الحدث

ثلاثة قوانين للإعلام في سوريا: التقسيم حتمي؟

وليد بركسية|المدن
يُظهر اتجاه “هيئة تحرير الشام” الجهادية التي تحكم محافظة إدلب، لطرح قانون محلي للإعلام، كيف باتت القوى الحاكمة لسوريا مستقرة إلى حد كبير في مناطق نفوذها، وكيف تؤسس لحكم طويل الأمد مع عدم إمكانية أي طرف من الأطراف المتنازعة على توحيد البلاد، وبقاء الصراع بينها في حيز المناوشات الحدودية والتهديدات الإعلامية التي لا تبلغ حد التنفيذ.
وتعيش البلاد فعلياً واقع التقسيم مع بقاء الصراع مجمداً منذ العام 2017، إثر معركة حلب ثم سقوط تنظيم “داعش” وخفوت أصوات المعارك مقارنة بالسنوات السابقة. وتشير خريطة السيطرة العسكرية في نهاية العام 2021 وبداية العام 2022 التي نشرها مركز “جسور” للدراسات، إلى سيطرة النظام السوري على 63.38% من البلاد مقابل 25.64% لـ”قوات سوريا الديموقراطية” الكردية و10.98% لقوات المعارضة الأخرى المكونة من فصائل إسلامية تابعة لتركيا و”هيئة تحرير الشام”. 

وفي كل واحدة من المناطق السابقة، يتواجد قانون للإعلام يختلف في التسميات ويتشارك في روح القمع الواحدة. وليس من الغريب أن تتواجد البلاد في قعر مؤشر حرية الصحافة الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود” للعام 2021. وفيما تتواجد البلاد في المرتبة 173 من أصل 180 بلداً، فإن المنظمة، ومنظمات أخرى محلية ودولية، تتحدث عن قمع واحد ومتشابه في المناطق المختلفة، حيث يقمع النظام المعارضين والموالين بطريقته الكلاسيكية منذ سبعينيات القرن الماضي، فيما تتكرر التقارير حول ملاحقة “هيئة تحرير الشام” للأصوات الناقدة رغم محاولة تلميع صورتها على أنها “شريك للغرب في مكافحة الإرهاب”، كما يتم تشبيه أساليب “قسد” في قمع الصحافيين بـ”أساليب الجريمة المنظمة”.

ومنذ العام 2017 يروج النظام السوري رسمياً وإعلامياً لقانون جديد للإعلام من دون أن يبصر النور، رغم الوعود المتتالية التي قدمها وزيرا الإعلام، السابق والحالي، عماد سارة وبطرس حلاق بهذا الخصوص. حيث تريد الحكومة وضع قوانين خاصة بملاحقة الأصوات الناقدة لها في مواقع التواصل الاجتماعي رغم أن نصوصاً موازية وضعت ضمن قانون مكافحة جرائم المعلوماتية مع تحويل الفرع الخاص بتلك الجرائم في وزارة الداخلية إلى أداة للقمع تلاحق بموجبه الأصوات الموالية قبل المعارضة.

وفي أيار/مايو الماضي، أقرت الإدارة الذاتية الكردية قانوناً لتنظيم الصحافة والعمل الإعلامي في مناطق سيطرتها وأثار انتقادات واسعة لكونه لا يكفل استقلالية الإعلام بل يزيد من الضغوط على الصحافيين والمراسلين، ويعطي السلطة الحق في سحب التراخيص وإنزال عقوبات مثل الإيقاف عن مزاولة المهنة لمدة سنة والإيقاف المؤقت للبث المباشر المرئي أو الإذاعي، ودفع غرامات مالية تصل إلى ألف دولار أميركي، فضلاً عن إجبار الصحافيين على الكشف عن مصادرهم أمام الجهات القضائية التابعة للإدارة الذاتية.

وفيما ادعى زعيم “هيئة تحرير الشام”  أبو محمد الجولاني العام الماضي في أول مقابلة له مع الإعلام الأميركي، أن تنظيمه لا يعتقل الناشطين والأصوات المستقلة، فإن الواقع مختلف، حيث ضيقت “هيئة تحرير الشام” بشكل كبير على المواطنين الصحافيين، وقتلت واغتالت كل من شعرت أنه يشكل تهديداً لفكرها ونهجها المتطرف، بما في ذلك الناشط البارز رائد الفارس. وسجلت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” اعتقال “الهيئة” العشرات من المواطنين الصحافيين على خلفية منشورات لهم تعارض سياستها، أو على خلفية مزاولة نشاطهم من دون الحصول على “إذن”. كما سجلت إصابة عشرات منهم برصاص قواتها بينما كانوا يعملون على تغطية إعلامية لاحتجاجات مناهضة لها، ما تسبب في الآونة الأخيرة في اعتزال أو نزوح عدد كبير منهم.

