طوفان المرتزقة: حروب باللحم الرخيص
الأخبار- وليد شرارة
لجوء الإمبراطوريات والدول إلى تجنيد جيوش من المرتزقة لخوض حروبها، توسُّعيةً كانت أم دفاعية، ظاهرةٌ قديمة، وسابقة للحداثة السياسية وصيرورة الرأسمالية نظاماً عالمياً. منذ العصر الروماني، ومن ثمّ البيزنطي، مروراً بذلك العربي – الإسلامي، وصولاً إلى بدايات العصر الحديث، الذي شهد «اكتشاف» الغرب لبقيّة قارّات المعمورة، واجتياحَه إيّاها ونهبها، لعِب المرتزقة والقراصنة، مرتزقة البحار والمقاولون – المغامرون، دوراً حاسماً في مثل هذه الحروب. ومن اللافت أن نيكولاس ميكيافيلي، وهو من بين أبرز رموز الحداثة السياسية، كرّس قسماً هامّاً من مساهماته الفكرية، تحديداً «الأمير» و«فنّ الحرب»، لنقد استعانة المدن – الدول الإيطالية بالمرتزقة خلال تصدّيها لغزوات فرنسية وسويسرية وجرمانية، وفسّر هزيمتها باعتمادها على هؤلاء، داعياً إلى استبدال «السلاح القذر» بـ«السلاح الطاهر»، أي بجيوش وطنية تستند إلى التجنيد الإلزامي. تأسيس هكذا جيوش، والاستغناء عن «خدمات» المرتزقة الواسعة النطاق، كانا من بين السمات الأساسية للدول الوطنية الحديثة التي نشأت في الغرب، حتى ولو ضمّت الأخيرة في صفوفها، خاصة تلك الاستعمارية، فِرَقاً من أبناء المستعمرات، فقيرة التجهيز والتسليح، من أجل استغلالها «لحماً حيّاً للمدافع» حسب التوصيف الذي كان سائداً، في معارك لا ناقة لها فيها ولا جمل، ولا مرابح بكلّ تأكيد. وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، استمرّ انحسار ظاهرة المرتزقة على النطاق الدولي العام، باستثناء أفريقيا، حيث لم تتوقّف القوى الغربية عن اتّباع الأنماط الأكثر فجاجة ووحشية من العنف الاستعماري ضدّ حركات التحرّر في القارّة السمراء.
هذه الصلة العضوية بين استخدام المرتزقة والاستعمار لم تغب عن بال المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة، وهو الهيئة التي حلّ في مكانها في ما بعد مجلس حقوق الإنسان، الذي عَيّن، وبدفع من بلدان الجنوب في عام 1987، مقرّراً خاصاً في شأن استخدام المرتزقة لمنع شعوب بأكملها من ممارسة حقها في تقرير المصير. ففي الكونغو في عام 1961، وفي أنغولا وموزمبيق وزيمبابوي طوال سبعينيات القرن الماضي، وكذلك في بنين وجزر السيشيل، شكّل المرتزقة قوّة رديفة لجيوش المستعمرين، وأيضاً لجيش جنوب أفريقيا أيام الفصل العنصري، وساهموا بشراسة في قتال حركات التحرّر، وهُزموا شرّ هزيمة في النهاية. غير أنه مع نهاية الثنائية القطبية، وبفعل عوامل بنيوية جيوسياسية واقتصادية – اجتماعية، رأينا تضخّم ظاهرتَين تمثّلان صيغة متجدّدة لنمطَين من الارتزاق: الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة من جهة، وعدد من المنظّمات غير الحكومية الخبيرة بالثورات الملوّنة من جهة أخرى. ومن اللافت أن اللجوء إلى خدمات هكذا شركات ومنظّمات لم يَعُد حكراً على دول الغرب وحدها.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي، سعت دول الغرب، وفي طليعتها الولايات المتحدة، إلى بسط سيطرتها على جميع بقاع العالم التي لم تكن خاضعة لها. شنّت حرباً أولى على العراق بذريعة تحرير الكويت في عام 1991، وأخرى على صربيا بحجة إنقاذ أهل كوسوفو في عام 1999. في الواقع، ما ميّز الحربَين هو غياب المعارك البرّية، واقتصار القتال على القصف الكثيف والمركَّز عن بعد، من الجوّ أو باستخدام الصواريخ الذكية، كترجمة لـ«الثورة في الشؤون العسكرية» التي أنجزها الجيش الأميركي آنذاك. عكست هذه العقيدة العسكرية، التي تهدف إلى الانتصار في الحرب من دون معركة، أي من دون أكلاف بشرية في صفوف الجيش الأميركي، مع إلحاق خسائر فادحة بقوات العدو ومدنيّيه وبناه التحتية، إضافة إلى منطق الحسابات العسكرية الصرفة، عُمقَ التحوّلات الاجتماعية – الثقافية في بلدان الغرب المترفة. مؤرّخ الاستراتيجية العسكرية الأميركي، إدوارد لوتواك، اعتبر أن تلك التحوّلات تعود إلى ما سمّاه «سطوة الأمهات»، أي رفض قطاعات وازنة من المجتمعات الغربية ذهاب أبنائها للموت في الحرب، نتيجة لما خلّفه الرخاء الاقتصادي وتحسّن مستويات الحياة من تأثيرات على منظومة القيم السائدة، وأهمّها الاستعداد للتضحية بالنفس في سبيل قضية «أسمى». صحيح أن عمليات 11 أيلول 2001، المشهدية والصادمة كونها غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة، عدّة سنوات بعد ما كتبه لوتواك، استفزّت «الوطنية الأميركية»، ما سهّل لإدارة بوش الابن إرسال عشرات آلاف الجنود إلى أفغانستان والعراق، غير أن مزاج الرأي العام انقلب، مع مرور بضع سنوات من الحرب المستمرّة، بسبب ارتفاع الخسائر بين الجنود الأميركيين.
