الذهاب عند الواحدة فجراً.. لإنجاز معاملة “الضمان الاجتماعي”
فيما يسجّل عداد الإصابات بفيروس كورونا ارتفاعاً ملحوظاً في لبنان، بالرغم من كل التحذيرات من خطورة انتشار متحور أوميكرون، تبرز في دوائر الدولة المفلسة عشوائية في تسيير الأعمال، مع عدم مراعاة التباعد الاجتماعي ولا التزام بالكمامة.
افتتح اللبنانيون عام 2021 بطوابير المحروقات، والأفران، وانتقلوا بعدها إلى طوابير الصيرفة والمصارف، واختتموه بطوابير الضمان الاجتماعي. إذ تشهد مراكز الضمان زحمةً خانقة منذ أسابيع، وذلك بعد أن أعلنت نقابة مستخدمي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الإضراب والتوقف عن العمل، وعدم الحضور إلى المكاتب يومي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع، على أن تقوم بتسيير كامل المعاملات أيام الإثنين والأربعاء والجمعة من كل أسبوع.
طوابير وإفلاس
يتجه “المضمونون” منذ ساعات الفجر نحو مراكز الضمان الاجتماعي للحصول على رقم لإتمام معاملاتهم. وما أن يفتح المركز أبوابه عند الثامنة صباحاً حتى يتهافت المواطنون حاملين الأوراق المطلوبة لإنجاز معاملاتهم. فينتظرون لساعات عدة للحصول على إمضاء موظف على ورقة. ولم ينته الأمر هنا، إذ يعاني الصندوق من مخاطر متعددة، ناتجة عن مخاطر العجز المتراكم بسبب عدم تسديد الدولة اللبنانية لمستحقاتها، وبالتالي تراكم هذه المستحقات قد يؤدي إلى إفلاس الضمان وإقفال أبوابه بوجه المضمونين.
تجارب مريرة
قصد أحمد (35 عاماً) مركز الضمان الاجتماعي الواقع في بدارو الأسبوع الماضي، لإتمام معاملته. يعمل في مطعم للوجبات السريعة، وطلب إجازةً من مديره ليوم كامل ليقصد مركز الضمان منذ الصباح الباكر. ولكن لسوء حظه، انتهى دوام موظفي الضمان الرسمي قبل وصول رقمه. فعاود الذهاب لمركز بدارو، ولكن عند الواحدة فجراً، فحصل على رقم 9 من الحاجب الموجود في المبنى، وانتظر في سيارته المركونة إلى جانب الطريق في منطقة بدارو ونام حتى حلّ الصباح. وعند الثامنة صباحاً، وعلى الرغم من حصوله على رقم 9 إلا أنه انتظر حتى الثانية عشر ظهراً. ويشرح أحمد لـ”المدن” المعاناة التي يعاني منها المضمونون مع هذا الازدحام الخانق الذي يعود للفوضى الحاصلة في مراكز الضمان، حيث يتم تفضيل معاملات على معاملات. ويؤكد أن بعض الأشخاص تنجز معاملاتهم بشكل فوري ومن دون أن يحجزوا رقماً. وعند الثانية والنصف ظهراً يتوقف موظفو الضمان عن إجراء أي معاملة بسبب انتهاء دوامهم الرسمي، وبالتالي يعاود المضمونون المجيء في يومٍ آخر. وبسبب الازدحام الخانق فإن الأرقام التي تنظم الدخول تنفد عند الثامنة والعشر دقائق صباحاً. وهذا ما يجبر الناس على قصد مراكز الضمان بعد منتصف الليل للحصول على دورٍ قريب.
