أهمّ مبيعاتنا: بيع النفط… وبيع الضمائر
عماد الدين أديب -أساس ميديا
سلعتان فقط يتفوّق بهما العالم القويّ عالمياً هما: بيع النفط وبيع الضمائر! إذا كان النفط قاصراً في بيعه على الدول المنتجة له فإنّ بيع الضمائر هو سلعة تتداولها نخبة السياسة والمثقّفون العرب من المحيط إلى الخليج، ومن المشرق إلى المغرب، ومن العلمانيين إلى الدينيّين، ومن الليبراليّين إلى التكفيريين، ومن رجال الأعمال إلى المتسوّلين.
الحاجة ماسّة إلى تجمّع من علماء الاجتماع السياسي العباقرة كي يجيبوا على سؤال تاريخي عظيم، لماذا وكيف سقطت منظومة المبادئ والقيم والأخلاقيّات العامّة لدى النخب في العالم العربي؟
كيف هذا ونحن مهد الرسالات السماوية الإبراهيميّة التي أسّست للأديان والقيم لدى البشريّة جمعاء؟
كيف هذا والأرض التي نبتت فيها بذور التسامح والإخاء والإيثار والتعاطف الإنساني، هي بالأرقام أكبر مقبرة معاصرة للضحايا، قتلة وجرحى ومعاقين ومهاجرين ونازحين منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية؟
كي نعرف كيف ولماذا تروج تجارة بيع الضمائر في منطقتنا العربية، تعالوا نعرِّف أوّلاً ماهيّة الضمير؟
“التعريف المبسّط للغاية للضمير هو أنّه الصوت الداخلي لدى كلّ إنسان الذي يمثّل مجموعة الثقافات والتراكمات والتجارب وغيرها بحلوها ومرّها”.
“إنّه بوصلة الاتّجاهات التي تشير على صاحبها أين يتّجه وماذا يفعل”.
والسياسة، كما عرّفها أهل اليونان القديمة، هي “علم الرئاسة التي تُنظّم فيها عملية القرار السياسي من السلطة الحاكمة اتجاه المحكومين”.
تنظّم السياسة الدستور والقانون العامّ والسلطات الثلاث التي تحدّث عنها “مونتيسكيو”، وعنى بها السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، واعتبر أنّ الشعب هو مصدر السلطات.
“التحايل على القوانين من قبل الحاكمين هو تحايل على الضمير العامّ”.
“وأخيراً يمكن القول إنّ السياسة الفاسدة تأتي بالدرجة الأولى من رحم الضمائر الفاسدة”.
الضمير السياسي السليم هو الذي جعل المسؤول، أيّ مسؤول على أيّ مستوى في أيّ زمان ومكان، فوق المصلحة الذاتية، وجعله خادماً لرسالته، وليس سيّداً يستغلّ قوّة المنصب والسلطة للسيطرة وتجاوز القانون والقضاء والاقتصاد.
الضمير السياسي هو الذي يجعل السياسي يؤمن تمام الإيمان بأنّه ليس فوق المساءلة، وأنّ شخصيته العامّة قابلة للنقد والانتقاد.
الضمير السياسي المسؤول يجعله يؤمن بأنّ الاختلاف حقّ مقدّس، وأنّه لا يوجد مَن هو غير قابل للمساءلة، ولا توجد قضية غير قابلة للنقاش.
الضمير السياسي السليم يجعل السياسي يدرك تمام الإدراك أنّ المنصب مهما ارتفع في المرتبة لا يعطيه حصانة من النقد ولا يجعله عابراً للحساب الشعبي أو السياسي أو القانوني.
من هنا يرى بعض الفلاسفة أنّ السياسة هي عمل غير متطهّر بطبيعته وتكوينه وممارساته.
وصلت الفلسفة البوذية إلى حدّ وصف السياسة بأنّها أكبر ما يقود صاحبه إلى الفساد.
وقالوا أيضاً إنّ المرء الذي يبتعد عن السياسة مثل الرجل الذي يرفض دعوة امرأة ساقطة لممارسة الرذيلة.
لا يمكن لقاتل أو مستبدّ أو فاسد أن لا تكون لديه مشكلة ضمير.
مثلاً ماذا نقول عن نيرون وقارون وفرعون موسى وهولاكو وهتلر وموسوليني وستالين وصدام والقذافي وموبوتو وبابادوك وبيونشيه والخمير الحمر وداعش وطالبان والقاعدة والإخوان والحوثي؟ هل كلّ هؤلاء لديهم ضمير صحيح أم ضمير مريض؟
من لا يخشى الضمير، لا يخشى الله، ولذلك هو على استعداد أن يفعل أيّ شيء وكلّ شيء. هو إنسان بلا أيّ خطّ أحمر.
كان تشيلو يقول “الله هو الضمير الأعظم والعون اللانهائي لهذا الكون”.
الحاكم الذي لا خطّ أحمر لديه في التعامل مع شعبه يستبيح المال العامّ والمصالح والأعراض والحقوق والواجبات.
الحاكم الذي لا ضمير له يحوّل بلاده من أقصاها إلى أدناها معتقلاً كبيراً لكبت الحرّيات وسجناً أسطورياً لحقّ التعبير.
الحاكم الذي عطّل ضميره يعطّل الدستور والقانون والمبادئ الأخلاقية والعرف المتوارث، ويعتبر مواطنيه قطيعاً من الأغنام يحرّكهم بعصا الحكم كيفما يشاء ومتى ما يشاء.
بذرة الفساد والديكتاتورية والحروب العدوانية والقهر والظلم وسرقة المال العامّ وكبت الحرّيات الخاصّة والعامّة تبدأ من قلب الضمير الفاسد المريض.
كثيراً ما نرى مظالم ونتعايش مع حكام قتلة فاسدين، لا قلب لهم، ولا نفهم من أيّ رحم جاؤوا، وأيّ بطن ولدتهم، ولماذا هم كذلك؟
الضمير الميت قد يكون في حزب أو طائفة أو مذهب أو جماعة أو ميليشيا.
هؤلاء يموت ضميرهم لأنّهم كما يُقال تعرّضوا لقتل الدماغ وطمس الهويّة وتزوير الحقّ والحقيقة.
تأمّلوا قتلة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان وعليّ بن أبي طالب والحسين بن عليّ رضي الله عنهم وأرضاهم، حينما اقترفوا جرائمهم المشينة، كانوا يؤمنون إيماناً مطلقاً بأنّهم ينفّذون أمر الله، وأنّهم على صواب كامل.
“إنّه الضمير الأعمى الفاسد” حفظنا الله من شرّه.