المحروقات… إستحقاق خطر اجتماعياً قد يُطيح فعالية حكومة ميقاتي التي تأخذ الثقة اليوم «إسرائيل» تختار شركة أميركية للقيام بحملة حفر في البحر… ولبنان غارق في أزماته هل من تداعيات مُباشرة على الوضع اللبناني جرّاء ملف الغواصات الأوسترالية؟
جاسم عجاقة-الديار
على الرغم من رفع الدعم عن المازوت وتسعيره بالدولار الأميركي (خلافًا للقوانين)، ما تزال الأزمة تعصف بالمواطن اللبناني الذي أصبح رهينة عصابات تفرض عليه الدفع بالدولار الأميركي بحجّة وجود دولارات في منازل المواطنين. الأمر نفسه ينطبق على البنزين الذي أصبح سعره اليوم رهينة ثلاثة عوامل: سعر النفط العالمي، سعر الدولار في السوق السوداء، وجعالة التجار (المُسعّرة بالدولار الأميركي). وعلى الرغم من رفع الدعم عن البنزين (شبه كليًا)، لا تزال طوابير السيارات ممتدّة أمام محطات الوقود في مشهد ذلّ تعوّده المواطن اللبناني، لا بل أكثر من ذلك فقد أصبح الحصول على كمية من البنزين يُشكل تعويضًا لهذا الذلّ!
الإستحقاقات القادمة في ما يخصّ المحروقات عديدة وعلى رأسها بدء فصل الشتاء الذي يزيد من الطلب على المحروقات للتدفئة، ووسائل النقل للمدارس، والمستشفيات والمرافق العامة مثل محطات ضخ المياه ومحطات البث التلفوني (سنترالات) والمعامل والمولدات الكهربائية في ظل غياب الكهرباء من مؤسسة كهرباء لبنان.
رفع الدعم في ظل استمرار الاحتكار والتهريب هو خيار بين اثنين أحدهما أمرّ من الآخر. فعدم رفع الدعم يؤدي إلى هروب الدولارات إلى الخارج وحرمان اللبنانيين من المحروقات، في حين أن رفع الدعم يرفع الكلفة على المواطن من دون حلّ مشكلة التهريب (تضخّم ضمني سيشمل كل السلع والبضائع والخدمات). وباعتقادنا، حتى ولو تم رفع الدعم بالكامل، فإن مشكلة الاحتكار والتهريب ستستمر نظرًا إلى أن لبنان هو منصة لوجيستية لاستيراد المحروقات للسوق السوري بحكم فرض عقوبات على المصارف السورية، وهو ما يمنعها من القدرة على فتح اعتمادات. وللتذكير، فإن الفارق بين التجارة مع سوريا والتهريب إلى سوريا يقف عند مصدر الدولار، فإذا كان مصدر الدولارات هو سوريا، يُسمى تصدير المحروقات إلى سوريا تجارة. أما إذا كان المصدر مصرف لبنان، فيسمّى في هذه الحالة بالتهريب.
ويبقى السؤال الجوهري: ما هو الحلّ لهذه المشكلة؟ الجواب أصبح معروفًا لدى الجميع، لكن الظاهر أن الإرادة السياسية لأخذ القرارات المناسبة ليست موجودة! فالمطلوب ضرب السوق السوداء خصوصًا السوق الافتراضي للدولار الذي حوّله التجّار إلى سوق فعلي (بالممارسة)، ومكافحة الاحتكار والتهريب. وعلى هذا الصعيد أظهرت المداهمات التي قام بها الجيش اللبناني والقوى الأمنية أن الكميات المحتكرة هي كميات هائلة كافية لسد حاجة السوق المحلّي.
هذا القرار، مع تشابك المصالح الكبير بين القيمين على القطاع وأصحاب النفوذ، هو قرار صعب وليس من السهل أخذه، والدليل على ذلك أنه لم يؤخذ حتى الساعة على الرغم من المآسي التي مرّ بها المواطن. من هذا المنطلق، نرى أن حكومة الرئيس ميقاتي موضوعة أمام امتحان كبير. وبالتالي وفي ظلّ غياب حلول أخرى فعّالة (حل رفع الدعم وحده ليس بحلٍ فعال، إذ لا بد أن يكون مصحوبًا بإجراءات
أخرى وأن يكون ضمن خطة شاملة لا على طريقة – بالحبة – )، ستجد حكومة الرئيس ميقاتي، التي ستأخذ ثقة المجلس اليوم مع توقّعات بأكثر من 90 صوتًا، نفسها أمام مأزق قد يحدّ من فعاليتها الإصلاحية.
والسؤال الذي بدأ يطرح نفسه بقوة منذ 17 تشرين: هل يكفي الحكومة ثقة مجلس النواب للنجاح، ولا سيما أنها منبثقة من رحم هذا المجلس؟ أم باتت بحاجة إلى مقاربة أخرى لكسب ثقة من قد تطرق أبوابهم بحجة مساعدة وتأمين حاجيات من لا يثقون بها؟
ماذا عن النفط الإيراني؟ هذا الموضوع بالطبع هو موضوع أكبر من الحكومة التي من المستبعد أن يُطرح على جدول أعمالها نظرًا إلى النتائج الكارثية عليها بغض النظر عن القرار الذي قد يُتخذ. من هذا المنطلق، أخذ الرئيس ميقاتي موقفًا يُرضي جميع الأطراف وهو استنكار دخول النفط بحجة خرق السيادة من دون انغماس الحكومة في هذا المستنقع الممتلىء بالألغام. هذا في الداخل قد يكون مفهومًا، ولكن ما نظرة الخارج لحكومة تستنكر أمراً واقعاً؟
الجدير ذكره أن أي موافقة رسمية على دخول هذا النفط إلى لبنان سيُعرّض المسؤولين الذين أعطوا الموافقات إلى عقوبات أميركية. وإذا استمر الإمعان في إعطاء الموافقات، فإن الحكومة برمّتها ستكون عرضة للعقوبات. وبالتالي من المتوقّع أن تتبع الحكومة استراتيجية النعامة خوفًا على نفسها وعلى الوضع في لبنان. وهذا أمر لا تحسد عليه، أقله في الانطلاقة الأولى لعملها.
عمليا، الوتيرة التي يأتي فيها النفط الإيراني تجعله يحلّ مشكلة بعض المؤسسات مثل المستشفيات والمدارس وغيرها، لكن هذه الوتيرة غير كافية لسدّ حاجة السوق المحلي. وبالتالي إذا ارتفعت الوتيرة إلى مستوى باخرة في النهار، فإنها ستكون أكثر من كافية لسدّ حاجة السوق وحتى القضاء على السوق التقليدية ، أي عبر الشركات.
التسليط الإعلامي على تداعيات دخول النفط الإيراني إلى لبنان، طغى على حدثٍ أخطر وأكبر وهو اختيار العدو الإسرائيلي لشركة Halliburton الأميركية التي بدورها طلبت خدمات شركة بريطانية اسمها Stena Ltd وذلك للقيام بحمّلة تنقيب عن الغاز في المنطقة المتنازع عليها بين لبنان والعدو الإسرائيلي.
ويشمل نطاق العمل تطوير بئر كارديش الشمالية والذي من المتوقع أن يسمح للدولة العبرية بتسويق 33 مليار متر مكعب (1.2 تريليون قدم مكعب) من الغاز بالإضافة إلى 31 مليون برميل من احتياطيات السوائل بإجمالي 243 مليون برميل نفط مكافئ. وبحسب المهمة، من المتوقع أن تسلم الكمية الأولى من الغاز في النصف الثاني من عام 2023.
ويشمل نطاق العمل أيضًا بئر التقييم كارديش 4 التي تعد بكميات إضافية في بلوك كارديش (إجمالي 166 مليون برميل نفط مكافئ) غير معرضة للمخاطر وقابلة للاسترداد.
ووُضِعَ في نطاق العقد أيضًا، الإستكشافات داخل بئر أثينا الواقعة في بلوك 12 بين كارديش وتانين. وبحسب التقديرات، تحوي بئر أثينا على 20 مليار متر مكعب (0.7 تريليون قدم مكعب) من الغاز بالإضافة إلى 4 ملايين برميل من السوائل قابلة للاسترداد وغير معرضة للمخاطر مع احتمال نجاح بنسبة أكبر من 70%.
هذا يعني أن السباق على استخراج الغاز من البحر قد تمّ حسمه لمصلحة «إسرائيل» في وقت وصلت الرسالة بوضوح إلى لبنان: «لن يكون هناك استخراج للغاز اللبناني من دون ترسيم الحدود البحرية الجنوبية». كل هذا في ظل استنزاف المسؤولين اللبنانيين للوقت وتَلَهيهم في سفاسف الأمور في ملفٍ يبقى فيه الوقت أهم عنصر! فمثلا، لا نعرف حتى الساعة أسباب عدم إرسال مرسوم تعديل الحدود طبقًا لخرائط الجيش اللبناني إلى الأمم المتحدة!
المشكلة الكبيرة التي يمكن أن يقع فيها لبنان هوعملية تأهيل الآبار التي سيتم اكتشافها والتي من المفروض أنها – أي الآبار – مشتركة مع لبنان. وبالتالي فإن عملية التأهيل ستصب في مصلحة الدولة العبرية على حساب لبنان في منطقة تحوي على أهم وأكبر الخزانات في منطقة الشرق الأوسط، والتي تُقدّر بأسوأ الأحوال بمئات المليارات من الدولارات في المنطقة المتنازع عليها فقط!
وفي خضمّ الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان وحاجته القصوى إلى المحروقات، تبقى أسباب عدم التنقيب عن النفط على البرّ اللبناني مجهولة خصوصًا أن المعطيات «السيسمية» التي قامت بها شركات كثيرة أثبتت وجود كميات في منطقة نهر إبراهيم، وفي منطقة حاصبيا وفي منطقة البقاع. وبما أن هذه الكميات موجودة على أعماق ليست بكبيرة، لذا فإن الوقت المطلوب لاستخراج النفط منها قد يكون أقلّ بكثير من الوقت المطلوب لاستخراج الغاز من المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان.
على صعيد آخر، نشبت أزمة ديبلوماسية مفتوحة بين فرنسا من جهة، والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإستراليا من جهة أخرى. ونشبت هذه الأزمة بعد تعرض فرنسا لما سمّته بـ «الإذلال والطعن بالظهر»، على خلفية إلغاء كانبرا (عاصمة إستراليا) عقد توريد غواصات فرنسية موقّع في العام 2019 لمصلحة شركة استراتيجية بين واشنطن ولندن وإستراليا. هذا الأمر دفع بباريس إلى إستدعاء سفرائها في كل من الولايات المتحدة وإستراليا وذلك لإجراء مشاورات.
الجدير ذكره، أنه وفي إطار الصراع الاستراتيجي بين الدول الكبرى، قامت فرنسا وإستراليا ببناء علاقة شركة استراتيجية تسمح لإستراليا بمواجهة النفوذ الصيني في المنطقة في وقت وصل التوتير بين استراليا والصين إلى ذروته في المحيط الهادي. ولا يخفى على أحد الاستراتيجية الفرنسية التي تسعى لتوسيع نفوذها في المنطقة في مواجهة الصين، وكذلك بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا. لكن إلغاء عقد بيع 12 غواصة فرنسية إلى إستراليا والذي تصل قيمته إلى 56 مليار دولار أميركي والضربة القوية للاستراتيجية الفرنسية، عقّد الأمور بشكلٍ غير مسبوق بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وهو ما سيكون له تداعيات على الساحة اللبنانية من دون أدنى شك.
من السيناريوهات المطروحة بقوة توثيق العلاقات الفرنسية – الإيرانية في ظل تعقيدات في ملف التفاوض غير المباشر بين إيران والولايات المُتحدة الأميركية والذي كان من المفروض أن يُستأنف في الأسابيع المُقبلة. وبالتالي فإن الوضع الحكومي اللبناني الذي نشأ نتيجة تقاطع المصالح بين الولايات المُتحدة الأميركية وفرنسا وإيران، قد يتعثّر من جديد وهو ما يُنذر بتعقيدات أكبر على الساحة اللبنانية في وقت تطمح فيه الحكومة اللبنانية إلى استئنأف ملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي بالإضافة إلى استجرار الكهرباء والغاز من الأردن بمباركة أميركية. فهل يُصبح لبنان ساحة تجاذب بين الفرنسين والإيرانيين من جهة والأميركيين من جهة ثانية؟ وهل تستطيع فرنسا أن تحمي لبنان من العقوبات الأميركية في حال حدوث أي تجاوزات؟
بالمطلق المصالح الأميركية – الفرنسية عميقة وواسعة، ومن الصعب التباعد بسهولة. لكن كلنا نستذكر أن التباعد بين البلدين حصل على أيام الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي رفض المشاركة في الحرب على العراق نظرًا إلى حجم المصالح الفرنسية أنذاك في العراق. فماذا ستكون ردّة فعل فرنسا خصوصًا بعد شعورها بالإذلال والطعن بالظهر؟ التاريخ كفيل بالجواب عن السؤال. لكن الأمور مقلقة!
ومن السيناريوهات المطروحة أيضاً تعميق علاقة ثلاثية بين روسيا – ألمانيا – وفرنسا وذلك بهدف إتمام مشروع السيل الشمالي 2 الذي قد يُساعد بنسبة كبيرة في حّل أزمة أوروبا من الغاز عبر تخطّي الخلافات الروسية – الأوكرانية في وقت تعارض واشنطن هذا المشروع بشكل شرس لدرجة هددت الشركات التي تدخل في تمويل هذا المشروع (كلفة 8 مليار دولار أميركي) بالعقوبات.
وبالعودة إلى ما يعنينا مباشرة، فإن التداعيات على لبنان يمكن ترجمتها من خلال الصراع على الغاز اللبناني، وهو ما قد يُعقّد بشكل كبير هذا الملف إذا ما احتدمت المواجهة الديبلوماسية بين الدول الكبرى كفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وبقي لبنان كما عادته ساحة للصراعات العقيمة بدلاً من أن يكون منارة ووجهة للازدهار والتقدم والانفتاح على كل من يساهم في نهضة البلد من كبوته وأزمته المميتة.