الخليج العربيّ 2022: “نيو لوك” في الشكل والمضمون
عماد الدين أديب – أساس ميديا
العالم ليس العالم، وأميركا – بايدن ليست حليفة العرب، والمنطقة في خطر، والنفط يصارع تثبيت وجوده، والخليج العربي قرّر إعادة حساباته وسياساته وتحالفاته بشكل جذريّ.
نحن في شرق أوسط مغاير، يخلق عالماً مختلفاً يؤدّي إلى خليج عربي لم نعهده سابقاً.
أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي أكثر براغماتية، أقلّ شعبوية، تُعلي من لعبة المصالح، وتتلاشى عندها اعتبارات شراء الولاءات والعطايا للأتباع والأزلام.
…
تعطي دول الخليج العربي الآن أولويّة العطاء لمواجهات الأمن وتدعيم أمنها القومي، وبناء التحالفات على أساس مصالحها الذاتية أوّلاً وقبل كلّ شيء.
إنّه عالم جديد يفرض على حكام الخليج منظومة جديدة.
يتغيّر الخليج العربي من داخله، من خلال مجلسه، من خلال توزّعاته الإقليمية، ومن خلال تحالفاته الدولية.
إنّ مجلس التعاون الخليجي، الذي أُسِّس في 25 أيار 1981، والذي عقد أول اجتماع له في مدينة أبوظبي استجابة لفكرة أمير الكويت الأسبق الشيخ جابر أحمد الصباح، أصبح اليوم مشروعاً مختلفاً في الشكل والمضمون والتوجّهات.
في كل دولة واقعٌ محليّ داخلي يخالف كلّ ما سبق، ومعادلات إقليمية تطرح تساؤلات أكثرها تطرح إجابات، واللاعب الأهمّ في الخليج العربي يعيد تموضعه في مراكز الاهتمام الاستراتيجي، فيغادر من الشرق الأوسط إلى جنوب بحر الصين والمحيط الهادئ غير آسف.
كيف فهمت زعامات الخليج كلّ المتغيّرات الداخلية والإقليمية والدولية؟ وكيف تتعامل معها؟ وما هي السياسات التي سوف تنتهجها في العام 2022؟
في البداية نقول إنّ القراءة الخليجية للعام المقبل هي أنّه ليس فحسب استمراراً لِما سبقه من الأعوام، مستخدماً قواعد اللعبة السابقة عينها.
باختصار، سنكون أمام لاعبين جدد، لسياسات جديدة، وبقواعد جديدة.
يؤكّد مصدر خليجي أنّ “الصورة الجديدة ليست واضحة تماماً، لأنّ هناك غموضاً بسبب وجود أسئلة جوهرية تبحث عن إجابات هي التي سوف تفرض شكل سياسات دول الخليج العربي، ومن هذه الأسئلة:
1- هل قرّرت إيران إنجاز الاتفاق النووي الآن مع إدارة بايدن أم قرّرت التأجيل لمعرفة مَن هو الرئيس الأميركي المقبل في انتخابات رئاسة 2024؟
2- ما هو شكل الحكومة المقبلة في العراق؟
3- هل تكون انتخابات نيابية في لبنان؟ وهل يتمّ اختيار رئيس جديد أم يتمّ التمديد للرئيس ميشال عون؟
4- هل يستمرّ الرئيس بشار الأسد وجماعته في فرض سياسات القوة على البلاد والعباد في سوريا؟
5- هل يستمرّ رجب طيب إردوغان في تدخّلاته في ليبيا وسوريا والعراق، وفي نشاطه البحري في شرق المتوسط؟ أم يتمّ اللجوء إلى إجراء انتخابات تركية مبكرة يمكن أن تطيح به؟
6- ما هو مستقبل بدايات التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية؟ وهل يؤدّي إلى أيّ تقدّم سياسي في مشروع الدولتين؟
7- الأهداف الثلاثة الرئيسية الحالية، واقعياً، لقادة دول الخليج العربية، كلّها تبدأ بكلمة “تأمين”:
أ- “تأمين” الاستقرار الداخلي في البلاد عبر شبكة أمان الخليجية وإصلاحات مستمرّة.
ب- “تأمين” سعر النفط في السنوات الخمس المقبلة بما لا ينقص عن متوسط 80 دولاراً، على الأقلّ، مع الاستمرار في خطّة بناء سريعة للمداخيل غير النفطية.
ج- “تأمين” القدرة الدفاعية بسلاح متطوّر غير مرهون بكميّات أو نوعيّات أو قطع غيار يُسيطَر عليها بشكل ابتزازيّ.
والانشغال الأول بتوفير شبكة دفاع صاروخية وسلاح جوّ قويّ لمواجهة الصواريخ والمسيَّرات المعادية.
جاءت الصحراء بالنفط، وجاء النفط بالبترودولار، وجاء البترودولار بالثروة، وجاءت الثروة بالسلطة، وجاءت السلطة بالنفوذ الإقليمي والدولي.
مخطئ مَن يعتقد أنّ دورة النشوء والارتقاء لمجتمعات الخليج بدأت بالصحراء، وتوقّفت عند محطة النفوذ فحسب. فهي تدخل منذ سنوات في طور خلق نموذج متقدّم في الإصلاح الشامل وفق معايير جودة الحياة وسلامة الحدود بالمقاييس العالمية.
إنّه جيل مختلف عن الصورة النمطية لأهل الخليج العربي.
شباب وشابّات يجيدون أكثر من لغة أجنبية، بعيدون عن سلوك المحافظة الاجتماعية والأعراف التقليدية، مصادر تعليمهم غربيّة، منفتحون على العالم، ويشكّلون أطرافاً فاعلة ومشاركة بقوّة في وسائل التواصل الاجتماعي.
ثقافتهم الوطنيّة وتنشئتهم مصدرهما محليّ، يتابعون أغنيات الـ”MTV” العالمية الصاخبة، نجومهم مزيج من شاكيرا وبانيسي وريهانة وجورج كلوني وجوليا روبرترس وليدي غاغا، وقصي الخولي ونادين نجيم ونيللي كريم وهند صبري ونجوم “طاش ما طاش” وحسين الجسمي ومحمد عبده وعبد المجيد عبدالله وبلقيس وحسن شاكوش وسيف نبيل.
وفي الكرة يتابع صبايا وصبيان تشجيع فرق الهلال والنصر والاتفاق والشباب والأهلي والاتحاد والعين والسد والمحرق والزمالك وبيراميدز.
وفي الوقت نفسه يتابعون أوّل بأوّل مانشيستر يونايتد، مانشيستر سيتي، باريس سان جيرمان، ريال مدريد، ليفربول، نابولي، روما وبرشلونة.
بعد سباقات الخيل والإبل يتابعون بشغف سباقات الفورمولا وان التي شقّت لها طرقاً خاصة ومدارج في السعودية والإمارات وقطر وصحراء حائل.
تلك الشريحة من 16 إلى 35 عاماً تحوّلت مع مرور الوقت إلى ما يساوي ثلثيْ المجتمع الخليجي.
هؤلاء هم الجهات التنفيذية للأمور في المجتمع الخليجي داخل الأجهزة الحكومية والمصارف والقطاع الخاص وقطاع الخدمات.
تلك الشريحة العمريّة هي “مركز الثقل الشعبي” في التركيبة الديموغرافية، وإرضاؤها وتلبية احتياجاتها هما معيار ومؤشّر الاستقرار الاجتماعي والرضاء السياسي في دول الخليج.
تجعل هذه المعادلة من الرأي العام الخليجي تركيبة مختلفة عمّا عرفناه: “تركيبة شابّة متعطّشة إلى الحرّيات الاجتماعية، منفتحة على العالم، تسعى إلى تلبية احتياجاتها بشكل منظّم، تسعى إلى جودة الحياة، غير مسيّسة مع كونها مطّلعة، غير متطرّفة مع كونها ذات جذوة مؤمنة ومتديّنة”.
هنا يصبح حساب الحاكم الخليجي هو إشباع النوعيّات في ظلّ تأمين المجتمع والعمل على تحقيق أكبر قدر من جودة الحياة مع التركيز على الحريات الاجتماعية أكثر من الحريات السياسية.
من هنا نجد في السعودية موسم الرياض والفورمولا وان، وفي دبي معرض الإكسبو، وفي الدوحة كأس العرب، وقريباً كأس العالم، وفي عمان برنامج طموح للسياحة، وفي الكويت “هلا فبراير”، وفي البحرين برنامج حائل للسباقات العالمية.
في ظلّ هذا لا يوجد ضغط على أيّ حاكم خليجي بالتدخّل في سوريا، أو إيقاف البرنامج الصاروخي الإيراني، أو تجييش الشباب لاستعادة القدس، أو جمع تبرّعات لإطعام الشعب اللبناني.
الأمير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد لديهما 4 اعتبارات ثابتة ضاغطة لا يمكن تجاهلها:
1- وجود فراغ استراتيجي أميركي بسبب سياسة فريق بايدن لإعادة التموضع.
2- العالم، وبالذات الكبار منه، يرى في دول الخليج “زبوناً”، والعلاقة مع دول الخليج هي مسألة بيع وشراء.
3- الجميع من الكبار، وعلى رأسهم واشنطن، على استعداد فوري لبيع العالم العربي للإيراني والتركي والإسرائيلي مقابل السعر المناسب.
4- الرهان الوحيد الممكن بالنسبة إلى الرياض وأبوظبي هو الرهان على تماسك النظام في الداخل، وإنشاء منظومة إجراءات تكون بمنزلة شبكة تأمين للبلاد والعباد من آثار التغيير الجذري الذي نتج عن سياسات بايدن.
من هنا يمكن فهم أنّ بيانات وكلمات وخطب زعماء مجلس التعاون في اجتماعهم الأخير منذ أيام غير معنيّة مباشرةً بلبنان ولا حكومته، ولا تضع الصراع العربي-الإسرائيلي في الهواء.
ما يهمّ الأمن القومي الخليجي هو منع التهديد المباشر لأراضي دول الخليج ومصالحها. لذلك جاء التركيز في هذا المؤتمر داخل الجلسات العلنية واللقاءات الجانبية على:
1- الوضع في العراق ودعم حكومة مصطفى الكاظمي ودعم الاتجاه العروبي داخل شيعة العراق.
2- الإصرار على وجود دور لدول مجلس التعاون الخليجي في أيّ منظومة أو تسوية دولية للمنطقة.
3- تحقيق الجديّة الكاملة والانضباط الصارم في إضعاف البرنامج النووي الإيراني، ومنعه من إنتاج أوّل قنبلة. وتشعر أيضاً هذه الدول بقلق من مشروع الصواريخ الباليستية.
4- إصرار دول الخليج العربي على أنّ الدور الإيراني هو “دور تخريبي في المنطقة” يحاول استخدام أدواته في أربع دول عربية للمقايضة بها وعليها في صراعه مع واشنطن.
الأمر المؤكّد الآن أنّ دول الخليج العربي لا تريد، ولا تسعى، وتتجنّب تماماً الدخول في مواجهة مع الوجود الإيراني في المنطقة بشكل غير مباشر أو مباشر.
وفي زيارة ماكرون الأخيرة لدول الخليج سمع الرجل من كلّ العواصم الخليجية الكلام الذي يقول: “نحن في الخليج نرى أنّ إيران هي الخطر الأكبر، وأنّ الاتفاق النووي معها سيدفعها إلى مزيد من التدخّلات في المنطقة، لكن في الوقت نفسه نرى أنّ المواجهة العسكرية معها، وبالذات من قبل إسرائيل، سوف تشعل المنطقة التي تتحكّم بموارد التجارة وإنتاج النفط في العالم”.
هذا الكلام سمعه رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، وهو يزور أبوظبي خلال الأسبوع الماضي، من وليّ عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد.
تريد أبوظبي سلاماً طبيعياً يؤدّي إلى نتائج إيجابية في كلّ المجالات مع إسرائيل، لكنّها أيضاً تنأى بالنفس عن أيّ أعمال عسكرية مع إيران.
من هنا أيضاً يمكن فهم سياسات تصغير المشاكل الإقليمية التي زادت في العقد الأخير من تركيا إلى إيران، ومن قطر إلى سوريا.
يريد الجميع التفرّغ لـ”تنمية الوجود وسلامة الحدود”.
انطلاقاً ممّا سلف يمكن فهم لماذا وصل إجمالي مشتريات السلاح المتقدّم وعقود الصيانة وقطع الغيار لدول مجلس التعاون الخليجي إلى ما يقارب 55 مليار دولار خلال العام الماضي.
إنّه خليج عربي مختلف، بتركيبة ديموقراطية شابّة، بقيم اجتماعية عصرية، بإدارة براغماتية، بزعامات واقعية، في منطقة مضطربة وعالم مأزوم، وتوازنات عالمية مرتبكة وغامضة.
يخلق هذا كلّه محتوى جديداً لدور مجلس التعاون الخليجي، ويضع خليجاً عربياً ذا “نيو لوك” في عام 2022.