هل شاخت المؤسسات الديمقراطية بما يحول دون مقدرتها على تجديد نفسها وتجاوز العثرات والمؤامرات؟
كثر الحديث في مراكز الدراسات والبحوث ووسائل الإعلام العالمية عن دخول أميركا مرحلة الاحتضار السريري، وأفول نجمها الذي سطع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحديداً بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار جدار برلين عام 1989، وسقوط الاتحاد السوفياتي بعده بعامين.
ومع انهيار الثنائية القطبية، برزت أميركا، القوة العظمى الأوحد في العالم، وتفردت بنموذجها السياسي وتطورها الاقتصادي وتقدمها التكنولوجي وتفوقها العسكري، ما عزز وحدة الدول المنضوية في حلف شمال الأطلسي وتحالفاته العالمية الواسعة. وفي المقابل، واجهت أميركا تحدياً دؤوباً لمكانتها العالمية من قبل روسيا والصين.
وحتى السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، لم يجد المحللون الدوليون مادة لإشباع تناولهم لفكرة نهاية العصر الأميركي، حتى جاءت التطورات التي رافقت الانتخابات الرئاسية الأميركية 2020 لتقدم مادة دسمة ما زالت تتوالى هزاتها الارتدادية، وتتضارب التوقعات بين قدرة المؤسسات على استعادة الهيبة الأميركية أو فشلها. أخيراً وبمناسبة الذكرى الأولى لأحداث الكونغرس، قال المفكر السياسي فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب “نهاية التاريخ”، الذي يمجد العصر الأميركي، “إن صورة المثل الأميركي كمنارة عالمية للديمقراطية قد تشوّهت كثيراً”.
فللمرة الأولى في التاريخ السياسي الأميركي، يُبدي رئيس أميركي معارضة شديدة لحقيقة هزيمته في الانتخابات، ولم يكتفِ الرئيس الـ45 دونالد ترمب برفض الإقرار بهزيمته، بل ذهب إلى اعتبار أن الانتخابات “سُرقت منه”، والأسوأ من كل هذا تحريض أتباعه على التمرد ومهاجمة الكابيتول مقر الديمقراطية الأميركية ورمز وحدة الأمة، والطلب من نائبه رفض نتائج الانتخابات حينما تعرض في الكونغرس. ولما كان الأمر غير مسبوق في تاريخ الديمقراطية الأميركية، فقد أحدث خضّة في المجتمع الأميركي ما زال يعاني آثارها، وباعتقادي لن يتحرر من مخاوفها ولو بعد حين.
ومن خلال البحث في سوابق الأزمات الدستورية في الدولة الأميركية، يمكن الإشارة إلى الحرب الأهلية الأميركية التي مزقت البلاد نهاية القرن التاسع عشر، إلا أن الإجراءات التي اعتمدها الرئيس الـ16 أبراهام لينكون الذي قاد البلاد خلال سنوات الحرب الأهلية (1861-1865) نجحت في الحفاظ على الاتحاد وتعزيز الحكومة الفيدرالية ضد محاولات الانفصال، والتي دفع لينكون حياته ثمناً لها.
وفي مطلع السبعينيات من القرن الماضي، خرج الرئيس الـ37 ريتشارد نيكسون من البيت الأبيض مستقيلاً من دون ملاحقات قضائية، على الرغم من اتهامه بفضيحة “ووترغيت” المتصلة بالتجسس على خصومه في الحزب الديمقراطي، وذلك بناءً على اتفاق مع الرئيس التالي جيرالد فورد الذي كان نائباً للرئيس، رغبة في الحفاظ على صورة الولايات المتحدة وعدم تشويهها. تاريخ الرئاسة الأميركية التي مر عليها 46 رئيساً، مليء بالتجاوزات، وأبرزها الفضائح الجنسية، مثل فضيحة الرئيس الـ42 بيل كلينتون، ولكن هذه الفضائح لم تبلغ نهاياتها الدستورية. وتبقى مقدرة المؤسسات الديمقراطية التي توفر عبر نظام الضوابط والتوازنات لكل فرع من فروع الحكومة، سلطات فردية للتحقق بألا تصبح الفروع الأخرى قوية للغاية، وهي الدليل على تفرد النموذج السياسي الديمقراطي الأميركي.
