الحدود العراقية ـ الإيرانية… عودٌ على بدء
منذ أكثر من ثلاثين عاماً لم يوجه أي مسؤول عسكري عراقي اتهامات إلى إيران بتجاوز الحدود العراقية البرية التزاماً بقرار وقف إطلاق النار، ونهاية الحرب الضارية بين البلدين التي استمرت ثماني سنوات عجاف إلى أن توقفت في 8/8/1988.
في السنوات الأخيرة عدنا نقرأ أو نسمع تصريحات لمسؤولين عراقيين عن اعتداءات إيرانية على سفن الصيد العراقية في مياه العراق الإقليمية في الخليج العربي، ولأن هناك مسؤولين من الموالين لإيران في البصرة، بالإضافة إلى انتشار الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، فإن العراق لم يتخذ أي إجراءات مضادة ولا حتى مجرد استنكار.
وقرأنا وسمعنا في الأسبوع الماضي تصريحات لمسؤولين أكراد عن قصف إيراني مدفعي لبعض المدن والقرى الكردية العراقية في شمال العراق بحجة مطاردة «متمردين» أكراد لجأوا إلى محافظة السليمانية المحاذية للحدود الإيرانية. وفوجئ الرأي العام العراقي، والحكومة الحالية قبل أيام بتصريحات لرئيس الأركان الإيراني اللواء محمد حسين باقري زعم فيها وجود تحركات معادية ضد بلاده تنطلق من العراق. وفي العادة توجه إيران اتهاماتها إلى مجموعة من الأحزاب الكردية الإيرانية الهاربة من ملاحقة النظام الإيراني إلى كردستان العراق، وخصوصاً من حزب «الحياة الحرة» المعارض.
وأعربت رئاسة الأركان العراقية عن استغرابها لصدور التصريحات الإيرانية «غير المبررة». وأكدت أن العراق يرفض استخدام أراضيه للعدوان على جيرانه. وكانت وسائل إعلام إيرانية قد شنت اتهامات مباشرة أدلى بها باقري قال فيها: «إن الجماعات الإرهابية المعادية لإيران تنشط في إقليم كردستان العراق، بسبب غض النظر من قبل سلطات الإقليم وضعف الحكومة العراقية المركزية نتيجة للوجود العسكري الأميركي» على حد زعمه. وأضاف «أن هذه المجاميع وبعد سنوات من الفشل والتقهقر نشطت في العام الماضي بتحريض من أميركا وإسرائيل وبعض الدول العربية في المنطقة، وبدأت محاولاتها لتوسيع عملياتها الإرهابية، ورغم عدم تمكنها حتى الآن من تحقيق ما تريد لكنها تعمل على إخلال الأمن في بعض المناطق الحدودية.
والأحزاب الكردية الإيرانية المعنية هي الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، وحزب «كوملة» كردستان إيران، وحزبان آخران منشقان عن هذين الحزبين. وسبق أن جرت محادثات بين إيران وتلك التنظيمات في ألمانيا والنرويج.
وفي ذروة تهديدات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في العام الماضي هددت طهران بمهاجمة قواعد تلك الأحزاب، التي تتخذ من كردستان العراق مقرات لها، في حال تعرضت طهران لضربة أميركية واصطفت تلك الأحزاب إلى جانب أميركا وحلفائها، واشترطت إيران على المعارضة الكردية ذات التوجهات اليسارية إلقاء السلاح وتوقيع تعهدات بعدم الوقوف إلى جانب أي قوة معادية لنظام الملالي، مقابل السماح للنازحين منهم إلى شمال العراق بالعودة إلى إيران والسماح بالنشاط لتنظيمات سياسية سلمية.
وللأحزاب الكردية الإيرانية تجربة مرة مع النظام الإيراني الحالي حين دعت إيران هذه الأحزاب إلى التفاوض في النمسا في عام 1989، برئاسة الزعيم الكردي الإيراني التاريخي الدكتور عبد الرحمن قاسملو، وتم اغتياله بوابل من الرصاص على طاولة المفاوضات من قبل ضباط المخابرات الإيرانية، الذين كانوا ضمن الوفد الإيراني غير الرسمي الذي ضم ممثلين عن مكتب خامنئي وضباطاً من وزارة المخابرات واستخبارات الحرس الثوري.
