أهداف العملية الروسية أمنية وما خفي أعظم!
-سماهر الخطيب – كاتبة صحافية وباحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية.
-وكالة نيوز
لطالما كانت الأهداف المعلنة شيء والكامنة شيء آخر، أو تكون الحال كما يقول المثل ”وما خفي أعظم”، ليس فقط في العلاقات الدولية إنما حتى في المكنون النفسي للإنسان..
وفي الحرب الدائرة الآن ما بين روسيا وأوكرانيا، هناك أهداف معلنة تقول بضرورة حياد أوكرانيا عن الناتو وإقامة حكومة محايدة بتبعيتها للغرب، إضافة لما أعلنته من حماية سكان دونباس لما يتعرضون له طيلة ثمان سنوات من إضطهاد عنصري وصل لحد الإبادة الجماعية بحقهم..ناهيك عن التهديدات الأمنية التي تتعرض لها روسيا، عبر وضع الصواريخ الناتوية في دول الحد، وكذلك المناورات العسكرية المتتابعة التي تنذر بضرورة التحرك الروسي ليس على سبيل الضربة الاستباقية، فبالعقلية الروسية وكما جاء على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا وجود لتلك الضربة إنما روسيا تدافع عن نفسها في حال شعرت بأن الهجوم ضدّها واقع لا محالة..
وللخوض أكثر في تفاصيل المخاوف الروسية والتي من الممكن أن تكون ضمن “ما خفي أعظم”، أي ضمن الأهداف الكامنة أو المستترة خلف تلك المعلنة، ولمعرفتها وتشخيصها يجدر بنا عدم تحييد العامل الاقتصادي والذي هو أحد أهم الأسباب، بل هو الهدف الرئيس الكامن وراء جميع الحروب على وجه البسيطة، ولإن الاقتصاد هو الوجه الآخر للسياسة فإنه يتوجب علينا أخذه بعين الإعتبار إذا ما أردنا تحليل موضوعي لمجريات الأحداث..
ولطالما تحدثنا في عدة مقالات بل ورأى أيضاً الكثير من المحللين السياسيين والخبراء الإقتصاديين، أنّ نموذج الحروب الجديدة هو حرب تجارية واقتصادية خاصة مع صعود الصين كأكبر قوة اقتصادية أو القوة الإقتصادية المنافسة للولايات المتحدة الأميركية، ولإنّ الاقتصاد والنمو الاقتصادي يقوم على أساس وجود الطاقة سواء أكانت النفطية أو البديلة، إنما جميع الصناعات التي تساهم في التطور الإقتصادي تحتاج للطاقة للمضي قدماً في مسيرة تطورها وتطور المجتمعات كافة، وبالتالي فإنّ هذا العامل أيضاً يأتي ضمن الأسباب الكامنة وراء الحروب، سواء من خلال السيطرة على المكامن أو طرق الإمداد، ما يعني أنّ من يمسك بتلك الطرق ويستحوذ على تلك المكامن فإنه يمسك بزمام القيادة العالمية بل ويصبح متحكماً ومسيطراً على من يحتاج إليها..
وقد سبق وتحدث الكثير من الخبراء والمختصين عن أنّ أحد أسباب الحرب على سورية، كانت بسبب خطوط إمداد الغاز وكذلك مكامنه، ومنهم من تحدث عن إستراتيجية البحار الخمس التي روّج لها الرئيس السوري بشار الأسد، وهي لربط اقتصادات الدول المطلة على البحار التالية ”الأحمر، الأسود، المتوسط، العرب، قزوين”، وبأنّ هذه الإستراتيجية أثارت الغضب الأميركي لما تحويه من نتائج إيجابية ستنعكس على المنطقة برمتها، والتي ستجعل الدول المطلة على البحار تلك تتمتع باستقلالية بعيداً عن الهيمنة الأميركية، وأخيراً ذاك المشروع الصيني
”الحزام والطريق”، والذي يعكس التقدم الذي باتت عليه الصين وكذلك التمدد الذي باتت تحويه سياساتها إن لم تكن توسعية بالمعنى الجغرافي، فباتت اقتصادية وتقنية وبالأحرى تنموية عقد لأجل مشروعها التنموي المنافس للسياسات الأميركية العديد من الاتفاقات الدولية سواء أكانت ثنائية أم جماعية..