استطلاعات الرأي التي انتشرت بداية العام الحالي في الإعلام الأميركي عكست حال الانقسام في المجتمع الأميركي، إذ أكد ثلثا الأشخاص الذين استطلعت آراءهم شبكة “سي بي أس نيوز”، أن “أحداث السادس من يناير كانت علامة على زيادة العنف السياسي، وأن الديمقراطية الأميركية لا تزال مهددة”، أما استطلاع صحيفة “واشنطن بوست” فقد أكد أن اعتزاز الشعب الأميركي بديمقراطيته تراجع إلى 54 في المئة مقابل 90 في المئة في عام 2002. ومن جهة أخرى، لا يزال ثلثا ناخبي ترمب يعتقدون أن جو بايدن ليس الرئيس الشرعي، وأن هناك 26 في المئة من الأميركيين يريدون عودة الرئيس السابق في انتخابات 2024. وخلص استطلاع أجرته مؤسسة “شوين كويرمان” للأبحاث إلى أن أكثر من نصف الأميركيين يعتقدون أن الديمقراطية الأميركية مُعرّضة لخطر الانقراض.
حال الانقسام السياسي هذا هو ما وعد الرئيس بايدن بمعالجته وترميم الانشقاق الرأسي في النظام السياسي الأميركي، وهو انقسام يشبه إلى حد كبير ذلك الذي واجهه الرئيس لينكولن خلال الحرب الأهلية للحفاظ على الاتحاد. فهل سيكون بمقدور الرئيس بايدن أن يكون لينكولن العصر الأميركي المتجدد في قيادة دفة الإصلاحات العميقة والضرورية، لرأب الصدع قبل الانتخابات النصفية للكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، مع احتمالات العودة القوية للحزب الجمهوري إلى غرفتي الكونغرس، ما سيعوق جهود الرئيس والديمقراطيين لمعالجة الجراح الغائرة في المنظومة السياسية الأميركية قبل انتخابات 2024.
ومع يقيننا بأن عامل الوقت وجلل المهمة الماثلة أمام بايدن قد لا يمنحانه قدرة كبيرة على المناورة، نظراً لتعقيدات الملفات الكثيرة الداخلية منها والخارجية القابعة أمامه في المكتب البيضاوي، ولكن خبرة الرجل الطويلة وانغماسه في المؤسسة السياسية الأميركية وعمله الطويل في الكونغرس، قد تؤهلانه للقيام بهذه المهمة التاريخية. فمن جهة هناك المعركة الوطنية لمواجهة انتشار جائحة كورونا ومتحوراتها، وعودة عجلة الاقتصاد الأميركي إلى دورانها الطبيعي، وهناك خطة “بايدنومكس” أو “إعادة البناء بشكل أفضل”، وهي المشروع الاقتصادي والاجتماعي الأهم في العقود الأخيرة على المستوى الداخلي، ويستهدف الاستثمار في البنية الأساسية الأميركية المتقادمة، وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي والاستثمار في التعليم والبحث العلمي لإعادة التألق للعصر الأميركي.
أما الملفات الخارجية التي تواجه هذه الإدارة فهي كثيرة، وتقف روسيا والصين وإيران في الصدارة، بالإضافة إلى تركيز الإدارة على استعادة تحالفات أميركا عبر الأطلسي، والعمل الجماعي في حلف شمال الأطلسي، والقيادة الأميركية للمنظمات الدولية، وقد لخصها الرئيس بايدن في خطاب السياسة الخارجية في 4 فبراير (شباط) 2021 في وزارة الخارجية. وهذه الموضوعات سبق وأفردت لها مساحة تقييمية في مقالي بعنوان “عام بايدن الأول”، والذي أبرزت فيه انتهاز هذه الدول لهذه اللحظة التاريخية للوضع الداخلي الأميركي لممارسة أقصى درجات الضغط لتحقيق مكاسب دولية، مستغلة الغياب الأميركي حيناً، والارتباك في الرسائل التي تخرج من البيت الأبيض في أحايين أخرى.
وفي الحقيقة، فإن معارك بايدن وتحدياته جلها تتركز في الكونغرس وعند الطبقة السياسية، وما يفاقم تعقيدها زيادة الاحتقان والتمترس السياسي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، هذا في الوقت الذي لا يزال الديمقراطيون فيه يمسكون بزمام المبادرة السياسية، أو يكادون. ففي كل الملفات المعروضة على الكونغرس مثل حزمة الإغاثة المتعلقة بالجائحة، وبرامج الضمان الاجتماعي، ومبادرات المناخ، والبنية التحتية، وإصلاح عملية التصويت، فإن الجمهوريين يعتقدون أن الإنفاق الهائل سيؤدي إلى مزيد من التضخم وزيادة الدين القومي، فيما يؤكد الديمقراطيون أن الحزمة ستساعد في تخفيف التضخم ورفع مؤشرات النمو الاقتصادي طويل الأجل.
ويتواصل حال الاحتقان حيال موضوع التحقيقات في أحداث السادس من يناير 2021 في الكونغرس، فلجنة التحقيق المُشكّلة من سبعة ديمقراطيين وجمهوريين اثنين، من المقرر أن تصدر تقريرها الأول خلال الصيف المقبل. ويعتقد الديمقراطيون أن تحقيقاتها “مهمة لمستقبل الديمقراطية”، فيما يرى الجمهوريون أنها “مضيعة للوقت” ويتهمون خصومهم الديمقراطيين باستخدام التحقيق “كسلاح سياسي حزبي لإحداث مزيد من الانقسام في البلاد”. فإلى أي مدى يمكن للديمقراطيين الذهاب بتحقيقهم خشية أن يدفع باتجاه مزيد من تعميق الشرخ المجتمعي والسياسي؟ فيما يرى المراقبون أن نتائج الانتخابات النصفية في نوفمبر المقبل قد تعطل جهود التحقيق لو تمكن الجمهوريون من العودة القوية راكبين تيار الشعبوية الترمبية.
وما يزيد المشهد السياسي في داخل الكونغرس تعقيداً، مواصلة سيطرة الرئيس ترمب على الحزب الجمهوري ومحاولة امتلاكه، واختطافه لتيار اليمين الأميركي المحافظ، أو التلويح بشق صفوفه وتكوين تيار سياسي جديد يميني متطرف. وتتحفظ قيادات الحزب الجمهوري في الكونغرس في موضوع فتح النقاش حول تأثير الظاهرة الترمبية الشعبوية لخطورتها على مستقبلهم السياسي. فإن أصواتاً جمهورية شجاعة، ولكن نادرة، تنتقد حال الاختطاف، مثل ليز تشيني نائبة رئيس لجنة التحقيق في أحداث الكونغرس، التي قالت أخيراً، “إن البلاد بحاجة لحزب جمهوري قوي للمضي قدماً، لكن حزبنا يجب أن يختار إما أن نكون مخلصين لدونالد ترمب أو نكون مخلصين للدستور، لكننا لا نستطيع أن نكون الاثنين معاً”.
وقد تعرّضت السيدة تشيني هذا الأسبوع لانتقاد شديد من قبل اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، التي اعتبرت ما تقوم به النائبة الجمهورية داخل لجنة التحقيق في أحداث السادس من يناير 2021، “اضطهاداً لمواطنين عاديين كانوا منخرطين في التعبير عن خطاب سياسي مشروع”، وكان رد السيناتور ميتش ماكونيل زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ للدفاع عن السيدة تشيني ولجنة التحقيق تأكيده أن أحداث الكونغرس كانت “تمرداً عنيفاً”.
ويبقى الأمل في الحكماء من أمثال ميتش ماكونيل والرئيس بايدن وبقية العقلاء في الكونغرس من الحزبين، للإبقاء على التنافس التقليدي في الرؤى المحافظة والليبرالية مع الحفاظ على قوة الاتحاد. وقد لخّص مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في حديث له أخيراً في مجلس العلاقات الخارجية، توجه بايدن للعمل على “التماسك والاستقرار السياسي، والالتزام المشترك على الرغم من الفوارق الحزبية لحماية المؤسسات الرئيسة والقيم الديمقراطية الأميركية”.
هذه هي الرسالة التي نقلها الرئيس بايدن في خطابه في الكونغرس يوم الخميس الماضي، حينما وجه كلماته للسيد ماكونيل بالقول، “أنا لا أريد الإساءة إلى سُمعتك (باعتباره خصماً سياسياً)، ولكن دعني أقول إنك رجل شريف، وشكراً لكونك صديقي”. ودعا إلى الوحدة، وأهاب بالسياسيين “جسر الانقسامات الملموسة في صفوف الأمة”، مضيفاً أن “الوحدة لا تعني أن علينا الاتفاق على كل شيء، ولكن الوحدة أن يؤمن عدد كافٍ منّا بجوهر الأشياء الأساسية، ألا وهي الصالح العام، والإيمان بالولايات المتحدة الأميركية”.