المجتمعات المترفة تكره الموت أكثر من غيرها؛ لذا، هي أبدعت في اختراع آلات القتل الذكيّة، وفي جلب فقراء ملوّنين للقتال في مكان أبنائها. لوتواك نصح في بداية التسعينيات بإعادة تشكيل وحدات من المرتزقة، داخل صفوف الجيش الأميركي، أو كقوّات رديفة له، وفق نموذج وحدات «الغوركا»، وهم جنود من أصول نيبالية ضَمّهم الجيش البريطاني إلى صفوفه منذ 200 عام، وعُرفوا بشراستهم وولائهم له. وقد أظهر الدور المتعاظم للشركات الأمنية والعسكرية الخاصة خلال حربَي أفغانستان والعراق (2003)، وخلال الحروب التي تلتها، كالحرب على ليبيا وسوريا مثلاً، أن رؤية لوتواك مطابقة لتلك السائدة داخل الدولة العميقة الأميركية. عامل آخر عَزّز هذا الدور، وهو اتجاه الدول، بفعل التوجّهات النيوليبرالية، لتلزيم قسم من وظائفها السيادية، بما فيها الأمنية والعسكرية، كإدارة السجون، والمهامّ اللوجستية، وحراسة مواقع حيوية، والمشاركة في عمليات عسكرية أو في عمليات اغتيال، إلى درجة أن بعض الخبراء تحدّث عن «خصخصة الحرب». ما ينبغي لحظه، هنا، هو أن نوعاً من تقسيم العمل يسود في هذه الشركات، حيث يحتلّ الغربيون المراتب العليا، والملوّنون، أي الذين تعود أصولهم إلى دول في الجنوب، المراتب السفلى. ولا شكّ في أن الخراب العميم الذي حلّ بالعديد من الأخيرة، بفعل الحروب العدوانية، وفشل عمليات التنمية والاندماج الوطني، وما تبعها من عمليات تفكّك للمجتمعات نفسها، كلّ ذلك قد خلق أرضية خصبة لشركات الأمن الخاصة لتجنيد مرتزقة مستعدّين للموت مقابل تأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات البقاء لذويهم.
بحسب تقرير للأمم المتحدة، يشارك نحو 20 ألفاً من المرتزقة في الحرب الليبية في صفوف طرفَيها المتنازعَين، وجلّهم من التشاديين والسوريين والسودانيين، حتى إن البعض أكد أن هذه الحرب باتت تمثّل في أحد أبعادها امتداداً للنزاعات الدائرة في بلدانهم. لكنها، وغيرها من النزاعات كذلك الذي اندلع بين أرمينيا وأذربيجان، أو العدوان السعودي على اليمن، أو بعض الانقلابات أو المواجهات التي وقعت في بلدان كالسودان ومالي وأفريقيا الوسطى وغينيا كوناكري، كشفت اتّجاه قوى دولية وإقليمية صاعدة، كروسيا وتركيا مثلاً، للاستعانة بخدمات المرتزقة عبر شركات أمنية خاصة، ذات علاقات أكثر من وطيدة بالأجهزة العسكرية والأمنية للدولتَين. فشركات كـ«فاغنر» الروسية، أو «سادات» التركية، أو تلك المتعدّدة التي يملكها رجل الأمن والمقاولات محمد دحلان، على صلة وثيقة بصنّاع القرار في بلدانها. الاعتبارات إيّاها، المُشار إليها سالفاً، التي حكمت لجوء الأطراف الغربية إلى المرتزقة، تَحكم مقاربة القوى الصاعدة الجديدة. مناطق الفقر المدقع في الجنوب كانت خزّاناً احتياطياً لليد العاملة الرخيصة لمصانع الشركات المتعدّدة الجنسيات، لكنها أصبحت اليوم أيضاً مصدراً لـ«لحم حيّ» رخيص للمدافع. وإذا كان تجنيد مرتزقة للقتال يتمّ أساساً في بيئات اجتماعية معدمة، فإن تجنيداً من نمط آخر يستهدف شرائح مختلفة من الطبقات الوسطى، بغية استقطاب عناصر للعمل في المنظّمات غير الحكومية التي تتحرّك في إطار الإستراتيجية العامّة لدولة بعينها. وقد أدّى الإفقار الكبير للطبقات المذكورة، بفعل السياسات النيوليبرالية، وانسداد الأفق الذي تواجهه بلدانها، بفعل عدم وجود قوى منظّمة قادرة على فرض التغيير السياسي، إلى تبدية فكرة الخلاص الفردي، المحتمل، عبر العمل مع المنظّمات المذكورة، على فكرة الخلاص الجماعي، والذي يبدو مستحيلاً في نظر الكثيرين.