تل أبيب تستصرخ واشنطن في الوقت المستقطع: «النووي» تجاوزَنا… استدركوا الصواريخ!
الأخبار- علي حيدر
لا خلاف على أن فرْض الوقائع في سياق حركة الصراع بين الأطراف الدوليّين والإقليميّين، يشكّل إنجازاً هامّاً بذاته، خاصة إذا كان من شأنه التأسيس لمعادلات تشكّل تحوّلاً جذرياً في اتّجاهات الصراع. لكن الأهمّ ممّا تَقدّم هو أن يُسلِّم «الأعداء» بتلك الوقائع، بحيث تتحوّل إلى عامل محدِّد في تقديراتهم وسياساتهم العمليّاتيّة. هذا ما ينطبق تماماً على حالة إيران وخصومها؛ إذ نجحت الأولى في فرْض نفسها على الأخيرين كـ«دولة عتبة نووية»، وهو ما يلاقي إقراراً إسرائيلياً صريحاً، يستبطن مخاوف على الأمن القومي والمكانة الاستراتيجية للكيان العبري. ويتّخذ ذلك الإقرار أشكالاً مختلفة، منها ما يتمّ التعبير عنه عبر اتّهام رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، بأنه «غفا وقت الحراسة»، كما ورد على لسان رئيس الحكومة الحالي، نفتالي بينت؛ أو ما جاء على لسان رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، اللواء عاموس يادلين، من أن «إسرائيل غادرت موقع الحراسة»؛ أو ما حذّر منه رئيس الوزراء السابق، إيهود باراك، من أن «الوضع الاستراتيجي لإسرائيل يتغيّر نحو الأسوأ». ويُعدّ التوصيف الأخير غير مسبوق منذ عقود؛ إذ اعتادت التقديرات الاستخبارية العسكرية السنوية التأكيد في كلّ مرة أن المكانة الاستراتيجية لإسرائيل لا تزال في موقع متفوّق. لكن اليوم، يعتقد باراك أن «إيران ستُعزّز أيضاً مكانتها الإقليمية والعالمية، وسيُنظر إليها على أنها حقّقت توازناً استراتيجياً مع إسرائيل، وستستفيد من صورة الدولة التي تحدَّت وفرضت إرادتها على العالم».
الثابت، في كلّ ما تَقدّم، هو تحميل المسؤولية عمّا آلت إليه الأمور للثُنائي نتنياهو – (دونالد) ترامب؛ كونهما وفّرا المبرّر والدافع لإيران لتطوير برنامجها النووي، ردّاً على الانسحاب من الاتفاق، وفرْض عقوبات على طهران لم تنجح في إسقاطها أو إخضاعها، فضلاً عن أن الطرفَين لم يبادرا إلى تبنّي خيار استهداف المنشآت النووية الإيرانية عبر هجوم عسكري جوّي وصاروخي، في ظلّ فشل خيار الحرب الاقتصادية. مع ذلك، فإن شخصنة المسؤولية عن الفشل، كما ورد على ألسنة بينت وباراك ويادلين والكثير من المعلّقين والخبراء، إنّما من شأنه التغطية على حقيقة أخرى، مفادها أن إسرائيل نفسها، بما تملكه من قدرات وخيارات، هي التي فشلت في مواجهة إيران، وهو ما ساهم في تظهير جانب أساسي منه تمسّك الوفد الإيراني في مفاوضات فيينا بثوابت بلاده النووية والصاروخية والإقليمية. وليس هذا الفشل معزولاً، حتماً، عن فعّالية قوّة الردع الإيرانية، باعتبارها أحد أهمّ مداميك استراتيجية الجمهورية الإسلامية العليا، والذي نجح – إلى الآن – في تحييد الخيار العسكري الأميركي والإسرائيلي. ومن هنا، وجدت واشنطن وتل أبيب نفسَيهما أمام ضرورة تبنّي خيارات بديلة، تقوم على أساس شنّ عمليات أمنية وتكنولوجية، توازياً مع حرب اقتصادية وسياسية، تجنّباً لمواجهة واسعة في حال المبادرة إلى أيّ هجوم عسكري. لكن حتى هذه الخيارات لم تُحقّق المُراد منها، لا في منْع إيران من مواصلة تطوير برنامجها النووي، ولا في إخضاعها.