وقد تؤهل التطورات التاريخية الاستثنائية التي تمر بها أميركا، رئيسها ليكون لينكولن العصر الحديث مع فارق كبير في الظروف بين الرجلين يصب في صالح الرئيس لينكولن، فقد كان يرمم شرخاً داخلياً، ولم يكن العامل الخارجي حاضراً بقوة، مثل الوضع الذي يواجه الرئيس بايدن، فقد كانت البلاد تعيش في مرحلة تاريخية تسمى “الانعزالية السياسية”، والتي تجنبت من خلالها الولايات المتحدة التشابكات الاقتصادية والسياسية مع الدول الأخرى. أما اليوم فإن اقتصاد أميركا يقود “العولمة”، بالتالي فإن انخراط أميركا في الشؤون الدولية كبير ومتشعب، كما أن تدخلات الآخرين في الشأن الأميركي في تزايد، مثل تورّط روسيا في دعم حملة ترمب الانتخابية، وتأثير الصين على الاقتصاد الأميركي.
ويبقى السؤال المُلحّ، هل تنجح جهود ترميم الانقسامات “الملموسة” أم أن جدلية التاريخ سيكون لها قراءتها المختلفة؟ هل شاخت المؤسسات الديمقراطية الأميركية بما يحول دون مقدرتها على تجديد نفسها وتجاوز العثرات والمؤامرات؟ المؤشرات جميعها ترجّح قدرة الديمقراطية الأميركية على إعادة اكتشاف نفسها، فالدولة الأميركية تمتلك موارد اقتصادية هي الأقوى في العالم، ومؤسسات عسكرية وأمنية هي الأكفأ والأكثر قدرة على حماية النظام الدستوري ومصالح واشنطن في العالم.
في كتابه بعنوان “منقطع النظير، لماذا ستبقى أميركا القوة العظمى الأوحد في العالم؟”، يقول مايكل بيكلي أستاذ العلوم السياسية في جامعة (تافتس)، إن العصر الأميركي باقٍ، وإن هيمنة واشنطن على النظام الدولي ستستمر لعقود قادمة على الأقل، مستعرضاً مصادر قوة النظام الأميركي وعناصر ضعف خصومه مثل الصين وروسيا، ولكنه أقر بأن انهيار أميركا لن يكون بسبب ضعف مواردها الاقتصادية أو قوتها العسكرية، ولكن بفعل الانقسامات السياسية والفساد، مع اعتقاده أن المجتمع الأميركي قادر على تجاوز العثرات.
ويحاول بيكلي إحداث المقارنة مع الصين باعتبارها اليوم الدولة الثانية على مستوى العالم، إذ يقول إن لدى أميركا ثلاثة أضعاف ثروة الصين، وخمسة أضعاف قدرتها العسكرية، وإن هذا البون الشاسع سيحتاج من الصين إلى سنوات طويلة من المنافسة. ويقر الكاتب بأن الولايات المتحدة تواجه خللاً، وأن السيناريو الأكثر احتمالاً هو الاضمحلال الداخلي، فقد انهارت إمبراطوريات عظيمة بسبب الانقسامات السياسية الداخلية وانتشار الفساد، وليس بسبب بروز قوى منافسة في الساحة الدولية. ونتيجة لذلك، فإن المشاكل الداخلية تزيد من خطورة الوضع، فعدم المساواة والتوترات العرقية والثقافية الآخذة بالازدياد، وتضخم الدين الداخلي، وتدهور البنية التحتية المتقادمة، في ظل عدم وجود مؤسسات سياسية فاعلة، يمكن لهذه المشاكل أن تخرج عن السيطرة.
إن التحدي الأكبر أمام أميركا ونخبها السياسية ومؤسساتها المدنية والعسكرية ومؤسسات الفكر ورئيسها بايدن، يكمن في مواجهة الخلل السياسي وترميم الشرخ المجتمعي، والتركيز على الآثار المدمرة للطروحات الشعبوية التي تغذي الغرائز وتنخر في جسد أمة عظيمة. وتبقى المخاطر مشرعة الأبواب لعودة الترمبية بقوة مع تغييب أو اختطاف للتيار المحافظ، الذي كانت له إسهامات كبيرة في بناء الاتحاد الأميركي والحفاظ على إرث الآباء المؤسسين.
ويزداد التشاؤم حيال ما قد يجري في الانتخابات النصفية في نوفمبر المقبل والانتخابات الرئاسية في 2024. ويقول توماس هومر ديكسون المدير التنفيذي لـ”معهد الشلال” التابع لجامعة الطريق الملكي الكندية، “إن الديمقراطية الأميركية قد تنهار، مسببةً عدم استقرار سياسي داخلي عميق، وعنف أهلي منفلت”، مضيفاً أنه “في عام 2030، إن لم يكن قبل ذلك، فإن أميركا يمكن أن تحكمها ديكتاتورية يمينية”.
فهل سيكون بمقدور بايدن والعقلاء من الطبقة السياسية في واشنطن إخراج أميركا من هذا النفق غير محسوب العواقب؟
المصدر: اندبندنت عربيّة