أما ما هو أشد خطورة في العقلية الروسية، فهو مبادرة البحار الثلاثة وهي جهد إقليمي في أوروبا لتوسيع الطاقة عبر الحدود، والنقل والبنية التحتية الرقمية على طول المحور بين الشمال والجنوب وتعزيز التنمية الاقتصادية بين البحر الأدرياتيكي وبحر البلطيق والبحر الأسود.
وتشارك في هذا التجمع اثنا عشر دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي – هي ”النمسا وبلغاريا وكرواتيا وجمهورية التشيك، وإستونيا والمجر ولاتفيا وليتوانيا وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا”، وهي التي تم إطلاقها في عام 2015 من قبل رئيسي كرواتيا وبولندا، وما تلا ذلك من انطلاق القمة السنوية التي عقدت في عام 2016.
ونمت المبادرة بسرعة هائلة منذ تأسيسها في عام 2015، وأصبحت الآن كياناً مهماً، ليس فقط في وسط وشرق أوروبا، ولكن أيضاً في جميع أنحاء أوروبا وفي سياق العلاقات عبر الأطلسي.
فيما تهدف مبادرة البحار الثلاثة إلى المساهمة في التنمية الاقتصادية لأوروبا الوسطى والشرقية من خلال دعم تطوير الطاقة والنقل (الشمال والجنوب)، والبنية التحتية الرقمية في وسط وشرق أوروبا على نطاق واسع، وعلى طول محور الشمال والجنوب على وجه التحديد.
كما أنها تنظر في إمكانية الاستفادة من محطات الغاز الطبيعي المسال الجديدة في سوينوجيسي، بولندا، كلايبيدا، ليتوانيا، وكرك، كرواتيا. وجدير بالذكر أنّ ربط هذه المصادر الجديدة للغاز الطبيعي المسال جنوباً من بولندا وليتوانيا، وشمالاً من كرواتيا، يمكن أن يقلل بشكل كبير من الحاجة إلى واردات الغاز الروسي في المنطقة. بالإضافة إلى مصادر الغاز الطبيعي المسال هذه، تنظر المبادرة أيضاً في دعم ربط شبكات الطاقة الإقليمية بخط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي بين اليونان وإيطاليا وربط احتياطيات الغاز الرومانية الجديدة في البحر الأسود بالمنطقة.
أما في ما يتعلق بالربط الرقمي والإتصالات السلكية واللاسلكية، فتشمل المشاريع منصات لتعزيز التجارة الرقمية والتعاون البحثي وخطة ”الطريق السريع الرقمي ثلاثي البحار” الذي سيربط المنطقة من خلال البنية التحتية للإتصالات والألياف الضوئية، وفي النهاية البنية التحتية لتقنية الجيل الخامس.
كما يرتبط عدد كبير من المشاريع ذات الأولوية في مجال النقل بالقطارات، الذي اقترحته رومانيا، من خلال مشروع رئيسي من شأنه تحديث وتطوير خط السكك الحديدية بين غدانسك وكونستانتا. فيما تشمل المشاريع الأخرى خط سكة حديد يربط بحر البلطيق بالبحر الأسود، عبر ليتوانيا وبيلاروسيا وأوكرانيا.
ولإنّ الولايات المتحدة تولي أهمية كبيرة من الناحية الجيوسياسية لأوروبا الوسطى والشرقية. فإنها تعتمد استراتيجية لمنع مشاريع مثل شبكة 5G، بقيادة شركة هواوي الصينية، ومشروع نورد ستريم لتقليص نفوذ كل من روسيا والصين في المنطقة خوفاً من تعريض “مصالحها” العالمية / الإقليمية للخطر. وتقدّم هذه المبادرة فرصة لتقوية اقتصادات حلفاء الولايات المتحدة (التي تتطلع لمواجهة المنافسة الاقتصادية والجيوسياسية الروسية والصينية في أوروبا وفي جميع أنحاء العالم)، في وسط وشرق أوروبا وتقليل اعتمادهم على مفاتيح موسكو وبكين الاقتصادية.
لذا تعتبر الولايات المتحدة الشريك الخارجي الأكثر إستفادة من الفرص الجيوسياسية التي تتيحها مجموعة البحار الثلاثة، حيث سيمكّن المشروع الرئيسي لممر الغاز بين الشمال والجنوب من بيع الغاز الطبيعي المسال الأميركي عبر محطات في بولندا وكرواتيا إلى أوروبا الوسطى، (والتي تعتمد على إمدادات الغاز من روسيا).