بناءً على ذلك، يعكف القادة الإسرائيليون، الحاليون والسابقون، على مقاربة الخيارات البديلة ومدى جدواها وكلفتها، توازياً مع استمرارهم في تشريح الواقع المتشكّل والتحذير من خطورته. وفي هذا الإطار، نبّه باراك إلى أن «إعداد خيار عسكري لعرقلة البرنامج النووي الإيراني، يتطلّب عدّة سنوات ومساعدات مكثّفة من الولايات المتحدة»، في الوقت الذي «لا تحتاج فيه إيران سوى إلى عدّة أشهر للتحوّل إلى دولة عتبة نووية، بحيث لا يمكن منعها من الوصول إلى سلاحٍ نووي في التوقيت الذي تختاره». ولعلّ المسألة الأخطر، من وُجهة نظر باراك، هي أنه يمكن بسهولة إخفاء «مجموعة السلاح» (المختصّة بالقنبلة النووية)، بحيث لا يمكن لمفتّشي الأمم المتحدة، بعد عبور طهران «العتبة النووية»، التأكّد من أن إيران لا تتقدّم سرّاً نحو امتلاك قوّة نووية حقيقية. وفي السياق نفسه، قال يادلين بخصوص قدرة الإيرانيين على امتلاك القنبلة: «لقد قُضي الأمر»، معتبراً أن الواجب الآن يتمثّل في التركيز على الصواريخ التي تحمل القنبلة. وعلى المستوى الرسمي، أقرّ بينت، ضمناً، بعدم جهوزية إسرائيل لمواجهة إيران، عندما تحدّث عن «الفارق الكبير» الذي اكتشفه لدى تولّيه منصبه، بين ما كان يصدر على لسان نتنياهو، وبين واقع الجهوزية الإسرائيلية.
ولعلّ التطوّر الأحدث الذي أسهم في مفاقمة القلق الإسرائيلي، هو أن إيران عادت إلى مفاوضات فيينا بعدما شغَّلت أجهزة الطرد المركزي المتطوّرة في «منشأة فوردو»، حيث يجري تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، وهو ما رأى فيه بينت «خطوة في غاية الخطورة». وعلى هذه الخلفية، أتى تواصله مع وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في «محادثة طويلة وصعبة»، وقرارُه إرسال وزير الأمن بني غانتس، ورئيس «الموساد» ديفيد برنياع، إلى واشنطن، لإجراء مباحثات مع المسؤولين الأميركيين، بعد جولة لوزير الخارجية، يائير لابيد، في أوروبا للغاية نفسها. وأوضح بينت الهدف من هذه الزيارة، بالقول: «هدفنا الآن هو استغلال نافذة الوقت التي تشكّلت بين الجولات لنقول لأصدقائنا في الولايات المتحدة إنه حان الوقت المناسب لاستخدام سلّة أدوات مختلفة أمام التقدّم الإيراني فائق السرعة في مجال التخصيب». وأشارت «القناة 12» في التلفزيون الإسرائيلي، بدورها، إلى أن برنياع سيقدّم للأميركيين معلومات جديدة من شأنها التأثير على المفاوضات، محورها أنه بات لدى إيران ما يكفي من اليورانيوم المخصّب (لإنتاج السلاح النووي)، وأنه ينبغي التركيز على مجالَين إضافيَين: تطوير جهاز التفجير (النووي) الذي يمثّل العنصر المركزي في عملية إنتاج القنبلة، وكذلك تطوير الصواريخ الباليستية.
وفي ظلّ تفاقم حالة الإرباك الإسرائيلية، ومحاولة التعمية عليها برفْع مستوى التهديد، جدّد بينت تشديده على أنه «لا بدّ من تكبيد إيران ثمن انتهاكاتها» للاتفاق النووي، وعدم رفْع العقوبات عنها، في موقفٍ يَصعب إحصاء عدد المرّات التي سُجّل فيها منذ أكثر من عقد، حتى تَحوّل تكراره إلى مؤشّر إضافي إلى ارتداع تل أبيب عن تفعيل خياراتها التقليدية في مواجهة هكذا تحدّيات، كما فعلت في العراق عام 1981، وفي سوريا عام 2007. وفي هذا السياق، نبّه باراك إلى أنه «ليست هناك أيّ فرصة لتحويل الولايات المتحدة عن سُلّم أولوياتها (مواجهة الصين)، أو إقناعها بأن تقوم في المدّة القريبة بمهاجمة البرنامج النووي الإيراني بهدف إرجاعه عدّة سنوات إلى الوراء»، مضيفاً أنه «أصلاً، ليس من الواضح إن كان يوجد الآن، لدى الولايات المتحدة أو إسرائيل، خطّة قابلة للتنفيذ لهذا الهدف». أمّا بخصوص خيار العمليات الأمنية والتكنولوجية التخريبية، فقد أثبتت تجارب السنوات الماضية محدودية نتائج هذا الخيار، إضافة إلى الخشية المستجدّة من أن تعمد إيران إلى الردّ على مِثل هذه العمليات، على طريقتها، كما فعلت عندما رفعت التخصيب إلى مستوى 20% ردّاً على اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة، وإلى 60% ردّاً على تفجير «منشأة نطنز».