يعمل حسام (31 عاماً) في الهندسة الداخلية، متزوج وأب لطفلين. قصد الضمان الاجتماعي برفقة طفله الصغير لإتمام معاملة معينة خاصة بعائلته. دام انتظاره أكثر من 4 ساعات، بسبب فقدان مراكز الضمان لبعض المستلزمات المكتبية، وبعض الأوراق المطلوبة لإتمام كامل معاملات الناس. وذلك في ظل الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى ارتفاع أسعار المستلزمات المكتبية والأوراق والقرطاسية. انتظر حسام موعده حاملاً طفله بسبب إصابة زوجته بوعكة صحية، وعدم قدرتها على الاعتناء بطفلين معاً، فامتعض أمام موظفة الضمان بسبب الازدحام الخانق، وتوزع المواطنين في كافة أرجاء الغرفة، من دون أي تدابير وقائية، إضافةً إلى أحاديث الموظفين بين بعضهم البعض حول مواضيع خارجة عن نطاق العمل، مما يؤدي إلى بطءٍ في إنجاز معاملات الناس، فشرحت له الموظفة أن هذا الازدحام يحصل في كل مراكز الدولة، وعليه انتظار دوره إسوةً بغيره. واختتمت مهددة “لا تجبرني على تمزيق معاملتك لتعيدها عن جديد”!
إضراب مفتوح
وفوق كل هذا، أعلن المجلس التنفيذي لنقابة مستخدمي الصندوق الإضراب المفتوح اعتباراً من تاريخ 27 كانون الأول 2021، والإبقاء على تسيير موافقات الاستشفاء والمعاملات المستعصية والسرطانية حصراً ليوم واحد في الأسبوع، هو يوم الأربعاء فقط. وقد ألصق مركز الضمان الاجتماعي في بدارو ورقةً على بابه تؤكد إضرابهم المفتوح لأسباب عديدة، وأهمها التعاطي غير المسؤول من قبل عدد من أعضاء مجلس الإدارة تجاه معاناتهم وعدم شمل مستخدمي الضمان والعمال المياومين في سلسلة الرتب والرواتب، إضافة إلى التدني المتسارع للوضع الاقتصادي وصعوبة الحالة الاجتماعية للمستخدمين والعمال المياومين.
وفي جولة “المدن” على مراكز الضمان الاجتماعي يوم الأربعاء 29 كانون الأول، وذلك بعد تأكيد الضمان الاجتماعي على تسيير كل المعاملات الاستشفاء والمعاملات المستعصية، تبين بأن كل المراكز الموجودة في بيروت مقفلة بسبب عدم حضور الموظفين. وعند الثامنة صباحاً، تجمع المواطنون على أبواب مراكز الضمان الاجتماعي، راجين ضابط الأمن السماح لهم بالدخول لإتمام معاملاتهم الضرورية، فيمنعهم الأخير ويؤكد بأن الموظفين يرفضون إتمام أي معاملة حتى حصولهم على كامل حقوقهم. وما إن مرّت إحدى الموظفات، حتى تهافت المواطنون تجاهها طالبين مساعدتها بتوقيع بعض من معاملاتهم، فاعتذرت قائلة “عذراً، نحن في إضراب”!
أما مركز الضمان الاجتماعي فرع طريق المطار، فأُقفلت البوابة الحديد، ومُنع الناس من الدخول للمبنى. اصطف المواطنون خلف السياج الحديدي وهم يرددون بين بعضهم عبارات مؤلمة تشرح خيبتهم “توقفوا عن إذلالنا”، “تعبنا من الوقوف دعونا ندخل للمبنى”…
فأتى رجل الأمن ليؤكد أن المبنى خالٍ من الموظفين بسبب إضرابهم، ونصحهم بالرجوع إلى منازلهم وإكمال أشغالهم والعودة الأسبوع المقبل. فأمسكت المسنة بالسياج الحديد وهي تشد عليها بأصابعها المتجعدة، لتؤكد بأنها لن ترحل إلى أن يتم إنجاز معاملتها المتعثرة منذ 3 أشهر.
هذا هو حال اللبناني الذي طوقته الأزمات من كل جنبٍ عام 2021، وها هو يذهب نحو عامٍ جديد وسط إضراباتٍ متنوعة تأخذه نحو مصيرٍ غامض ومجهول.