والغريب أن طهران دعت المعارضة الكردية إلى إجراء جولة جديدة من المفاوضات في عام 1992. وحضرها خَلَف قاسملو الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني صادق شرف كندي وثلاثة من مساعديه في برلين، وتم أيضاً اغتيالهم جميعاً على طاولة المفاوضات! فالغدر إحدى صفات النظام الإيراني بدون أي اعتبار للسياسة والقانون الدولي والعلاقات بين الشعوب.
وخلال الاحتلال الأميركي للعراق بعد عام 2003 ضغطت إيران بقوة على المحتلين الأميركيين لإبعاد منظمة مجاهدين خلق الإيرانية، وهي أكبر منظمة معارضة، من معسكراتها في العراق إلى خارج البلاد. ونجحت بواسطة الأحزاب الموالية لها التي تحتل معظم مقاعد مجلس النواب والوزارات والأجهزة الأمنية العراقية في إبعاد المنظمة من معسكر «أشرف» في محافظة ديالى المحاذية للحدود الإيرانية إلى معسكر «ليبرتي» في محيط مطار بغداد الدولي بحماية أميركية، ثم شنت الميليشيات هجمات صاروخية على المعسكر، وقتلت أعداداً كبيرة من «مجاهدي خلق» غير المسلحين وتم تسفير البقية إلى دول أوروبية أتاحت لهم عقد مؤتمرات سنوية برئاسة المعارض الشهير مسعود رجوي وزوجته مريم رجوي التي تولت بعده رئاسة المنظمة.
يعلم الجميع أن أطول حرب حدودية دامية كانت بين العراق وإيران، وهي ليست حول شط العرب فقط، وإنما في التضاريس الأخرى على طول الحدود البالغة 1458 كم من السهول الجنوبية إلى الهضاب الوسطى وانتهاءً بسلاسل الجبال شمالاً. ويتذكر المهتمون أن الحرب العراقية – الإيرانية بدأت بقيام إيران بقصف واحتلال بعض مراكز شرطة الحدود العراقية في خاصرة العراق، وتجاوز إيران خط منتصف نهر شط العرب «التالوك» الذي تم الاتفاق عليه بين الرئيس العراقي الراحل صدام حسين (كان نائباً للرئيس) ومحمد رضا بهلوي آخر شاه إيراني قبل مجيء خميني.
والحدود الدولية هي خطوط فاصلة بين الدول ولها سمات معينة منها الثبات والدوام والوضوح، وأحياناً تكون الحدود جبالاً أو أنهاراً أو بحاراً. ومثلما يتعامل قانون العقارات المحلي لأي دولة مع الممتلكات الشخصية مثل الدور والمحلات العامة والحدائق والأسواق لحمايتها أو تنظيم بيعها أو التنازل عنها أو توريثها، فإن القانون الدولي ينظم حماية الحدود الدولية لأي بلد وسواحل المحيطات والبحار والأنهار والأجواء الإقليمية.
في أوروبا الغربية لم تحدث أي مصادمات أو حروب بين دولها بعد الحرب العالمية الثانية، رغم أن الحدود بين بعضها تمر داخل المدن، مثلما هي الحال بين هولندا وبلجيكا، حيث هي عبارة عن علامات متلاصقة على الأرض في مدينة بازل الواقعة بين الدولتين، وهي بالإضافة إلى غرابتها من أجمل الحدود الدولية. وكذلك الحدود الإنجليزية – الاسكتلندية، حيث تنقسم بعض المزارع والمساكن بين الدولتين رغم أن اسكتلندا وإنجلترا من الدول التي تشكل بريطانيا العظمى بالإضافة إلى إيرلندا الشمالية وويلز. وكذلك الحدود الأميركية – الكندية التي تعتبر أطول حدود بين دولتين في العالم، وتشمل مناطق سكنية ومعابر حدودية متعددة وبحيرات وغابات، ويتنقل السكان بين الجانبين بحرية دون أي اعتبارات رسمية، إلا أن أعلى معبر حدودي في العالم يقع على قمة جبل إيفرست بارتفاع 29000 قدم مقسم بين الصين ونيبال. وأغرب فاصل بين ألمانيا وجمهورية التشيك منزل شخصي رفض صاحبه إزالته، فتم الاتفاق على أن يسكن في الجزء التشيكي وتتم إزالة الجزء الألماني.
نحن بحاجة إلى قيام المسؤولين العرب بزيارات سياحية إلى تلك الحدود الطريفة لإيجاد حلول عملية سلمية وربما اقتصادية لمشاكل حدودنا المزمنة. أما مشكلة الحدود العراقية – الإيرانية فهي بحاجة إلى زيارات رسمية لمقابر الدولتين حيث صور شهداء الحدود الدامية.