ عملت مع إسرائيل ومع الحلفاء الأوروبيين والعرب على دمج القدرات والدفاع عن المجال الجوي للمنطقة. وقد استهدف الرد الإسرائيلي في 19 نيسان/أبريل الدفاعات الجوية التي تحمي البرنامج النووي الإيراني في عمق البلاد، على الرغم من عدم إعلان المسؤولية عن الهجوم، دون الإضرار بالبنية التحتية المدنية أو وقوع إصابات بين المدنيين. ومع انتهاء دورة التصعيد التي بدأت في نيسان/أبريل 2024 على ما يبدو، تجاوزت المنطقة الآن عتبة الهجمات التي تنفذها دولة ضد الأخرى، وأظهرت كلٌ من إسرائيل وإيران قدرات وعزيمة قوية“.
“المقال التالي هو جزء من سلسلة جديدة تهدف إلى تسليط الضوء على الفرص والمخاطر الناتجة من البيئة الاستراتيجية التي نشأت بعد 13 نيسان/أبريل”.
في أعقاب الهجوم الذي شنته إيران بالطائرات المسيّرة والصواريخ في 13 نيسان/أبريل، برزت خلافات بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول كيفية رد إسرائيل على تحديات إيران، وتحوّلت هذه الخلافات إلى أحدث مصدر للتوترات بينهما. فقد تعهّد المسؤولون الإسرائيليون، سواء قبل الضربة أو بعدها، بالرد من خلال ضرب إيران. وفي المقابل، حث الرئيس بايدن إسرائيل على “قبول هذا النصر الصغير” وتجنب اتخاذ المزيد من الإجراءات. وتُظهِر الضربة المحدودة التي نفذتها إسرائيل ضد موقع للدفاع الجوي الإيراني في 19 نيسان/أبريل أنها ما زالت عازمة على ردع إيران من خلال المنع “وكذلك” العقاب (يقوم المنع على إقناع الخصم بأنه سيتم إحباط هجومه، بينما ينطوي العقاب على إقناع الخصم بأنه سيتكبد تكاليف غير مقبولة).
وقد اعتمدت الولايات المتحدة بشكلٍ متزايدٍ على الردع من خلال المنع في السنوات الأخيرة لمواجهة أنشطة إيران الإقليمية المزعزِعة للاستقرار. فعززت الدفاعات الجوية والصاروخية في المنطقة، ونشرت وحدات بحرية لإقناع طهران بأنه سيتم تعطيل هجماتها وإحباط أهدافها. وفي المقابل، تجنبت عموماً تنفيذ الأنشطة العسكرية التي قد تكبّد إيران تكاليف، ولكن قد تُعتبَر تصعيدية. وعلى النقيض من ذلك، فإن إسرائيل معرّضة لخطرٍ أكبر بسبب قربها من إيران جغرافياً، ولذلك فهي تفضّل اللجوء إلى الردع من خلال العقاب من أجل تعطيل الأنشطة الإيرانية وفرض التكاليف.
وعلى الرغم من تفضيل واشنطن للردع من خلال المنع في مواجهة إيران، إلّا أن تجربة أمريكا الخاصة تُظهِر أن الاستراتيجية المتوازنة التي تمزج بين المنع والعقاب، لإحباط أنشطة إيران وتعريض أصولها الرئيسية للخطر أو تدميرها، هي وسيلة أكثر فعالية لردع الجمهورية الإسلامية واحتوائها.
المنع والعقاب: لمحة تاريخية
تملك الولايات المتحدة أكثر من أربعين عاماً من الخبرة في محاولة ردع إيران وتعطيل أنشطتها الإقليمية المزعزِعة للاستقرار. إلا أن هذه الجهود أسفرت عن نتائج متباينة، مما يسلّط الضوء على محدودية الردع من خلال المنع.
