استنفار دولي لمواجهة الاستراتيجية الترامبية..
محمد السماك – أساس ميديا
وصل التراجع الأميركي خلال رئاسة دونالد ترامب إلى حدّ الانكفاء عن العالم والتقوقع على الذات، إلى أن جاء الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض وأعاد التوازن إلى العلاقات المضطربة داخل المجتمع الأميركي، وإلى علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الدوليين. وقد ساعدته على ذلك خارجيّاً الحرب في أوكرانيا، وساعدته في الداخل الفضائح الماليّة لسلفه.
حجم الإضطراب الإجتماعي ـ العنصري راح يتعاظم داخل الولايات المتحدة الأميركية خلال عهد ترامب. وقد تجلى ذلك في تصدعات إجتماعية ومن طبيعة عنصرية تتصل بحجم ونوع التعدد الذي يتشكل منه الإجتماع الأميركي.
قبل ايام رفعت المدعية العامة لولاية نيويورك، ليتيتيا جيمس دعوى قضائية ضد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وثلاثة من أبنائه، والمديرين التنفيذيين في شركته بالتلاعب الصارخ في تقييمات العقارات لخداع المقرضين ووسطاء التأمين والسلطات الضريبية لمنحهم معدلات أفضل على القروض المصرفية والتأمين.
ماذا يعني أن تتّهم سيّدة سوداء (تتحدّر من أصول إفريقية وكانت عائلتها مستعبَدة في الولايات المتحدة) الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وأسرته وحاشيته بالفساد والتزوير والتهرّب الضريبي؟
تشغل هذه السيّدة منصب مدّعي عامّ نيويورك، المدينة التي تمثّل المركز الماليّ الأميركي الأوّل في العالم، والتي تتركّز فيها أعمال ترامب، إذ يوجد العديد من المؤسّسات والشركات التابعة له ولأفراد أسرته. والأميركيون السود في المدينة، ومنهم عائلة المدّعي العامّ، هم من الذين هربوا من الاستعباد في الولايات الأميركية الجنوبية ولجأوا إلى نيويورك وواشنطن حيث كانت ظروف الاستعباد أخفّ وطأة وأقلّ ظلماً.
الآن تقف سيّدة من أحفاد هؤلاء المهاجرين المستعبَدين لتوجّه أخطر اتّهام إلى زعيم الحركة العنصرية البيضاء دونالد ترامب.
الصراع العنصري ـ الاجتماعي في الولايات المتحدة
قبل أن يُصدر صموئيل هانتنغتون كتابه الشهير عن صراع الحضارات في العالم، صدر له كتاب أقلّ شهرة عن الصراع العنصري الاجتماعي داخل الولايات المتحدة. وفيه حذّر هانتنغتون من خطر الانجرار إلى حرب أهليّة أميركية جديدة على خلفيّة عنصرية – دينية. ذلك أنّ معظم الهيسبانيك المتحدّرين من المهاجرين من دول أميركا الجنوبية والوسطى هم من الكاثوليك، ومعظم الإنجيليّين المتشدّدين هم من البيض. ولم تعرف الولايات المتحدة منذ قيامها حتى اليوم سوى رئيسين كاثوليكيَّين فقط، هما جون كينيدي والرئيس الحالي جو بايدن (عائلته مهاجرة من إيرلندة).
وبخلاف الرئيس السابق ترامب انفتح بايدن على الملوّنين، فنائبة الرئيس كامالا هاريس تتحدّر من أصول هندية، ووزير الدفاع أسود البشرة، ومندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة سيّدة سوداء أيضاً، والمتحدّثة باسم البيت الأبيض على مثال الإثنين . وهذه مظاهر جديدة في المجتمع الأميركي لا يهضمها ترامب والمجتمع المتشدّد المؤيّد له.
يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد الدكتور جوزف ناي في كتاب له عنوانه: “هل انتهى العصر الأميركي؟”، إنّ الولايات المتحدة لم تعرف في تاريخها رئيساً مثل الرئيس دونالد ترامب. فمنذ أن تبوّأ السلطة بدأ زعماء وقادة العالم يُعيدون النظر في علاقات دولهم وتحالفاتها بسبب الرئيس ترامب الذي وضع الولايات المتحدة في كفّة، والمجتمع الدولي كلّه في كفّة ثانية. فعلى قاعدة “أميركا أوّلاً”، الشعار الذي رفعه ترامب ولا يزال، تأسّست مواقفه السلبيّة من العديد من المواثيق والمعاهدات الدولية، ومنها:
– حلف شمال الأطلسي.
– الاتحاد الأوروبي.
– معاهدة باريس المتعلّقة بالبيئة.
– معاهدة التجارة العالمية.
– نافتا (العلاقات التجارية مع المكسيك وكندا) وسواها.
– القضية الفلسطينية والقرارات الدولية التي تتعلّق بها.
الترامبية استراتيجية
لقد أدرك العالم أنّ “الترامبيّة” ليست مجرّد توجّه سياسي، بل هي استراتيجية حتى إشعار آخر. وهي استراتيجية تشمل الداخل والخارج على حدّ سواء. صحيح أنّه نشأت معارضة لترامب في الداخل، لكنّه لم يكن يأبه لها ولم يُعِرها أدنى اهتمام، إلى أن فشل اقتحام الكونغرس، ثمّ تمّ الكشف عن فضائحه الماليّة عن طريق مدّعي عامّ نيويورك.
من هنا بادرت الدول الكبرى الى إعادة النظر في علاقاتها مع واشنطن على أساس هذا الواقع الجديد. وهي مضطرّة الآن إلى إعادة النظر مرّة ثانية في ضوء المبادرات الانقلابية التي قام بها الرئيس جو بايدن منذ اليوم الأوّل لدخوله البيت الأبيض، والتي تتجسّد حالياً في استنفار دول حلف شمال الأطلسي من جديد لمواجهة الهجوم الروسي على أوكرانيا.
انطلقت إعادة النظر في المرّتين الأولى والثانية من إدراك الحقيقة المهمّة التالية: إنّ للولايات المتحدة من القوّة الذاتية ومن النفوذ الدولي ما يجعلها حجر الزاوية في كلّ نظام عالمي. فهي مثلاً تنفق على التسلّح أكثر ممّا تنفقه أكبر سبع دول تليها مباشرة، ومن بينها روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا. وهي تنتج وحدها ما نسبته 23 في المئة من الدخل العالمي، وعملتها (الدولار) هي العملة الأقوى ومعتمدة دوليّاً حتى في روسيا والصين.
“أميركا أولاً” كمبدأ سياسي
في الداخل الأميركي حاول الرئيس ترامب تحويل شعار “أميركا أوّلاً” من شعار انتخابي ترويجيّ إلى مبدأ سياسي تقوم عليه السياسة الأميركية في علاقاتها مع ذاتها ومع العالم.
من أجل ذلك قامت عشر حركات سياسية – اقتصادية دولية لمواجهته دفاعاً عن الذات.
ومن أبرز هذه الحركات (أو المنظّمات):
– منظّمة “الديمقراطيون العشرة”، ويُرمز إليها بـ D10. وتضمّ مفكّرين سياسيين واستراتيجيين من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية.
لقد سبق للرئيس ترامب أن وصف أوروبا بـ”العدوّ”. وردّ عليه يومئذٍ رئيس الاتحاد الأوروبي بالقول: “مع صديق من هذا النوع.. لا نحتاج إلى أعداء”.
– منظّمة “مبادرة النظام الديمقراطي” التي انطلقت من برلين في شهر حزيران من عام 2018، وضمّت شخصيّات مثل مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة وستيفن هادلي المستشار الأمني للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وكارل بيلد رئيس حكومة السويد السابق، ويوريكو كاواغوشي وزير خارجية اليابان السابق.
وأعلنت أنّ مهمّتها هي العمل على نطاق دولي مع الحكومات والبرلمانات ومنظّمات المجتمع المدني من أجل توعية الرأي العام لمخاطر تمثّلها المتغيّرات اللاديمقراطية للرئيس ترامب التي تنسف قواعد النظام العالمي الراهن.
– منظّمة “التحالف الديمقراطي“، وهدفها تعزيز قواعد الديمقراطية في العالم.
– “منتدى باريس للسلام“، الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وضمّ ممثّلين عن الحكومات ومنظّمات المجتمع المدني لبحث القضايا العالمية في ضوء المتغيّرات الترامبيّة. وكانت مبادرة ضدّ الشعبوية الأميركية والأوروبية معاً، تسعى إلى الإبقاء على التفاهمات الدولية بمعزل عن الانكفاء الأميركي.
ترافق هذا مع نشوء حركات داخل المجتمع الأميركي ذاته، خاصة من المتحدّرين من أصول إفريقية (السود)، ومن أصول أميركية جنوبية (هيسبانيك)، لمواجهة حركات التطرّف لدى البيض (نموذج اجتياح مبنى الكونغرس).