ثورة 17 تشرين.. في قفص الاتهام!..
غسان ريفي-سفير الشمال
يمتلأ الفضاء الافتراضي بالصور والفيديوهات التي تظهر الحشود الشعبية التي تحركت في 17 تشرين 2019 وإستمرت لأيام وأسابيع عدة إحتجاجا على السلطة الفاسدة، ورفضا لبقاء المنظومة الحاكمة على كراسيها، وإصرارا على ضرورة تغييرها تحت شعار “كلن يعني كلن”!
الشعرة التي قصمت ظهر البعير في ذاك اليوم، كانت إعلان وزير الاعلام في حكومة الرئيس سعد الحريري جمال الجراح عن قرار الحكومة بزيادة ست دولارات على كل مواطن يستخدم تطبيق واتساب للاتصالات، الأمر الذي فجّر غضبا شعبيا إجتاح لبنان من أقصاه الى أقصاه، وأربك السلطة السياسية وقدم صورة عن إنتفاضة لبنانية وطنية صادقة تستحق الدعم وتلبية مطالبها.
ما كان أحد ليصدق أن اللبنانيين يخلعون عنهم ثوب السياسة والطائفية والمذهبية والمناطقية، ويخرجون من تحت ظلال زعمائهم الى ظلال العلم اللبناني الذي ملأ الساحات، لكن بالفعل فقد بدأ الأمر كذلك في الأيام الأولى للثورة التي لفتت أنظار العالم بأكمله وأعطت اللبنانيين رجالا ونساء شبابا وشيوخا وأطفالا أملا بالتغيير المنشود.. لكن بعد فترة من الضجيج الشعبي بالمطالب المحقة، “راحت السكرة وجاءت الفكرة” ليفاجأ اللبنانيون بأموالهم محتجزة في المصارف، فيما أموال معظم النافذين قد هُربت من لبنان بينما هم منشغلون بثورتهم، وبالدولار يتخذ منحى تصاعديا، وبالغلاء يضرب في كل حدب وصوب، والبطالة تزداد، والمؤسسات تقفل، والجوع يتمدد، والأزمات تتوالد إجتماعيا وإنسانيا وصحيا وإستشفائيا.
نظر اللبنانيون خلفهم فوجدوا أن الساحات قد خلت، وأن الهتافات التي كانوا يطلقونها تحولت الى مجرد صدى، وأن التجمعات الهائلة التي أرعبت السلطة تحولت الى صور صامتة على مواقع التواصل الاجتماعي، أو الى تحركات خجولة بأعداد ضئيلة كما حصل اليوم في الذكرى الثانية.. كما وجدوا كل مكتسباتهم السابقة قد تلاشت، بإنخفاض قيمة العملة، وتراجع القيمة الشرائية للرواتب بحدود 90 بالمئة، وأن راتب الثلاثة آلاف دولار على سبيل المثال غدا ثلاثمئة دولار وقس على ذلك، في حين تنفست السلطة السياسية الصعداء، وإزدادت في تعنتها، وخففت من مصاريفها “المدولرة”، ودخلت هذه السلطة الى الثورة كشريك مضارب مع مؤسسات وجمعيات دولية فعلت فعلها وتحول كثير من الثوار الى مجموعات مرتزقة تنفذ رغبات سياسية وحزبية وأجندات دولية، فيما بقي بعض المؤمنين بها على تمسكهم بالنضال ضمن عدد من الجامعات والنقابات لكن اليد الواحدة لا تصفق.
لبست بعض القوى السياسية لباس الثورة بالرغم من إنغماسها بالسلطة السياسية الى أخمص قدميها، فيما تبنت القوى السياسية الشعارات الثورية، أما الثوار فتحول بعضهم الى قادة محاور يحاولون فرض أنفسهم على مناطقهم بإسم الثورة، أو الى قطاع طرق يحترفون إذلال الناس، أو الى تجار محروقات، أو الى بائعي خدمات يعملون على القطعة لحساب من يدفع أكثر، والبعض الآخر إستمرق شاشات التلفزة والوصول الى السلطة وشكل مجموعات ما لبثت أن تحولت الى متناحرة سعيا وراء مناصب ومراكز يسعى كثيرون إليها، أما السواد الأعظم الذي ملأ الساحات والشوارع مطالبا بحق العيش بكرامة فعاد أدراجه منهكا يائسا تمهيدا لهجرة نهائية أو إنكفاء تام.
في غضون ذلك، تستعيد السلطة السياسية حضورها أكثر فأكثر وتحضّر نفسها للانتخابات النيابية التي يبدو أن طرفها الأضعف حتى الآن هم الثوار الذين تحولوا الى عدة مجموعات كل منها تريد أن تخوض هذا الاستحقاق على طريقتها، فيما تسعى بعض الجهات الى جمعها تحت شعارات موحدة.
كل ذلك، يضع ثورة 17 تشرين في قفص الاتهام، والاتهامات في هذا الاطار تبدأ ولا تنتهي، لكن أبرزها هي: كيف ملأ اللبنانيون الساحات إحتجاجا على ضريبة 6 دولارات على الواتساب أي ما يعادل 9 آلاف ليرة لبنانية آنذاك، فيما كل مرافق الدولة وخدماتها كانت تسير بشكل طبيعي، ولم يتحركوا على دولار بعشرين ألف ليرة، وشلل تام في كل المؤسسات الرسمية وإنقطاع لكل الخدمات وخصوصا الكهرباء؟..
وهل كان هناك مخطط جهنمي لانهيار لبنان بالكامل كما هو حاصل اليوم، وكان يحتاج الى حدث كبير وضخم يعطل البلد ويقفل المصارف ويشل المؤسسات الرسمية والخاصة لفترة لحصول هذا الانقلاب في معيشة اللبنانيين.. فكانت ثورة 17 تشرين التي أدت دورها المطلوب ثم إنكفأت.