قبل نحو أسبوعين، زار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الفاتيكان حيث التقى أمين سر الدولة الكاردينال بيترو بارولين، في حضور أمين السر المكلف العلاقات مع الدول (بمثابة وزير الخارجية) ريتشار غالاغر. اللقاء الذي لم تتوقف عنده القوى الحزبية المسيحية، المشغولة بالموسم السياحي، جرى فيه بحث الوضع في لبنان، وأشار بعده عبد اللهيان إلى أن بلاده «أدّت دوراً مهماً في حماية المسيحيين في العراق وسوريا من إرهابيي داعش المجرمين بجهود الشهيد الفريق قاسم سليماني، وكان هذا الموضوع محل تقدير الفاتيكان»، بحسب الخارجية الإيرانية.
اللقاء جمع شخصيّتين من الكرسي الرسولي، لكل منهما نظرته الى الوضع في لبنان والمنطقة. غالاغر كان قد عبّر بوضوح، خلال زيارته للبنان في شباط الماضي، عن موقفه تجاه الحوار مع حزب الله والانفتاح عليه. فيما بارولين، وهو أعلى منه رتبة، ينتهج سياسة مختلفة – وإن بدبلوماسية – يعارض فيها تأثيرات فرنسا في الفاتيكان ومحاولاتها فرض إيقاع يختلف عن السياسة التقليدية للكرسي الرسولي تجاه لبنان ومسيحيي المنطقة. يسعى بارولين الى استعادة الزخم اللبناني التقليدي في دوائر فاتيكانية تحاول منذ مدة فرض خريطة طريق جديدة في التعامل مع كنيسة لبنان المارونية ومسيحيي لبنان، في وقت تكثر فيه الشكاوى والاعتراضات عليهم من دون أي حملة مضادة لتطويق تحرك غالاغر. وبارولين معروف بانحيازه الى لبنان العيش المشترك، وإلى اتفاق الطائف، وهو يعدّ أقرب الى خط البطريرك مار نصر الله بطرس صفير. لكن أحداً من الداخل لم يلاقه في سعيه هذا.

في مرحلة حسّاسة يغادر فيها السفير البابوي المونسنيور جوزف سبتيري، الذي عُرف باطّلاعه الدقيق على مجريات الوضع الداخلي وخطورة تطوراته، الى المكسيك بعد انتهاء مهامه في بيروت، يمكن التوقف عند سلسلة إشارات حول غياب الموقف الفاتيكاني من التطورات الأخيرة، ومن التحرك الذي يقوم به البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، ما يطرح مجموعة تساؤلات حول ما يدور في أروقة بكركي على إيقاع قضايا متقدمة أكثر أهمية من قضية المطران الحاج، رغم أهميتها المركزية.
منذ زيارة غالاغر، تعيش بكركي والقوى المسيحية حالة إنكار. ومنذ أن أطلق الراعي مبادرته حول الحياد والمؤتمر الدولي واصطدامها بحائط مسدود، بدا أن ثمة جموداً يحيط بحركته، وهو الذي يعرف تماماً أن الفاتيكان لا يتفق معه في مبادرته، ولم يتمكن أحد من بكركي والمحيطين بها من خرق الفاتيكان والجمود المتعلق بالوضع الداخلي والعلاقة مع حزب الله. جاءت قضية الحاج لتعطي البطريرك الماروني فرصة ليستعيد زمام الأمور والمبادرة داخل بكركي وخارجها، ويوجّه رسائله الداخلية والخارجية، مع أن السؤال المركزي: كيف يمكن تحويل موقفه الى مرحلة أكثر حضوراً، وإلى أيّ مدى يمكن أن ينجح في إعادة الاستقطاب حوله وهناك من ينتظره على أكثر من مفترق؟

