كيف أسهمت “الحبة السحرية” في تحرير المرأة لكن حملتها المسؤولية وحدها
في التاسع من مايو/أيار عام 1960، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على الاستخدام التجاري لأول أقراص لمنع الحمل في العالم. وقد أثارت تلك الأقراص جدلا أخلاقيا يتعلق بالتجارب التي أجريت على النساء، وطُرح الكثير من التساؤلات – ولا يزال – حول سلامتها والآثار الجانبية المحتملة لتناولها. كما أنها لاقت ترحيبا لاعتبارها أسهمت في تحرير المرأة، ثم استهجانا لاعتبارها إحدى وسائل قمعها والتحكم فيها.
وسيلة آمنة وسهلة الاستخدام
كانت الممرضة الأمريكية مارغريت سانغر (1879-1966) هي أول من استخدم عبارة “birth control” التي تعني تنظيم النسل أو تحديده. تعتبر سانغر من الرائدات في مجال التربية الجنسية وتنظيم الأسرة، حيث كتبت العديد من المقالات في هذا الشأن، ثم افتتحت أول عيادة لتنظيم النسل في الولايات المتحدة عام 1916، ما أدى إلى اعتقالها وصدور حكم بالسجن ضدها.
كانت سانغر واحدة من بين 11طفلا لأسرة فقيرة من الطبقة العاملة، وتعرضت والدتها للإجهاض التلقائي سبع مرات. وعزت مارغريت تدهور الحالة الصحية لوالدتها ووفاتها وهي في الخمسين من عمرها إلى عدم قدرتها على السيطرة على حملها المتكرر. وربما كان ذلك من الأسباب التي حفزت مارغريت على الاهتمام بمجال تنظيم النسل والصحة الجنسية والإنجابية.
من خلال عملها، شاهدت سانغر على مدى عقود كيف عدم توفر وسائل منع الحمل لشريحة كبيرة من النساء أضر بصحة الكثير منهن، لا سيما أولئك اللاتي كن يعانين من الفقر والحرمان. وكانت تحلم بوسيلة منع حمل رخيصة وآمنة تستطيع أي سيدة في أي مكان من العالم أن تستخدمها بسهولة ويسر.
حبة تبتلعها المرأة يوميا كانت تشكل بديلا مثاليا للوسائل الموضعية التي كانت تستخدم آنذاك، كالواقي الأنثوي (الدايافرام) والرغاوي القاتلة للحيوانات المنوية، والتي كانت سانغر ترى أنها شديدة التعقيد بالنسبة لساكنات الأحياء الفقيرة أو المعاقات ذهنيا. كانت تأمل أن تؤدي تلك الأقراص إلى توقف النساء عن اللجوء إلى التعقيم، وتفصل بين ممارسة الجنس والتكاثر، وتحرر المرأة من سيطرة الطب والمجتمع.
في بداية خمسينيات القرن الماضي، حصلت سانغر على منحة من صديقتها الثرية ناشطة حقوق المرأة كاثرين دكستر ماكورميك لتمويل أبحاث تهدف إلى ابتكار وسائل منع حمل هرمونية. أعطت سانغر المنحة لفريق بحثي بقيادة عالم الأحياء التجريبية غريغوري بنكاس الذي كان يعمل في مختبر بولاية ماساشوسيتس، حيث بدأ في تطوير حبة تحتوي على هرمون البروجيستين الاصطناعي، الذي يحاكي هرمون البروجسترون الذي ينتجه جسم المرأة في أعقاب عملية الإباضة.
استعان بنكاس بطبيب أمراض النساء جون روك لإجراء دراسة إكلينيكية صغيرة على مريضاته اللاتي لا يستطعن الإنجاب لمعرفة ما إذا كانت تلك الحبة ستتسبب لهن في “حمل كاذب”. اضطر بنكاس وروك إلى إجراء تجاربهما بشكل غير معلن، نظرا لأن توزيع وسائل منع الحمل وإجراء أبحاث عليها كانا لا يزالان يعتبران جريمة بموجب ما كان يعرف بقوانين كومستوك.
ولكن إدارة الغذاء والدواء لم تكن لتوافق على استخدام تلك الأقراص إلا إذا أجريت تجارب إكلينيكية واسعة النطاق على النساء، ولذا كان على روك وبنكاس التغلب على العقبات القانونية بينما يستوفيان شروط الإدارة في الوقت ذاته.
بيئة مثالية
أجريت أول تجربة واسعة النطاق على أقراص “إنوفيد” (Enovid) عام 1956في إقليم جزيرة بورتوريكو التابع للولايات المتحدة.
وفقا للعديد من مراجع التاريخ الطبي، كانت بورتوريكو تشكل البيئة المثالية لمثل تلك التجارب، إذ كانت واحدة من بين أعلى مناطق العالم كثافة سكانية وأكثرها فقرا، وكان الكثير من النساء هناك بحاجة ماسة إلى وسائل منع حمل آمنة، وكن يلجأن في كثير من الأحيان إلى التعقيم.