وهذا الأسبوع، أعلنت “المديرية العامة للإعلام” التابعة لـ”حكومة الإنقاذ”، الذراع الإدارية لـ”هيئة تحرير الشام”، نيتها إطلاق “قانون الإعلام” في إدلب، بحجة تنظيم العمل الإعلامي وضمان حقوق الناشطين والصحافيين. وأشارت وسائل إعلام معارضة إلى أن مجلس الشورى التابع للهيئة أقر القانون الجديد علماً أنه يضع القواعد الشفهية المعمول بها منذ عامين في إطار مكتوب، وبالتالي يقونن القمع لا أكثر. وبموجبه يلزم كل ناشط باستخراج بطاقة للعمل الصحافي، والتوقيع على ميثاق شرف وتعهدات معينة.

وتنص البنود التي تم تسريبها على نفس النقاط الواردة في قانوني “قسد” والنظام من ناحية تقييد الحريات بشروط أمنية وأن الانتقادات يجب أن تأخذ رأي الحكومة مع التشديد على العقوبات لا الحقوق. كما يمنع القانون أيضاً، تصوير أي تقارير أو استطلاعات للرأي، تقارن بين مناطق النظام وإدلب، إلا باستثناء واحد، وهو أن يظهر الاستطلاع مسبقاً أن إدلب أفضل من مناطق النظام، إضافة إلى منع التبرعات والتمويل من جهات خارجية إلا بأسس محددة سلفاً وبموافقة السلطات.

وقبل أيام، وصفت مجلة “فورين بوليسي” إدلب ومحيطها بعبارة “العاصمة الجديدة للإرهاب العالمي” بعدما اختار زعيما تنظيم “داعش” المنطقة التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” للاختباء، فيما بات شمال غرب سوريا بديلاً لباكستان كملاذ مفضل للإرهابيين. وتدعي “تحرير الشام” أنها قطعت العلاقات مع تنظيم “القاعدة” وتقدم نفسها كهيئة حاكمة شرعية لما يقرب من 3 ملايين سوري في محاولة لإظهار قدرتها على أن تكون بديلاً لنظام الأسد.

وتبدو كل المحاولات للتخلص من الهيئة آمالاً بعيدة عن التحقق، مثل الوصول إلى ترتيب استراتيجي جديد يضع المنطقة تحت سيطرة النظام السوري وروسيا أو تحت سيطرة الفصائل التابعة لتركيا. ويبدو أن واشنطن تفضل الحفاظ على الوضع الراهن أي سيطرة تركيا الأوسع على المنطقة إلى جانب حريتها في تنفيذ غارات وضربات جوية لمكافحة الإرهاب.

ولا يمتلك أي طرف من الأطراف الثلاثة الحاكمة في سوريا القدرة على توحيد البلاد، والسؤال الذي يجب طرحه يتعلق ربما باتجاه البلاد إلى تشظ صريح تنفصل فيه الأطراف عن بعضها البعض رسمياً أو الاتجاه نحو فيدرالية صريحة أو الحفاظ على الوضع الراهن من تقسيم غير معلن، مع ترجيح الخيار الثالث، خصوصاً أن النظام الذي يسيطر على الحصة الأكبر من البلاد يبقى رهيناً لحلفائه الروس والإيرانيين، ولا يمتلك حرية اتخاذ القرارات المصيرية المشابهة رغم دعايته الرسمية بهذا الخصوص.

وتستفيد روسيا تحديداً من النزاع المجمد القائم ولا ترغب في مزيد من المناوشات مع واشنطن أو تركيا، خصوصاً أنها حققت كل أهدافها من تدخلها العسكري في البلاد بإنشاء قواعد في اللاذقية وبقاء حلفائها في دمشق على رأس النظام وتغلغلها في الاقتصاد، وأثبتت فعالية أسلحتها وضمنت أنه لا توجد عملية دبلوماسية لحل الأزمة السورية من دونها، كمؤشر على عودتها للساحة العالمية كلاعب مؤثر.

وسط كل هذا التجاذبات السياسية، فإن حرية الصحافة، وحقوق الإنسان بالمجمل، تبقى مجرد شعارات يتحدث بها الجميع ولا يلتزم بها أحد. ورغم أن المشهد يشبه إلى حد كبير السيستم اللبناني سياسياً من ناحية التشظي والولاءات الخارجية، إلا أن علاقة لبنان مع الغرب تاريخياً ساهمت في إفراز مناخ من الحريات الإعلامية لا يتواجد في سوريا الشمولية على مر تاريخها، والمؤسف أن حتى الأطراف التي تمتلك علاقات مع الغرب، كالإدارة الذاتية الكردية، لا تميل إلى تبني خط الحريات بل تقدم نسختها الخاصة من الفكر البعثي، لا أكثر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى