قمة بوتين / بايدن موازين عالم متحول
محمد صادق الحسيني-الحوار نيووز
على الرغم من الاهمية القصوى التي مثلها انعقاد القمة التاريخية الاولى ، بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والاميركي جو بايدن ، الا انها ، حسب تقييمنا لنتائجها الاولية ، نقول انها كانت قمة قليلة الدسم .
اما الاسباب التي دفعتنا الى الوصول الى هذا التوصيف فهي بالتأكيد ليست أسباباً دعائية / اعلاميه ، او اتخاذ موقف منحاز لاي من طرفي القمه ، وانما هي اسباب موضوعية ، ليست خاضعة لا للعواطف ولا للامزجة ، وانما استناداً الى الاصول العلمية والاكاديمية البحته ، في البحث والتقييم .
لا شك بان انعقاد هذه القمة بحد ذاته يشكل عملاً هاماً يجب على الاطراف المعنية ان تعمل كل ما في وسعها لتطويره والبناء عليه ، خدمة للبشرية جمعاء وليس للدولتين المشاركتين في هذه القمة ، خاصةً وان المشاكل الكبرى ، التي يعاني منها العالم ، على جميع الاصعدة ، لا تهم هاتين الدولتين فقط وانما تهم العالم بأسره وستفرض على الدولتين الاعظم في العالم ان تتحملا المسؤولية الاكبر لمواجهة التحديات الكونيه الخطيره ، خاصةً تلك المتعلقة بالاوبئة وزيادة التسلح ، الذي يهدد استقرار العالم بشكل خطير جداً .
من هنا فان نظرةً عميقةً الى النتائج التي اسفرت عنها هذه القمة ، والتي تمحورت حول ما اطلق عليه : ” اتفاق الطرفين على الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي في العالم ” ، تجعلنا ( النظره العميقه )
في شك من جدوى هكذا اتفاق ، ان وجد ، وذلك للاسباب التاليه :
أولاً : الغموض الذي يكتنف موقف الدولتين ، المشاركتين في القمة وخاصة الموقف الاميركي ، حول مفهوم الاستقرار الاستراتيجي الدولي . ففي الوقت الذي كان مفهوم الاستقرار الاستراتيجي الدولي ، في حقبة الحرب البارده ، هو توازن الردع النووي بين القوتين الاعظم في العالم ، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحده الاميركيه ، فان الوضع الراهن لم يعد كذلك ابدا . وذلك بالنظر الى صعود قوى دوليةً واقليميةً لها وزنها ومصالحها الاستراتيجيه على الصعيد الدولي والاقليمي . فعلى سبيل المثال لا الحصر هنالك جمهورية الصين الشعبية ، التي اصبحت لاعباً دولياً في طريقه الى التربع على عرش العالم ، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ، وهناك الجمهورية الاسلامية الايرانيه ، التي تتفاوض مع الولايات المتحده ، على قضايا استراتيجيه هامه ذات تأثير كبير على الاستقرار الاقليمي والدولي . كما ان ليس بالامكان تجاهل الدور الهام الذي تلعبه جمهورية كوريا الشعبيه الديموقراطيه ، على صعيد الاستقرار الاقليمي في جنوب شرق آسيا وما لهذا الدور من تأثير هائل على الاستقرار الاستراتيجي الدولي . خاصةً وان العدوان العسكري الاميركي على كوريا واحتلال نصفها الجنوبي وتقسيمها الى دولتين ، بداية خمسينيات القرن الماضي ، لا زال حاضراً بقوة في الذاكره .
ثانياً : من هنا ، فان جامعة هامبورغ الالمانية ، بالتعاون مع مؤسسة كيربر ( Körber – Stiftung ) ، ومعهد الابحاث والسياسات الامنيه في الجامعه Institut für Friedensforschung und Sicherheitspolitik – والمختصرة تسميته بالاحرف اللاتينية : IFSH ( حرف H كناية عن هامبورغ مكان وجود الجامعه ) ، قد اسست : مبادرة الاستقرار الاستراتيجي ( Strategic Stability Initiative ) ، والتي تضم خبراء من الصين وروسيا والولايات المتحده وبريطانيا وفرنسا والمانيا ، يعملون ، في جو من الثقة المتبادله وبشكل علمي ممنهج ، على اجتراح أفكار لحلول خلاقه ، في مجال الاستقرار الاستراتيجي الدولي ، وذلك انطلاقاً من وضع قواعد تعريف دقيقة ، لمفهوم وآفاق الاستقرار الاستراتيجي الدولي والاستقرار الاستراتيجي الاقليمي ، تلتزم بها كل الدول المعنيه .
ثالثاً : وهذا يعني ان حجر الاساس ، في معالجة موضوع الاستقرار الاستراتيجي الدولي ، لا يتمثل فقط في عقد قمة تاريخيه ، بين زعيمي أكبر قوتين نوويتين في العالم ، وانما في وضع قواعد ثابته للعلاقات الدوليه ، المستنده الى القانون الدولي ، واهم ركائزها :
–الاعتراف بحقوق ومصالح الدول والقوى الاقليميه الصاعده ، ليس في اقليمها فقط وانما على صعيد العالم ، اي الاعتراف بالمصالح الحيويه لكل من الصين وروسيا ، على سبيل المثال لا الحصر ، في دول اميركا اللاتينية والدول الافريقيه .
–الاقلاع ، لا بل الامتناع التام ، عن تطبيق سياسات العدوان العسكري المباشر او اشعال حروب بالوكالة ، ضد الدول التي لا تتوافق مع السياسات الاميركيه بشكل عام .
–الاحترام الكامل والشامل لمبدأ النديه ، في التعامل بين الدول ، بغض النظر عن حجم وقوة هذه الدول . وهو المبدأ الوحيد الذي يضمن تطبيق احد اهم قواعد القانون الدولي ، الا وهو قانون حل النزاعات الدوليه بطرق سلمية وبعيدًا عن التي دخل في شؤون الدول الأخرى .
رابعاً : وبالنظر الى كل ما سبق فاننا نعتقد جازمين ان تحقيق الاستقرار الاستراتيجي الدولي مرتبط الى حد كبير بطبيعة انظمة الحكم والاستراتيجيات والسياسات ، التي تتبعها الدولتين النوويتين الاعظم في العالم ، روسيا الاتحاديه والولايات المتحده الاميركيه .
بمعنى ان السياسات العدوانيه العسكريه ، التي تتبعها الولايات المتحده وحلف شمال الاطلسي ، سواءً ضد روسيا او الصين الشعبية او جمهورية ايران الاسلاميه وجميع حلفائها الاقليميين ، لا يمكن ان تقود الى استقرار استراتيجي في العالم
.
انها سياسات عدوانية مدمرةً ، فها هي الولايات المتحده واداتها العسكريه في اوروبا ، حلف شمال الاطلسي ، تواصلان حشدهما الاستراتيجي ضد كل من روسيا الاتحاديه والصين الشعبيه
.
اذ ان نظرة سريعةً للاستفزازات العسكريه الاميركيه ، ضد روسيا ، سواءً في بحر البلطيق وبحر بارينتس او في اوكرانيا والبحر الاسود او حتى في القوقاز الشمالي ، على حدود روسيا الجنوبيه ، بالاضافة الى التحركات والاستفزازات البحريه والجويه الاميركيه ضد روسيا ، في المحيط الهادئ ، عند حدود روسيا الجنوبيه الشرقيه ، وكذلك الاستفزازات الاميركيه المتواصله ، بحراً وجواً ، ضد جمهورية الصين الشعبية ، سواء في بحر الصين الجنوبي او في بحار الصين الاخرى وبحر الفلبين والبحر الاصفر ….نقول ان القاء نظرة سريعه على هذه الاستفزازات تجعل الكلام الاميركي ، حول الاستقرار الاستراتيجي الدولي ، ليس أكثر من طحن في الهواء .
اذ ما معنى الكلام عن الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي الدولي ، الذي يتكون من مجموعه فسيفسائية من حالات الاستقرار المحلي والاقليمي ، وانت ( الاميركي والاطلسي ) تعمل ليل نهار على تقويض هذا الاستقرار وتدمير أُسسه ؟
خامساً : وكما ان الماء والخشب لا يستويان ، فان الخطاب الاميركي المتعلق بالاستقرار الاستراتيجي الدولي ، لا يستوي مع قرارات وسياسات البنتاغون الاميركي العدوانية التوسعية ، في كل الاتجاهات ، وباتجاه روسيا والصين وكوريا الشمالية وايران وفنزويلا بشكل خاص .
فما تقوم به الولايات المتحده الاميركيه من اعمال استفزازية ، ضد روسيا ، انطلاقاً من جورجيا وما تحويه من مختبرات حرب بيولوجية اميركيه سريه ، وأوكرانيا التي تحكمها عصابةً من النازيين جعلت من نفسها مَطيَةً للولايات المتحده ، تُستخدم في العدوان العسكري المباشر على روسيا ، عبر الاعمال الاستفزازيه في جنوب شرق اوكرانيا تارةً ( دونيتسك ولوغانسك ) وعبر المناورات العسكريه المشتركه ، التي تجريها قوات اميركيه واطلسية على اراضي اوكرانيا تارةً اخرى . او عبر الحشود المتواصلة على حدود روسيا الغربيه ، في بولندا ودول البلطيق الثلاثه وفي بحر البلطيق . اضافة الى ما ذكرناه سابقاً عن الاستفزازات عينها في البحر الاسود ، نقول ان كل هذه الممارسات التي تقوم بها الجيوش الاميركيه لا تنم إطلاقاً عن حرص اميركي على الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي الدولي . خاصةً اذا ما أخذنا بعين الاعتبار التصريحات والتحركات المشبوهه ، لمخلب الناتو التركي أردوغان ، والتي يسعى من خلالها الى الحلول محل الاحتلال الاميركي الاطلسي لافغانستان ، اعتقاداً منه ان ذلك سيمهد له الطريق لاعادة امجاد الامبراطوريه العثمانيه القديمه ، في السيطرة على آسيا الوسطى . اضافة الى ان مثل هكذا وجود عسكري تركي في افغانستان ، اذا ما اصبح حقيقة ، فانه لن يكون الا جزءا من الحشد الاستراتيجي الاميركي الاطلسي ضد الصين الشعبيه وروسيا وايران .
سادساً : ولا بد ايضاً من التأكيد على ان قرار البنتاغون الاميركي ، الصادر قبل ايام قليلة ، والمتعلق بانشاء قوةٍ بحرية اميركية جديده ، الى جانب الاسطول السابع الاميركي ، في المحيط الهادئ ، لمواجهة روسيا والصين ، وقرارها الآخر القاضي بنشر قوةٍ بحرية اميركية ، بشكل دائم في بحر الصين الجنوبي ، تشكل تهديداً مباشراً وخطيراً للاستقرار الاستراتيجي الاقليمي في جنوب شرق آسيا ، الذي هو جزء من الاستقرار الاستراتيجي الدولي . وهو ما يتعارض طبعا مع الادعاء بالحرص على الاستقرار الاستراتيجي الدولي . فكيف لك ان تفجر الاوضاع او تزيدها تفجيراً ، من خلال مواصلة تسليح جزيرة فورموزا ( تايوان ) المنشقه عن الوطن الام ، الصين الشعبيه ، وتواصل الحديث عن الاستقرار الاستراتيجي ؟ سياسة واشنطن الخاصه بفورموزا هي نفس السياسه الاميركيه المتعلقه ب”اسرائيل” في الشرق الاوسط . اذ ان مواصلة تسليح الولايات المتحده ، لهذا الكيان الصهيوني ، يشجعه على مواصلة اعتداءاته على الشعب الفلسطيني ، وعلى كل الشعوب العربيه والاسلاميه المحيطه بفلسطين المحتله .وهي بالتالي الوصفة السحرية للحفاظ على عدم الاستقرار الاستراتيجي الاقليمي وبالتالي الدولي .
سابعاً : اما في الخلاصة فاننا نرى ان الطريق الوحيد ، الذي يجب على واشنطن ان تسلكه ، للحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي الدولي ، يتمثل في مواصلة وتسريع سحب قواتها ودروعها الصاروخيه وطائراتها الحربيه من الدول العربيه ، لا بل ومن بقية دول العالم ، واغلاق كافة قواعدها العسكريه التي زيد على الف قاعدة منتشرة حول العالم ، وان تأخذ العبرة من سياساتها الفاشله ، عبر الثلاثين سنة الماضيه ، خاصة تلك السياسات المتعلقه بالجمهورية الاسلامية الايرانيه ، التي استطاعت الصمود لمدة اربعين عاماً ، في وجه الاعتداءات العسكرية والحصار الاقتصادي الاجرامي ، لا بل انها استطاعت الصعود الى مرتبة الدوله الاقليميه الاقوى ، التي ارغمت الولايات المتحده على التراجع عن بعض سياساتها الخاطئه تجاه ايران .