أُخبرت المشاركات بأنهن سيجربن دواء جديدا مجانيا يعمل على الحيلولة دون إنجابهن أطفالا ليس باستطاعتهن إعالتهم. وكان يحق لأي سيدة متزوجة لا يتجاوز عمرها 40 عاما وتعيش مع زوجها ولديها على الأقل طفلان المشاركة في التجربة.
بعد مرور نحو 50 عاما على تلك التجربة، صرحت إحدى المشاركات، وتدعى ديليا ميستري، بأنه لم يتم إخبارها هي ومئات النساء الأخريات بأنهن كن “فئران تجارب”، أو بالأعراض الجانبية المحتملة لتلك “الحبة السحرية”.
وفي كتابها “Unwell Women: A Journey Through Medicine and Myth in a Man-Made World”، تقول إلينور كليغهورن إن التقرير الذي كتبته الدكتورة إدريس رايس-راي، مديرة رابطة تنظيم الأسرة في بورتوريكو والتي كانت مسؤولة عن إجراء التجربة، كشف أن 17 في المئة من المشاركات أصبن بأعراض جانبية شملت الغثيان والدوار ومشكلات في الجهاز الهضمي والنزيف والقيء والصداع. ولكن بنكاس وروك، بحسب كليغهورن، قللا من شأن تلك الأعراض واعتبراها ناتجة عن “النشاط العاطفي الزائد” لنساء بورتوريكو. وتضيف: “لقد كانا معنيان فقط بما إذا كانت إينوفيد تمنع الحمل أم لا”.
تقول ميستري: “التجارب كانت جيدة وسيئة في الوقت ذاته. لماذا لم يتركونا نتخذ بعض القرارات بأنفسنا؟”
عندما أضيف “ميسترانول”، وهو تركيبة مصنعة شبيهة بهرمون الإستروجين الطبيعي، إلى المكونات عام 1957، كانت أقراص إينوفيد تحتوي على ما يعادل ثلاثة أضعاف كمية هرمون البروجستين الموجودة في حبوب منع الحمل المركبة في الوقت الحالي.
تحدث العديد من المؤرخين عن أن التجارب التي أجريت لاختبار أقراص منع الحمل على نساء بورتوريكو كانت مدفوعة بأيديولوجية عنصرية هي “اليوجينيا”، أو دراسة التحكم في النسل بهدف “تحسينه” (والتي استخدمها النازيون فيما بعد لتبرير معاملتهم لليهود وذوي الإعاقات وغيرهم من الأقليات)، وأنها كانت جزءا من الاستغلال التاريخي لنساء أمريكا اللاتينية لتحقيق تقدم في الطب وغيره من المجالات في الولايات المتحدة.
تقول كليغهورن إن “المخاوف العنصرية من الاكتظاظ السكاني أدت إلى التدخل في خيارات نساء بورتوريكو وحريتهن الإنجابية منذ نهاية الثلاثينيات، حيث سمح باستخدام وسائل منع الحمل هناك، وصدرت قوانين تسمح بتعقيم النساء…بحلول عام 1970، كان قد تم تعقيم حوالي ثلث نساء بورتو ريكو، وكان ذلك يحدث في كثير من الحالات بدون علمهن أو موافقتهن الصريحة”.
آثار جانبية
بحلول عام 1961، وبعد عام من إصدار إدارة الغذاء والدواء تصريحاً باستخدام إينوفيد، أثير العديد من المخاوف المتعلقة بسلامة “الحبة السحرية”، إذ كان هناك الكثير من التقارير في المجلات الطبية التي تحدثت عن عدة آثار جانبية تتركز بالأساس حول حدوث جلطات في الدم. وفي عام 1963، توفيت 30 امرأة ممن تعاطين إينوفيد.
تواصلت التجارب في بورتوريكو حتى عام 1964، حيث كان بنكاس وأعضاء فريقه يعملون على تنقيح أقراص إينوفيد وتجويدها من خلال اختبارها على نساء كن بحاجة ماسة إلى وسيلة لمنع الحمل بسبب أوضاعهن الاقتصادية الصعبة، ولذا احتملن الأعراض الجانبية لتلك الأٌقراص، التي شملت كذلك الاكتئاب وآلاما مختلفة في الجسم وانخفاض الرغبة الجنسية.
في عام 1964، اضطرت الشركة المنتجة لإينوفيد إلى إرفاق نشرة تحذيرية بعبواتها تحدثت عن “حدوث عرضي” لتجلطات في الأوردة وانسدادات رئوية”، ولكنها أضافت أنه “لم يتم إثبات علاقة سببية بين تلك المشكلات الصحية وتناول إينوفيد”.
بحلول السبعينيات، كانت هناك تقارير تربط بين أقراص منع الحمل وحدوث سكتات دماغية ونوبات قلبية وجلطات دموية مميتة، ما أدى إلى عقد سلسلة من جلسات الاستماع في الكونغرس الأمريكي.
“الحبة السحرية” وتحرير المرأة
في خمسينيات القرن الماضي، كانت رائدات تحرير المرأة في الولايات المتحدة يعارضن تجريم وسائل منع الحمل، إذ كان عدد النساء اللائي يعملن بأجور زهيدة في وظائف كالتدريس والتمريض والسكرتارية، وكعاملات في المصانع في تزايد مستمر، وكان تنظيم النسل يساعدهن على تأجيل الحمل ريثما ينتهين من دراستهن أو يثبتن أقدامهن في مجال العمل.
ومن ثم رحبت تلك النسوة بأقراص منع الحمل، التي رأين فيها وسيلة فعالة لتحرير المرأة. ولما كانت النساء هن من يتحملن عبء الحمل ورعاية الأطفال، ارتأت ناشطات نسويات كمارغريت سانغر وكاثرين ماكورميك وغيرهما أنه يجب أن تكون هناك وسيلة منع حمل تتحكم فيها المرأة وحدها.
كما فجرت تلك الأقراص ما يطلق عليه البعض “ثورة جنسية” للنساء، إذ صار بإمكانهن ممارسة الجنس – سواء في إطار الزواج أو خارجه – من دون الخوف من أن يؤدي ذلك إلى حملهن.
بيد أن جلسات استماع الكونغرس في السبعينيات لفتت الانتباه إلى المخاطر المحتملة لأقراص منع الحمل، وصارت الناشطات النسويات ينظرن إليها بوصفها مثالا آخر على سيطرة المجتمع الأبوي على المرأة، ووُجهت اتهامات لشركات الأدوية بإخفاء المعلومات عن تلك المخاطر.
أصبح شعور النساء بخيبة أمل إزاء “الحبة السحرية” جزءا من الانتقادات النسوية للمجتمع الأمريكي، وبدأت النساء يتساءلن: لماذا يسيطر الرجال على مهنة الطب وصناعة الأدوية؟ لماذا يجب أن يكون تنظيم النسل مسؤولية المرأة؟ ولماذا لا يتم ابتكار أقراص لمنع الحمل يتناولها الرجال؟
حبوب منع حمل للرجل؟
السؤال الأخير لا يزال يُطرح ويثير جدلا إلى يومنا هذا. لقد تم دراسة إمكانية إنتاج أقراص منع حمل للرجل على مدى عقود. ولكن الباحثين في هذا المجال يواجهون مشكلات من بينها نقص التمويل، فضلا عن أن عملية تثبيط خصوبة الرجل التي تستهدف هرمون التستوستيرون معقدة، كما أنها قد تتسبب وفق الأطباء في زيادة الوزن والاكتئاب ورفع نسبة الكوليسترول. وأشار تقرير لمنظمة الصحة العالمية عام 1980 حول إمكانية قبول حبوب منع حمل للرجال إلى مخاوف من أن تؤثر سلبا على “مشاعر” الرجل و”سلوكه”، فضلا عن “رغبته الجنسية”، وهو شيء تعتبره غالبية الثقافات ذا قيمة كبيرة وجزءا من صحة الرجل بشكل عام.
في وقت سابق من العام الحالي، أعلن فريق من الباحثين في جامعة مينيسوتا إمكانية بدء تجارب بشرية على حبوب منع حمل غير هرمونية للرجال في يوليو/ تموز القادم على أقرب الاحتمالات، بعد نجاحها في منع الحمل بنسبة 99 في المئة خلال تجربتها على الفئران. ويقول أحد المشاركين في ابتكار تلك الأقراص إنهم لم يستخدموا أي هرمونات في صنعها لتفادي الآثار الجانبية المحتملة.
بعد مرور أكثر من ستين عاما على بدء استخدام أقراص منع الحمل، ووجود أربعة أجيال مختلفة منها، لا تزال هناك قائمة طويلة من الأعراض الجانبية المحتملة لتناولها – بعضها “خفيف” كالدوار والصداع والإفرازات المهبلية والتقلبات المزاجية، وبعضها خطير كالجلطات وارتفاع ضغط الدم وزيادة خطورة الإصابة بسرطان الثدي وسرطان عنق الرحم عند استخدام الأقراص لفترة طويلة. ورغم تأكيد غالبية الأطباء أن تلك الأعراض الخطيرة نادرة الحدوث، وأن استخدام تلك الأقراص لا يزال آمنا، إلا أن هناك من يطالب بالمزيد من الدراسات للوصول إلى فهم أعمق لآثارها المتعددة التي تتفاوت من امرأة لأخرى.
اعتبرت أقراص منع الحمل منذ البداية وسيلة تمكن المرأة من التحكم في جسدها وصحتها الإنجابية. لكن ذلك كان يعني أيضا، وفقا لإلينور كليغهورن، أن “التكلفة – جسدية كانت أم عقلية – تظل بمثابة أعباء تتحملها المرأة وحدها. وفي ثقافة طبية تغض الطرف عن المخاوف الصحية التي تثيرها النساء إزاء تعاطي تلك الأقراص وتقلل من شأنها، من الأسهل بمكان جعل المرأة تواصل تحمل هذه الأعباء”.
ولكن مع الإعلان عن ابتكار أقراص منع حمل ذكورية واعدة، هل سيتحمل الرجال نصيبا أكبر من تلك الأعباء؟
سمية نصر
بي بي سي نيوز
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع