هزيمة جورج قرداحي
معن البياري
يرنّ هاتف جورج قرداحي، فيردّ. يعرّفه المتحدّث معه بنفسِه، ويتبادل مجاملاتٍ معه، ثم يسأله إن كان في وُسعه أن يشارك في برنامجٍ اسمُه “برلمان شعب”، تبثّه منصّة ديجيتال لشبكة الجزيرة. يستوضح قرداحي عن طبيعة البرنامج، يجيبه مكلّمه أن شبانا من دول عربية يوجّهون أسئلة إلى الضيف، ثم على ضوء إجاباته، يعطيه “البرلمان” الثقة به أو يححُبها عنه. راقت الفكرة لقرداحي. طاف في باله أن برنامجا كهذا فرصةٌ للتعرّف على انطباعات نخبةٍ مصطفاةٍ من شبّان عرب، في مطالع عشرينياتهم، بشأن برنامجه الشهير “من سيربح المليون”، وبرامج أخرى قدّمها، وحازت شعبيةً في العشرين عاما الماضية. ربما لديهم مؤاخذاتٌ وانتقاداتٌ وملاحظاتٌ واستيضاحات، سيجيب عنها بسرورٍ وروحٍ إيجابية. ولكن “حسابات السرايا لم تأت كما حسابات القرايا”، فلم يكن الشبّان “البرلمانيون”، من سورية والمغرب ومصر واليمن و..، معنيين بمن ربحوا المليون ولا بمن لم يربحوه، وإنما بجورج قرداحي نفسِه الذي جهر، غير مرّة، إن الربيع العربي لم يعجبه، وإنه معجبٌ ببشار الأسد وبوتين وعبد الفتاح السيسي و… . أرادوا استدعاءه إلى “برلمان شعب” لمساءلته في مدائحه هؤلاء (وغيرهم)، وفي فتاوى سياسيةٍ قالها، في استضافاتٍ سئل فيها عن آرائه في أحوال العرب، بوصفه نجما لا يُسأل فقط عن اختياراته ربطات عنقه، وما إذا كان يحب الشاورما.
ولمّا كان قرداحي متمرّسا في فنون المقابلات التلفزيونية، وفي القدرة على تحبيب الناس بما يسأل عنه ضيوفَه، لم يستوضح عن طبيعة الأسئلة التي سيُلقيها عليه البرلمان الشبابي في منصّة ديجيتال. ربما وجد أنه لو سأل بخصوصها المتحدّث معه في تلك المكالمة الهاتفية قد “يخصم” من صورته في مدارك شبّانٍ يختبرون قدراتهم التلفزيونية في برنامجٍ يحمل اسما مثيرا. لم يستوقفه أن هذا البرنامج تبثّه منصّة تتبع شبكة الجزيرة، وأن هذا الأمر ربما يحيل إلى ما هو غير مطروقٍ من أسئلةٍ في “مطارحاتٍ” سابقة استضيف فيها. وربما جاء إلى مداركه أن استضافته في هذه المنصّة من نواتج قمّة العلا، وهو المحسوب على الإعلام السعودي.
هنا أول أخطاء جورج قرداحي. ظنّ أن الأورام التي تنتفخ بها نجوميّته، ويعزّزها هو نفسُه بابتساماته المعهودة، وبحضوره الأنيق، واحترافه العلاقات العامة، وإشاعة صورةٍ عن شخصه محبّبة بين الناس، ظنّ أن هذه كلها ستُسعفه أمام فتية “برلمان شعب”. لم يدرِ أن هؤلاء متحرّرون من سطوة الصور المتوطّنة لمن تم تصنيعهم نجوما وآباء خالدين وزعماء في الفضاء العربي الركيك. لم يخلع عن نفسه رداء الشهرة التي يسّرتها له “إم بي سي” لمّا دخل قاعة “برلمان شعب”، فكان أول ما فعله مستجوبوه، بعد ترحيب طيّبٍ منهم به، ووصفهم له الإعلامي الكبير، أنهم صيّروه عاريا من هذا الرداء. تلعثم إلى حد ما. بدت عليه علائم الضيق. لم يكن هو هو. تاهت عيناه مرّات. ارتبك. استشعر أنه في كمين. لم يقصد أن يسيء إلى السعودية والإمارات، فيعتبرهما دولتين معتديتين على اليمن (على الحوثيين)، لكن الشابّة المغربية، وصال إدبلا (23 عاما)، التي سألته عن هذا هي التي أخذته إلى هذا الكلام، عندما سأله زميلها (رئيس البرلمان) ما إذا كان يرى ما يفعله البلدان اعتداءً، فهزم نفسه بنفسه لمّا أجاب بالإيجاب. كان الماثل في “المنصّة” قدّام الفتاة وزملائها جورج قرداحي آخر، شخصا (لا نجما) غير وائقٍ من نفسه تماما. كاد أن يكون عصبيا، لولا أنه أسعف نفسَه بشيءٍ من بقايا حصافة. ظنّ أن كلامه عن سوريين في لبنان كانوا “يزحفون” (قال إنه شاهدهم بنفسه!) للتصويت لانتخاب بشار الأسد رئيسا سيُقنع مستجوبيه بأن المذكور فعلا يُحارب معتدين على سورية، ويصدّ “مؤامرة كونية”، وقد استخدم قرداحي هذا التعبير، فدلّ على فقرٍ في مخيلته، في لحظةٍ لم يتخيّل أن يورّطه أحدٌ في مثلها. لم تُنقذه النبرة شبه الخطابية التي استنجد بها، وهو يقول ما يقول عن الأسد وعبد الفتاح السيسي و… .
قال التلفزيوني اللبناني الذي صار وزيرا إنه يرى الحلّ في بلده يكون بانقلابٍ عسكري مؤقت. وعجيبٌ أن شخصا يقيم على هذه القناعة يتم اختياره وزيرا. ولكن صاحبنا هذا ليس وزيرا، إنه مجرّد “حصّة” لجماعةٍ سياسيةٍ في البلد في الحكومة. ارتضى لنفسه أن يكون هكذا، هو الذي ظنّ أنه لمّا سحب ثقته من “برلمان الشعب” الذي صوّت بسحب الثقة منه (امتنع اثنان من 12 عضوا عن التصويت) ردّ الصاع صاعيْن على “الفخّ” الذي قادته إليه أوهامه عن نفسه، لكن الشبّان البديعين، وقد شوهد مهزوما أمامهم، أبلغوه أن هذا ليس من صلاحياته، تماما كما أن ليس من صلاحياته، تاليا، أن يستقيل من الحكومة أو لا يستقيل، فهو “حصّة” فحسب.