أما نجاحها فيعتمد على تطوير مجالات الشراكة والتعاون من قبل دول شرق ووسط أوروبا مع دول آسيا الوسطى وشرق البحر المتوسط ودول الخليج. ولن يكون هذا ممكناً إلا إذا تلقت دعماً من
”تركيا واليونان وأوكرانيا وأذربيجان وجورجيا”، حيث تعتبر مشاركة تركيا ثنائية الفائدة في هذه المبادرة، فهي ستسهل نقل الغاز الطبيعي لشرق المتوسط، وكذلك الغاز الأذري والتركماني إلى دول المجموعة، ويأتي تطبيع العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة تمهيداً للطريق أمام الممر التجاري لأوروبا الوسطى والشرقية. وهذا سبب أعتبار مشاركة تركيا في المبادرة مشاركة مهمة بالنسبة للولايات المتحدة، التي تحاول كبح مبادرة الحزام والطريق الصينية.
وبعد هذا الشرح المقتضب عن هذه المبادرة، ربما توضحت الآن أحد الأهداف المكنونة من العملية الروسية في أوكرانيا، وهي ليست فقط حماية أمنها القومي، إنما حماية أمنها الإقتصادي عقب محاولات الناتو ضم دول أوروبا الشرقية إليه من جهة لمحاصرتها أمنياً وعسكرياً، وإنشاء هذه المجموعة الإقتصادية مع ما يرافقها من مشاريع للتخلي عن الغاز الروسي، وليس فقط التخلي عن الغاز الروسي، إنما حتى عن الطرق التجارية التي تكون عبر روسيا وبالتالي تجفيف مواردها الإقتصادية. وربما هذا سبب هرولة الدول الأوروبية نحو فرض العقوبات ضدّ روسيا وكذلك شن حملة إعلامية ممنهجة ضدّها، في محاولة لشيطنتها طالما أن البديل موجود وأنّ الأميركي وعد بدعم هذه المبادرة للتخلي عن الغاز الروسي وتمرير الغاز الأميركي وكذلك الخليجي وغيره عبر شبكة المواصلات وخطوط الغاز المراد تنفيذها في هذا المشروع الثلاثي البحار..
فباتت أسباب العملية الروسية أمنية وأيديولوجية واقتصادية طاقوية ودينية حتى، وكذلك الأهداف المراد تحقيقها من خلال هذه العملية بداية تحييد أوكرانيا عن الناتو اليوم، وغداً سيكون الهدف تحييد جميع دول أوروبا الشرقية التي لم تدخل في مداره حتى اليوم، وإنهاء حكم من سمتهم روسيا بـ”النازيين الجدد”، وإفراغ أوكرانيا من الأسلحة الاستراتيجية والصواريخ الناتوية، أو وضع اليد الروسية عليها، ووضع حد للأفكار الليبرالية
”المتوحشة” القائمة على الفردية، والتي باتت اليوم وبعد ممارسات الغرب النرجسية ضدّ الشعوب، باتت عبئاً على الشعوب والدول معاً ومواجهة تلك الليبرالية بـ”البينغ بوتينية” والتي تقوم على خصوصية تقاليد المجتمعات، والتمسك بالأفكار الدينية الرافضة مثلاً لـ
”المثلية”، وتلك الأفكار التي روجت لها
”الليبرالية الغربية”، وحماية الإقتصاد الروسي عبر إيقاف مثل هذه المبادرة التي ذكرناها في مقالنا هذا ، أو وضع حد لتمدد الولايات المتحدة في العالم ووصولها إقتصادياً إلى الجوار الروسي، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الروسي حينما قال:”بأنّ الهدف وضع حد للهيمنة الأميركية”..
في المحصلة يبدو أنّ فلاديمير بوتين كمواطن روسي ورئيس لروسيا الإتحادية، لن يتراجع في حملته هذه حتى يجلس الجميع على طاولة المفاوضات ويضمن تحقيق أكبر قدر ممكن من الأهداف التي أشرنا إليها وغيرها من الأهداف، التي لم نشير إليها وكذلك ليضمن أمن بلاده القومي والاقتصادي والطاقوي، وما يريده من أهداف سيحققها عاجلاً أم آجلاً، إنما يبدو أنّ الخاسر الأكبر ستكون أوروبا سواء أكانت بدولها الغربية أو الشرقية.