ماذا بعد الانهيار الشامل… ومتى الخلاص؟
} علي بدر الدين-البناء
لم يعد مفيداً ولا مطلوباً من القوى السياسية والطائفية والمذهبية والسلطوية الادّعاء والحرص على لبنان وشعبه، وهي تغرقهما بمزيد من الأزمات والخلافات والانهيارات والبطالة والفقر، ولا إطلاق الوعود الكاذبة والمواقف المزيّفة عالية النبرة، ولا تسويق ألاعيب التحايل و»الضحك على الذقون» من خلال جرعات و «منشطات تحفيزية» لتخدير الشعب، وجرّه بإرادته أو من دونها، إلى مسالخها وشحذ سكاكينها على رقابه، «لذبحه» بهدوء وأعصاب باردة، بعد أن حققت مرادها، مما افتعلته من أزمات ومشكلات وصراعات وحروب وفتن وانهيارات اقتصادية ومالية وخدماتية واجتماعية ومعيشية، ويحصد اللبنانيون، نتائجها وتداعياتها وأخطارها بالمزيد من الفقر والجوع والأمراض حتى بلوغ الاحتضار، وهم صامتون ومستسلمون وراضون بقدرهم، وكأن الأمر لا يعنيهم، او أنهم خارج المكان والزمان والقرار والفعل، وهم وحدهم يتحمّلون الأوزار والأثمان الباهظة على يد طبقة سياسية ومالية فاسدة أقله منذ اتفاق الطائف الملغوم (١٩٨٩/ 1990) لم تشهد أنظمة الحكم مثيلاً لها في العصر الحديث، ولا يتحمّل بطشها وفسادها وتحاصصها وصراعاتها أيّ شعب في أيّ دولة على وجه الكرة الأرضية (على حدّ علمنا).
على الرغم من كلّ المعاناة التي حطت رحالها على اللبنانيين، فإنّ الطبقة السياسية، لا تزال تمعن في سياساتها وسلوكياتها لغاية اليوم من دون توقف، حتى تنهي مقاولتها بتحويل لبنان إلى دولة مارقة هزيلة، وشعبه إلى هياكل عظمية من دون روح ولا حياة، ليسهل عليها طحنه و»تذريته» في مهب الريح، تارة بسرقة مقومات معيشته وحقوقه وأمواله، وتارة أخرى بإفقاره وتجويعه، وطوراً بتشريده وتهجيره، وأحياناً بتخويفه من الآخر ومن الفتن المتنقلة والحرب الأهلية، وإيهامه بأنها باتت على الأبواب، وهو الذي عانى منها، وخبر تجاربها المرة والقاسية، قتلاً وخطفاً على الهوية وتدميراً لأملاكه ونهبها، أو من خلال تفلت «المافيات» والشبيحة والزعران، وفتح الأسواق السوداء، للتلاعب بلقمة عيش المواطن وبالدولار والوقود والكهرباء والماء والدواء والغذاء، التي بات الحصول على النذر اليسير منها، مجرد حلم بعيد المنال.
لا هدف لهذه الطبقة بمكوناتها ومنظومتها، سوى السيطرة المطلقة والكاملة على السلطة ومقدرات البلد والدولة والشعب والمؤسسات، والمكتسبات ومواصلة التحاصص، وعقد الصفقات المشبوهة المكشوف منها والمستور عليها، وقد بدأ أول «غيثها» يمطر أسماء وأفعالاً وفضائح بالجملة والمفرّق، لجني المزيد من الأموال، ولتراكم الثروات وتهريبها إلى الخارج، لتؤمّن مستقبل عجزها عند خروج قطارها بعد عمر طويل عن سكة السلطة والمال والفساد، إذا ما كتب لها النجاة من متغيّرات مفاجئة قد تطيح بها في لحظة غير محسوبة، والأمثلة حولنا كثيرة، حيث تهاوت أنظمة بكاملها، وسقط حكام بشرّ أعمالهم، أو قتلوا او هربوا، بفعل عوامل خارجية أو داخلية أو الإثنين معاً، او بثورات شعبية، أطاحت ببعضها ورمتها خارج حدود أوطانها، بعد ان طفح كيل فسادها وظلمها واستبدادها.
غير أنّ شعب لبنان، قد يشكل استثناء بين شعوب المنطقة والعالم، وأنّ غضبه رغم كلّ المصائب والكوارث والمآسي التي حلت به، ما زال مكبوتاً ومغيّباً ومسيطراً عليه، لأنّ حكامه نجحوا بإشباعه حليب الطائفية والمذهبية والمناطقية والعصبية، وأتخموا بطونه ونفوسه وعقوله بالأحقاد والضغائن والغرائز والخوف الدائم وتكبيله بها، حتى عطلوا عنده إرادة الحياة، وسلبوا منه المواطنية السليمة، وأنسوه حليب أمه وقيم العدالة والمساواة والكرامة والعيش الكريم، فأصبح أسيراً لها، وتابعاً ومرتهناً وفاقداً للأهلية الوطنية والإنسانية، وتعلّب داخل مفاهيمها وتوجهاتها، ملتزماً بخياراتها وما تفرضه عليه «على العمياني»، من دون نقاش أو سؤال أو أيّ رد فعل اعتراضي، يمكن ان يعيد له الحدّ الأدنى من حقوقه المفقودة.