الحرب بالوكالة ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا (من عام 2003 إلى الوقت الحاضر). في السنوات الأخيرة، اعتمدت القوات الأمريكية في العراق وسوريا إلى حدٍ كبيرٍ على تدابير دفاعية مختلفة لتمكينها من إنجاز مهمتها في مواجهة الهجمات التي تشنها الميليشيات الموالية لإيران. وتشمل هذه الإجراءات بعض التدابير السلبية التي تهدف إلى حماية القوات، مثل تحصين المنشآت وتوزيع القوات، وقواعد الاشتباك التي تسمح للقوات بالرد عبر إطلاق النار عند التعرض للهجوم، والدفاعات الجوية والصاروخية الأرضية التي تعززها دوريات الطائرات المقاتلة الدفاعية. ولم تشن القوات الأمريكية عموماً غارات جوية هجومية إلا بعد مقتل أفراد أمريكيين أو جرحهم، أو بعد تجنّب الخطر الداهم، أو من أجل استباق الهجمات المخطط لها أو إحباطها.
لذلك، منذ بداية الحرب بين “حماس” وإسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، شن الوكلاء الموالون لإيران أكثر من 170 هجوماً بالطائرات المسيّرة والصواريخ ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا، في حين ردت الولايات المتحدة حوالي عشر مرات وضربت أهدافاً ازدادت أهميتها، إلى أن قُتل ثلاثة جنود أمريكيين في أعقاب هجوم بطائرة مسيّرة على موقع لوجستي في الأردن في أواخر كانون الثاني/يناير. ودفع ذلك الولايات المتحدة إلى شن غارة جوية كبيرة بشكلٍ غير مألوف على منشآت تابعة لوكلاء “الحرس الثوري الإسلامي الإيراني” في العراق وسوريا، فضلاً عن شن هجوم بطائرة مسيّرة على أحد كبار قادة الميليشيات في بغداد في أوائل شباط/فبراير، مما أدى إلى وقف الهجمات لاثني عشر أسبوعاً في العراق وسوريا قبل استئنافها في نهاية الأسبوع الثالث من نيسان/أبريل.
وفي عام 2019، في عهد إدارة ترامب، هاجمت ميليشيات موالية لإيران القوات الأمريكية في العراق نحو 25 مرة دون إثارة أي رد عسكري أمريكي. ثم تسارعت وتيرة الهجمات وازدادت حدتها إلى أن أسفرت عن مقتل مقاول عسكري أمريكي في أواخر كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام. وهكذا بدأت سلسلة من الأحداث التي بلغت ذروتها عندما قتلت غارة أمريكية بطائرة مسيّرة قائد “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإسلامي الإيراني” قاسم سليماني في كانون الثاني/يناير 2020. وبعد تنفيذ الانتقام بواسطة ضربة صاروخية إيرانية على القوات الأمريكية في “قاعدة عين الأسد الجوية” في العراق وسلسلة من الهجمات الصاروخية التي شنها وكلاء موالون لإيران، ساد الهدوء النسبي لعدة أشهر.
ويعكس ذلك تجربة الولايات المتحدة في العراق بين عامَي 2003 و2011، عندما كان “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإسلامي الإيراني” يسلّح ويدرّب ويموّل الميليشيات والجهات المتمردة العراقية التي قتلت أكثر من 600 جندي أمريكي. وسعت واشنطن إلى تعطيل جهود طهران مع تجنب التصعيد. فاعترضت القوات الأمريكية وقوات التحالف بانتظام شحنات الأسلحة الإيرانية، واعتقلت في النهاية عدداً من كبار عناصر “فيلق القدس” الذين تم إطلاق سراحهم لاحقاً. كما هددت الولايات المتحدة بهدوءٍ بالرد عسكرياً على الهجمات التي شنها وكلاء إيران على السفارة الأمريكية في بغداد في نيسان/أبريل 2008 وعلى القواعد الأمريكية في العراق في حزيران/يونيو 2011 (حيث قُتل خمسة عشر جندياً أمريكياً). وفي كلتا الحالتين، توقفت الهجمات بعد أن أصدرت الولايات المتحدة تحذيرات صارمة. ومع أن جهود الولايات المتحدة فشلت في وقف هجمات الوكلاء بشكلٍ كاملٍ، إلّا أن التهديد باستخدام القوة (عندما كان يُعتبَر ذا مصداقية) أحدث تأثيراً مفيداً، وإن كان مؤقتاً.
عمليات تغيير أعلام ناقلات النفط الخليجية (1987-1988). أثبتت الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة خلال الحرب العراقية الإيرانية للتصدي لهجمات القوارب الصغيرة الإيرانية عبر تغيير أعلام ناقلات النفط الكويتية ومرافقتها (“عملية الإرادة الجادة“) فعالية الردع من خلال المنع والعقاب. واعتقد المخططون العسكريون الأمريكيون في البداية أن وجود مجموعة حاملة الطائرات القتالية في المنطقة من شأنه أن يردع إيران، ولكن في القافلة الأولى، اصطدمت ناقلة أُعيد رفع علمها بلغم. واختارت الولايات المتحدة عدم الرد، مما زاد من جرأة إيران التي اعتمدت بعد ذلك إلى حدٍ كبيرٍ على استخدام الوسائل غير المباشرة (كالألغام البحرية وشن الهجمات على السفن غير المرافَقة) لمواصلة حرب الناقلات. ولم تتراجع طهران إلا بعد سلسلة من العمليات على سطح الماء (“عملية فرس النبي“) التي سمحت للقوات البحرية الأمريكية بإغراق عدد من السفن الحربية الإيرانية في نيسان/أبريل 1988. وهكذا أدى التدخل الأمريكي إلى ردع الهجمات المباشرة على الناقلات التي تم تغيير أعلامها، وأرغم إيران على الاعتماد على تكتيكات أقل فعالية. وساعد هذا التدخل، إلى جانب سلسلة الانتصارات الكاسحة العراقية براً، في إنهاء الحرب.
“الردع من خلال الكشف” – حرمان طهران من فوائد المفاجأة والإنكار المعقول. في بعض الأحيان، ترجئ طهران الهجمات أو تلغيها عندما يُظهِر خصومها علمهم المسبق بها. ففي أيار/مايو 2019، ألغت طهران هجوماً كانت قد خططت لتنفيذه باستخدام صواريخ مثبّتة على مراكب شراعية بعد الكشف عن الخطة لوسائل الإعلام، وبدلاً من ذلك شنت جماعة عراقية وكيلة هجوماً بصواريخ “كروز” على خط الأنابيب بين الشرق والغرب في المملكة العربية السعودية بعد عدة أيام. وعلى نحوٍ مماثلٍ، بعد أن أنشأت “القيادة المركزية الأمريكية” قوة أمنية بحرية متعددة الجنسيات في الخليج العربي في أيلول/سبتمبر 2019، انخفض عدد الهجمات على السفن بسرعة كبيرة، إذ حدّت زيادة المراقبة من إمكانية الإنكار المعقول. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2022، تم على ما يبدو إحباط هجوم مخطط له على البنية التحتية النفطية في السعودية بعد تنبيه القوات الأمريكية والسعودية وإبلاغ الصحافة بالمؤامرة. وبالتالي، يمكن ردع طهران في بعض الأحيان عندما تُحرَّم من فوائد المفاجأة والإنكار، لكن ضرورة التحرك قد تطغى على جميع الاعتبارات الأخرى عندما يكون الشرف والمصالح على المحك، كما حدث في 13 نيسان/أبريل.
باختصار، غالباً ما أدت محاولات الردع الأمريكية من خلال المنع إلى الردع من خلال العقاب، لأن ضبط النفس يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى زيادة جرأة طهران. ومن خلال ممارسة المنع والعقاب على حدٍ سواء، قد تتمكن واشنطن من ردع إيران واحتوائها بفعالية أكبر. ورغم أن الخوف من التصعيد أمر مفهوم، إلا أنه مبالغٌ فيه. فالمناوشات بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى قائمة منذ عقودٍ، لكنها لم تؤدّ إلى إشعال “حرب إقليمية شاملة”، كما أن التبادلات الأخيرة تشير إلى أن جميع الأطراف ما زالت مهتمة بتجنب توسيع رقعة الصراع.
نحو استراتيجية أكثر توازناً: المنع والعقاب
طهران هي خصم عازم يختبر الحدود بلا هوادة ويعمل على تقويض الخطوط الحمراء الخاصة بالخصم أو التحايل عليها. ورغم أنها قد تتراجع عندما يتم التعامل معها بحزمٍ، إلّا أنها غالباً ما تبحث عن وسائل بديلة لتحقيق أهدافها. لذلك، سوف تسمح استراتيجية الردع الناجحة بإرغام إيران على إبطاء وتيرة أعمالها وإضعاف فعاليتها. لكن استراتيجيات الردع التي تعتمد على المنع وحده تُمكّن قيادة طهران الحذِرة تقليدياً من تقييم المخاطر واحتساب التكاليف بشكلٍ أفضل، والمراهنة فقط على الأصول التي يمكنها التضحية بها. وبما أن المنع لا يفرض أي تكاليف، بإمكان طهران أن تلعب هذه اللعبة إلى أجلٍ غير مسمى.
اتّباع نهج أكثر استدامة. تخوض إيران منذ عقود صراعاً ضد الولايات المتحدة وحلفائها، ولم تُظهر أي علامات على انتهائه. ويسمح الردع من خلال المنع لطهران بتحديد شروط الاشتباك وفرض التكاليف على أعدائها والإفلات من العقاب. وبما أن الولايات المتحدة هي قوة عالمية لها التزامات على المستوى العالمي، فستواجه بشكلٍ دائمٍ قيوداً على الموارد وتحديات في التعامل مع كبار القادة في سعيها إلى مواصلة التركيز على إيران. لذلك، يتعيّن على واشنطن العمل مع إسرائيل والشركاء العرب لتنفيذ استراتيجية متوازنة تجمع بين المنع والعقاب، والاستفادة من قبول إسرائيل لدرجة أكبر من المخاطر من أجل تعزيز الأهداف المشتركة. ولكي تنجح مثل هذه الاستراتيجية، سيحتاج واضعو السياسات الأمريكيون إلى التغلب على حذرهم المضني وتجنب الإفصاح عن أنشطة إسرائيل التي لم تعترف بها هذه الأخيرة، وينبغي تشجيع واضعي السياسات العرب بشدة على مواصلة مشاركتهم في الهيكلية الإقليمية التي أنشأتها “القيادة المركزية الأمريكية” في مجال الدفاع الجوي والصاروخي، وسيحتاج واضعو السياسات الإسرائيليون إلى التصرف بحذرٍ أكبر لتجنب التحركات الاستفزازية التي قد تثير مخاوف الولايات المتحدة من التصعيد، وتقوّض دعمها لاعتماد استراتيجية أكثر تقبلاً للمخاطر في مجال الردع. وفي حين أن الردع من خلال العقاب سيتطلب أحياناً تنفيذ إجراءات علنية (مثل الغارة الجوية الإسرائيلية في 19 نيسان/أبريل)، إلّا أن العودة إلى أنشطة المنطقة الرمادية (مثل التخريب، أو الضربات الخفية، أو الهجمات العلنية غير المعترف بها، أو العمليات السيبرانية) قد تحد من احتمالات التصعيد.
العودة إلى المنطقة الرمادية. من خلال العمل في المنطقة الرمادية، ستتعامل الولايات المتحدة وإسرائيل مع طهران على الطريقة الإيرانية، مما يتيح لهما اختبار عتبات المخاطر والرد الإيرانية لمعرفة ما يمكنهما الإفلات من عواقبه، وتقويض الخطوط الحمراء الخاصة بالجمهورية الإسلامية والتحايل عليها (أنظر أدناه)، والتسبب بحالة من عدم اليقين في أذهان صنّاع القرار الإيرانيين حول كيفية الرد على الأحداث الغامضة (مثل الحوادث الصناعية التي قد تكون في الواقع أعمالاً تخريبية). كما سيتيح ذلك لهما مواجهة النظام الذي يزداد تقبّله للمخاطر في طهران والذي حاول من خلال هجوم 13 نيسان/أبريل فرض “معادلة جديدة” مع إسرائيل وفقاً لقائد “الحرس الثوري الإسلامي الإيراني” حسين سلامي، حيث سيؤدي “أي هجوم” على “الأشخاص أو الممتلكات أو المصالح” إلى “رد إيران بالمثل”. ويراقب خصوم الولايات المتحدة كيف ستتعامل مع تبعات ذلك الهجوم وقد يساهم استعداد واشنطن لاعتماد استراتيجية قائمة على المنع والعقاب، وإظهار درجة من الاستعداد لتحمّل المخاطر، في ثني إيران عن محاولة تجاوز العتبة النووية، وقد يكون له تأثير مفيد على الحسابات العسكرية الخاصة بالصين وروسيا وكوريا الشمالية في المستقبل.
مايكل آيزنشتات هو “زميل كان”، ومدير “برنامج الدراسات العسكرية والأمنية” في معهد واشنطن.