من المعروف أن مواقف الراعي لدى انتخابه لم تجد صدى إيجابياً لدى معظم القوى المسيحية من 14 آذار، لا بل أُخذ عليه تماهيه مع حزب الله والتيار الوطني الحر. وكنسياً، أحاط نفسه بمجموعة من المطارنة – منهم من رسمهم أساقفة ومنهم من كانوا أساقفة وأعطاهم مناصب متقدمة – أقرب الى خط الثامن من آذار، وهذا ليس سراً. تدريجاً، تطوّر موقفه ضد العهد وحزب الله، وفي الوقت نفسه كثرت الطموحات لخلافته، وهو يعرف أن تقارير أُرسلت الى الفاتيكان، وأن مطارنة معروفين يعدّون العدّة لخلافته. وتزامن تطور الوضع في بكركي وخارجها مع تغير النظرة الفاتيكانية الى الكنيسة المارونية ودورها بفعل تأثيرات دوائر باتت معروفة الاتجاهات السياسية.
لذا، لا يمكن عزل ما قام به الراعي عن مسار داخلي يوجّه من خلاله جملة رسائل. ففي اللحظة الأولى لانعقاد المجمع الدائم للأساقفة، بدا أن جوّ بعض المشاركين يحبّذ إجراء تسوية. لكن المفارقة التي يتوقف عندها مطّلعون أن الراعي ظهر حاسماً وغير مستعد للتراجع عن موقفه التصعيدي، ومجرد استعارته موقف سلفه الراحل البطريرك صفير، يعني اتخاذه خطوة متقدمة سياسية، رغم أن البعض أخذ عليه حصر القضية بموضوع القاضي فادي عقيقي وحده. وفيما الكلام يدور عن تسوية تحضّر بعيداً عن الجو الضاغط، إلا أن الراعي كان لا يزال مصرّاً على خوض المعركة من الزاوية السياسية وليس فقط القضائية. يريد الراعي توجيه رسائله الى بعض المحيطين به وبعض الأساقفة الذين يعرف جيداً الأدوار التي يؤدّونها، علماً بأنّ جواً كنسياً ورهبانياً، ولا سيما الرهبانيات التي تؤيّد العهد، لم يكن حاضراً بقوة، لا في التحركات ولا الاستنكار ولا في دعم المطران الحاج. يريد الراعي القبض على إدارة الجو الكنسي وأن تكون له الكلمة الأخيرة كبطريرك، سواء في ما يتعلق بملفات الكنيسة أو في الشأن السياسي.

وهنا يتحوّل الملف الرئاسي إلى واحد من ملفات يريد الراعي أن تكون بكركي رأس حربة فيها. وهو لا يزال متمسكاً بالدور الذي أدّاه في جمع القيادات المارونية الأربع ووضع مواصفات الرئيس القوي. وفي صياغته الجديدة لدوره، بعد تحديده أخيراً مواصفات الرئيس، يحاول الإفادة من الوقت الضائع مسيحياً ومارونياً للتقدم رئاسياً. ويوجّه رسالة الى الفاتيكان وفرنسا التي تحاول التأثير في الكرسي الرسولي في ملف الرئاسة أو في خلق أدوار رديفة في الداخل، بأنه موجود، وبقوّة، بعد سعي الى تحييده. ولأن ثمة أجواء تتحدث عن باب مفتوح للتسوية في الرئاسيات، يحاول حفظ موقعه، على غرار موقع بكركي السابق، ولا سيما مع الكلام عن احتمالات حوار سعودي – إيراني. وهنا يصبح دوره أكثر تقدماً في موازاة القوى المسيحية. لكن، مرة أخرى، كيف يمكن لهذه القوى أن تتخلى عن دورها في وقت بدأت فيه تدوير الزوايا. إذ بخلاف الاعتقاد السائد، فإن هذه القوى – رغم النبرة العالية – ظلّت حركتها مدروسة في توجيه معركة التضامن مع بكركي، وكل من يعلم كيفية صياغة هذه التحركات، يعرف أن ما حصل مرسوم بدقة، كما اختيار عنوان المعركة. وفيما يحاول الراعي حجز مكان له في المشهد الرئاسي، تتصرف القوى السياسية على قاعدة «ما لقيصر لقيصر وما لله لله». فإذا كان باب التسويات مفتوحاً، فإن للقوى السياسية دورها في أثمان التسويات. وإذا كانت المواجهة حتمية، فإن هذه القوى هي التي يفترض أن تتصدّر المشهد وتفرض شروطها. في حين أن الراعي يريد قلب الآية، فتكون لبكركي اليوم صدارة المشهد والكلمة الفصل لها، مع رسم أسئلة عن إمكان نجاحه وسط كمّ من الاستحقاقات التي تحيط به وبالرئاسيات.