لبنان يتهاوى، وانفراط عقد دولته بات «قاب قوسين»، ومؤسساته تنهار الواحدة تلو الأخرى، وشعب مسكون بالفقر، وكرة نار المجاعة المحتومة تتدحرج بسرعة لتفتك به، وهو لا يحرك ساكناً، كأنه في موت سريري، والسلطة تواصل ضرباتها بقوة وقسوة، لتقطيع أوصال البلد، الذي حوّلته إلى ساحة مكشوفة لصراعات الدول ومصالحها، حيث أصبح الحاضن والمربّي لها، فإذا «حبلت» في أيّ دولة، فإنها تلد في لبنان، وترمي وليدها في أحضان السلطة، لتحلّ مشاكلها على حساب أمنه واستقراره وسيادته و»استقلاله، ولترمي حمولتها الزائدة وأثقالها على الشعب المسكين اليتيم وتحويله إلى مكسر عصا، وكأن «ما فيه لا يكفيه».
هذه السلطة ترى أنّ مصلحتها تكمن في إرداء شعبها وبجعل «الحبة قبة» في كلّ أمر أو حدث او ايّ شيء، كسباً للمال والسلطة والوقت، وتعمد إلى تكبير حجرها في مواجهة الأحداث والأزمات المزمنة أو المستجدة، بفتح ملفات في غير أوانها، وإقفال أخرى، بما تقتضيها ضرورات مصالحها الخاصة على مستوى الوطن والشعب والسلطة، وهي تتكاثر منها تحت مبرّرات ودواع انتخابية، وهذا أمر عادي يحصل قبل أيّ استحقاق انتخابي.
إنه كلام حق يُراد به باطل، لأنّ ما حلذ بلبنان والدولة والشعب، لا علاقة له بهذا الاستحقاق الانتخابي النيابي، الذي قد لا يحصل، على ضوء تطورات بالغة الخطورة داخلياً وخارجياً، وفي ظلّ منظومة سياسية لا همّ لها سوى حاضرها ومستقبلها السياسي السلطوي، ولو ادّى ذلك إلى الحرب وسقوط لبنان في المجهول المدمر.
ماذا بعد كلّ هذه الانزلاقات وتفاقم الأزمات، وتوسع دائرة الانهيارات والانكسارات والانتكاسات على مستوى السياسة والأمن والدولة والاقتصاد والمال، وانعدام الخدمات وطغيان الاحتكار والجشع والطمع، وتعميم الفقر والجوع وتفشي البطالة، وهجرة الشباب والأطباء والمبدعين في مجالات مهنهم وأعمالهم. ماذا بعد وإلى أين المسير للوطن، والشعب وقد تحوّلا إلى حقول رماية للآخرين، أو الى ملاعب يسرحون ويمرحون عليها ويتقاذفون المصالح والأجندات، وكأنهما أملاك سائبة من دون سلطة ترعاهما او شعب يدافع عن نفسه ووطنه، أو قد أجّرتهما الطبقة السياسية والمالية والسلطوية لمدة ٩٩ سنة لدول في المنطقة أو الإقليم أو العالم.
ماذا بعد، والحكومة لا معلقة ولا مطلقة ولا ستحط رحالها قريباً في القصرين، والجدل حول قانون الانتخاب او بعض مواده غير المؤثرة على حاله من الأفعال وردود الأفعال والمواقف والتهديد والوعيد بالطعون. والتحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت أو في أحداث الطيونة الدامية، موضع تجاذبات وسجالات ومواقف عالية السقف السياسي والطائفي، في حين أنّ سعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية إلى التحليق عالياً، والأسعار تواصل ارتفاعها الجنوني من دون ضوابط، حيث تركت السلطة القرار والخيار لتجار الاحتكار والفساد الذين يتحكمون في السوق السوداء والحمراء الملتهبة…!
ماذا بعد، ومتى الخلاص؟ الناس تسأل أصحاب الأمر والنهي والحلّ والربط والقرار والسلطة والمال والنفوذ والتحاصص، الجواب عند كلّ هؤلاء يتلخص بفائض من التأزم السياسي والطائفي والمذهبي، وبأنّ الآتي من الزمن قد يكون أفضل ولكن، بعد مخاضات عسيرة، وربما المزيد من زهق الأرواح وسيلان الدماء ومن المعوقين والفقراء والجائعين والمعدمين والأموات و»خراب البصرة»…