وذلك بدليل ان واشنطن ستعود الى الاتفاق النووي الايراني ، في الاسابيع القادمه ، وربما بعد تسلم الرئيس الايراني الجديد ، ابراهيم رئيسي ، مهام منصب رئيس الجمهوريه الاسلاميه الايرانيه ، بتاريخ ٤/٨/٢٠٢١ . وهذا يعني ان عهداً جديداً سيبدأ بين ايران والولايات المتحده ، ولكن في ظل موازين قوى تختلف تماماً عن تلك الي كانت قائمةً عند توقيع الاتفاق سنة ٢٠١٥ ، وعلى صعيد الاقليم باكمله وليس على الصعيد الايراني فقط .
اذن فهي ذي ايران التي جعلت الاستقرار الاستراتيجي الاقليمي اكثر ثباتًا وقوةً ، واسهمت بالتالي في تعزيز الاستقرار الاستراتيجي الدولي بشكل فعال ، وذلك من خلال صمودها ومساعدتها لحلفائها الاقليميين ، في فلسطين وسورية ولبنان والعراق واليمن ، وصولاً الى فنزويلا ، نقول انها من خلال ذلك قد هزمت المشروع الصهيواميركي التدميري ، الذي اطلق عليه اسم “الربيع العربي” .
ذلك المشروع الذي بدأته الاداره الديموقراطيه الاميركيه ، في عهد الرئيس الاسبق اوباما ونائبه بايدن ، كان يشكل تهديداً حقيقياً للاستقرار الاستراتيجي الدولي ، كونه كان يهدف ليس فقط لتدمير وتفتيت كلاً من سورية والعراق ، وانما السيطرة على ايران ، عبر عصابات داعش ، وصولاً الى حدود روسيا الجنوبيه ، في القوقاز الشمالي ، ووصولاً الى حدود الصين الغربيه ، تمهيدا لاشعال فتيل الحروب في دول وسط آسيا ، وتهديد كلاً من روسيا والصين استراتيجياً
.
وعلى الرغم من هزيمة المشروع التدميري ، في نسخته الاصليه ، بمساعدة كلاً من روسيا وايران ، الا ان الادارة الاميركية لا زالت ، كما اسلفنا ، تحاول العبث بهذا الاستقرار الاستراتيجي الدولي ، سواءً من خلال الرئيس التركي او من خلال العصابه النازيه التي تحكم اوكرانيا .
الا ان اضطرار الاداره الاميركيه الى البدء بسحب قواتها من الدول العربيه ، وما يعنيه ذلك من انكشاف استراتيجي لادوات واشنطن في المنطقه ، الكيان الصهوني والكيان السعودي واذنابها هنا وهناك ، والصعود الصاروخي الذي ستشهده ايران ، بعد الانتخابات الاخيره ، سيجعل من الصعب على الادارة الاميركيه مواصلة هذا النهج العدواني في العالم ، خاصةً وان استمراره بحاجة الى تمويلات فلكية لانتاج تكنولوجيا جديده واسلحة جديدة قادرة على مواجهة القوه العسكرية الصينيه والروسيه . فها هو جنرال سلاح الجو الاميركي ، جون رايموند ( John Raymond ) ، اول قائد عمليات لسلاح الفضاء الاميركي ، ( فرع من فروع القوات المسلحه الاميركيه تم تشكيله قبل أشهر ويقوده الان هذا الجنرال ) ، يقول في جلسة استماع امام لجنة القوات المسلحه في الكونغرس ، بتاريخ ٢٢/٥/٢٠٢١ ،ان الصين وروسيا قد نشرت اقماراً صناعية قتالية في الفضاء ، قادرة على تدمير او إِعماء جميع الاقمار الصناعيه الاميركيه ، وهو ما يجعلنا مضطرون الى اتخاذ الاجراءات اللازمه لمواجهة هذا الوضع الخطير . وغني عن القول طبعا. ان هذه الاجراءات بحاجة الى تمويلات هائله ، غير متوفرة لدى البنتاغون حالياً ، كما انها بحاجة الى وقت طويل لانتاج التكنولوجيا الضروريه لتصنيعها ووضعها في الخدمة الفعليه .
بعدنا طيبين قولوا الله