سلاح النفط: آداة واشنطن لاخضاع الدول
اعتمدت سياسة الضغوط الامريكية على استنزاف الموارد الاقتصادية وموارد الطاقة للدول التي تعتبرها الولايات المتحدة خصوماً لها، وللسيطرة على كل مصادر القوة في العالم واحتكارها، عبر فرض الحصار والعقوبات، بهدف جرّ هذه الدول لتقديم تنازلات سياسية لصالح واشنطن.
وحاول كل من ديفيد س. غومبرت وهانس بيننديك في دراسة نشرها مركز “راند” تقديم جملة من الأساليب التي اعتمدتها الولايات المتحدة وأهمها الحصار النفطي، لكن “بالرغم من أن الظروف العالمية المتعلقة بالطاقة قد تغيرت، إلا أنّ ذلك لم يضع هذا السلاح بيد الولايات المتحدة، ولكنه ساهم في تحويل التفوق الإرغاميّ ليصبح في مصلحة الولايات المتحدة وأصدقائها”.
الدراسة المترجمة
استغلال موارد الطاقة
تاريخياً، تلاعبت الدول العربية وروسيا بموارد الطاقة مثل النفط والغاز الطبيعيّ مستخدمةً إياها كوسيلةٍ للإرغام. تشير الاتجاهات الحالية إلى أنّ المستقبل سيكون مختلفاً تماماً، فقد ارتفع الإنتاج النفطيّ في الولايات المتحدة خلال سنواتٍ قليلة من 5 ملايين إلى أكثر من 9 ملايين برميل في اليوم، كما ارتفع استهلاك الغاز الطبيعيّ بشكلٍ ملحوظ، وان كان معظمه في البلدان غير الغربية مثل الصين، بينما تركّز معظم ارتفاع الإنتاج في الولايات المتحدة وبلدانٍ غربيةٍ أخرى. على أدنى التقديرات، ستكون الولايات المتحدة وحلفاؤها، بمن فيهم الدول غير المنتجة، في وضعيةٍ أقل ضعفاً. وأكثر من ذلك، مع تحول الولايات المتحدة إلى مصدِّرٍ رئيسيٍّ للغاز الطبيعيّ المسيّل، وعندما يتحقق هذا الأمر نظراً لوجود احتياطيٍّ وافرٍ يسهل الوصول إليه من الغاز الصخريّ، قد تجد نفسها مالكةً لخيارٍ إرغاميٍّ جديد.
اٍنّ استخدام الطاقة لممارسة الإرغام سيعكس الأدوار بالنسبة للولايات المتحدة التي لطالما كانت المؤيد الرئيسيّ لضمان الوصول إلى الطاقة، كذلك التجارة التي تخضع لأحوال السوق، والنقل بدون معوّقات، ولتصبح خصماً متشدداً للتلاعب بموارد الطاقة. في وقتٍ كانت فيه وجهة النظر التقليدية للولايات المتحدة تعكس اتّكالها هي وحلفائها على الطاقة الآتية من مصادر غير آمنةٍ أو متلاعبٍ بها، مثل منظمة البلدان المصدّرة للبترول (أوبك) وروسيا وفنزويلا، فمن غير المرجح أن تتغير وجهة النظر هذه عندما تصبح الولايات المتحدة أكثر استقلالاً وتتحول هي نفسها إلى مصدّر. أما بالنسبة للأعداء المحتملين في المناطق الحرجة، فالتهديد بقطع موارد الطاقة لا يلائم روسيا أو إيران. كما أنّ الولايات المتحدة لا تزوّد الصين بالطاقة في الوقت الحاليّ، وإن هي منعت عنها هذه الموارد، ستكون هناك بدائل متوفرةٌ بالنسبة للصينيين مثل روسيا وإيران.
بالرغم من أنّ العقوبات الاقتصادية أمرٌ متجذّرٌ في الأعراف الدولية، لكنّ التلاعب بسوق الطاقة ليس كذلك. يحمل هذا الأمر وصمة عارٍ بسبب التاريخ العربيّ والروسيّ في الخداع. حتى أكثر التقديرات تفاؤلاً لمخزون الطاقة الذي تنطوي عليه الطبقات الصخرية لا يشير إلى أنّ الولايات المتحدة ستصبح قادرةً على التحكم بموارد الطاقة العالمية – لن يكون ذلك ممكناً بدون تواطؤ المورّدين الآخرين على أيّ حال، وهو أمرٌ لن تحصل عليه على الأرجح، وأقلّ أسباب ذلك شأناً هو اعتماد المورّدين الشديد على إيرادات مبيعات الغاز والنفط. بالإضافة إلى ذلك، مع ارتفاع نسبة إنتاج الطاقة في كل أنحاء العالم، وبما أنّ هناك وفرةٌ في الموارد الصخرية في أماكن أخرى، ولأنّ الغاز الطبيعيّ عند تسييله يصبح سلعةً عالمية، فلن يكون من السهل على الولايات المتحدة ولا على غيرها من المورّدين أن يتلاعبوا بالموارد بهدف الإرغام. لكنّ شَغْلَ الولايات المتحدة لموقعٍ رئيسيٍّ في أسواق الطاقة العالمية بوسعه تمكينها من استخدام موارد الطاقة كإجراءٍ إرغاميٍّ دفاعيّ. قد تسمح قدرات وصادرات الولايات المتحدة لها بتخفيض الاعتماد العالميّ على المورّدين غير الموثوقين، وتحجيم التسعير الطارد للمنافسين، وتقليص الإيرادات الروسية والإيرانية ذات الأهمية الحساسة لاقتصادَيهما ولتحسين قدراتهما العسكرية. إنّ زيادة إنتاج وتصدير الغاز الطبيعيّ المسيّل تكتسب أهميةً كبرى بسبب قدرتها على كسر الاستئثار الذي يتمتع به بعض المورّدين – روسيا وإيران – بسبب القيود الإقليمية على عملية التسليم عبر الأنابيب عند النقاط المحددة. حتى لو لم تتبنَّ الولايات المتحدة استراتيجيةً لتنفيذ هذا الأمر، فبوسعها تقليص القدرة الإرغامية للأعداء. وما هو أبعد من ذلك، يمكنها توسيع الشحنات وتوجيهها لإبطال مفعول المحاولات المحددة لاستخدام الطاقة كسلاح، مثلاً، كأن تحاول روسيا فعل ذلك ضد أوروبا. نظرياً، إنّ كلفة هذا النوع من إجراءات الإرغام الدفاعية يتحملها السوق.
في غياب أيّ محاولةٍ أمريكيةٍ لاستخدام الطاقة بشكلٍ إرغاميّ، فإنّ موارد النفط والغاز الآخذة في الازدياد عالمياً، مقرونةً بالطلب الذي يتجه نحو الاعتدال، وهما أمران يزعزعان من قدرة المنتجين التقليديين مثل روسيا، على التلاعب بالموارد من أجل أهدافٍ عدائيةٍ وغيرها من الأمور السياسية. بشكلٍ عامّ، تصدّت البلدان الأوروبية للتهديدات الروسية المستترة بإنقاص تدفق الغاز عبر الأنابيب إن هي شاركت في العقوبات المالية التي فُرِضَت استجابةً للتدخل الروسيّ في أوكرانيا، وقد تكون شجاعتهم عائدةً إلى توقعهم الحصول على بدائل غير روسية. إضافةً إلى ذلك، إن الهبوط الكبير في أسعار الأسواق العالمية أجبر روسيا على الإنتاج والتصدير بأقصى طاقةٍ مربحةٍ لها، مما لا يَدَعُ مجالاً للتلاعب.
في المحصّلة، إنّ التغيّر العالميّ في الظروف المتعلقة بالطاقة يَعِدُ بكبح فائدة استخدام أحد أشد أسلحة الإرغام قوةً، الذي تستعمله الدول المعادية حالياً للمصالح الأمريكية، لاسيما روسيا. بالرغم من أن الظروف العالمية المتعلقة بالطاقة قد تغيرت، إلا أنّ ذلك لم يضع هذا السلاح بيد الولايات المتحدة، ولكنه ساهم في تحويل التفوق الإرغاميّ ليصبح في مصلحة الولايات المتحدة وأصدقائها.
الاعتراض البحريّ
تستطيع قوات البحرية الأمريكية هزيمة أيّ قوةٍ بحريةٍ أخرى، فتضرب الشواطئ وتفرض السيطرة البحرية أو الحظر البحريّ في أيّ مكانٍ تقريباً. على أنّ السيطرة البحرية الأمريكية في غرب المحيط الهادئ قد تقع تحت الضغط الذي تسببه قدرات الصين المضادة للبحرية. إنّ حاملات الطائرات الأمريكية أدواتٌ مفيدةٌ بشكلٍ خاصٍّ في إدارة أو حل الأزمات، عن طريق التلويح بالعزم والقدرة على شنّ الحرب. اٍنّ الإنذارات التي من هذا النوع تعتبر مشتقةً من استخدام القوة، وهي بالتالي شكلٌ من أشكال القوة الصلبة، حيث الأساطيل الأمريكية مجهزةٌ بأجهزة استشعارٍ فضائيّ، وقدرةٌ على معالجة البيانات، ووسائل اتصالاتٍ تمنح الولايات المتحدة إحاطةً بحريةً عالميةً فريدةً من نوعها. إنّ هذه القدرات الخاصة بالقوة الصلبة لها أيضاً تطبيقاتٌ في مجال القوة الناعمة، مثل التعبير عن الالتزام، وعرض التكنولوجيا الأمريكية، والاستجابة عند حصول الكوارث الطبيعية. المهم هنا هو تقييد وصول الأعداء إلى محيطات العالم وأسواقه وموارده، بدلاً من محاربته وبالتالي، إرغام العدوّ.
إحدى وسائل تقييد الوصول هو الاعتراض البحريّ الذي يقوم خلاله مقاتلو قوات البحرية الأمريكية أو خفر السواحل الأمريكيّ بمنع وإيقاف وإعادة توجيه، والصعود على متن السفن التي تحمل شحناتٍ محظورةٍ أو غير شرعيةٍ أو أيّ نوعٍ من الحمولة الخطرة، وقد يصل الأمر حتى إلى الاستيلاء على هذه السفن. كان هذا الأمر يُمارس بالنسبة للمخدرات والمواد والعتاد اللازم للحصول على أسلحة الدمار الشامل، ومنذ وقتٍ ليس ببعيد، تمّ اعتراض تحركاتٍ للإرهابيين، بالإضافة إلى إمداداتٍ مُرسَلةٍ إليهم. بالرغم من ضخامة حجم قوات البحرية الأمريكية، إلا أنها لا تستطيع التواجد في كل مكانٍ وكل زمانٍ تقوم فيه سفنٌ مشبوهةٌ بالعبور. لهذا السبب، نظّمت الولايات المتحدة خلال العقد الأخير تعاوناً متعدد الأطراف لصيانة الأمن البحريّ، تقوم بموجبه سفنٌ تابعةٌ لقوات البحرية من أممٍ متعددةٍ بالمشاركة في الدوريات. أحد الأمثلة” هي عملية حلف شمال الأطلسيّ /الناتو المسماة “عملية السعي الحثيث” التي تجوب البحر المتوسط في عملياتٍ لمكافحة الإرهاب. بوجود هذه القدرة الموسّعة المتعددة الأطراف، والتي تقودها الولايات المتحدة، بالإضافة إلى توفّر خيار التركيز على المضائق أو الطرق البحرية المؤدية إلى مرافئ الأعداء، تستطيع الولايات المتحدة خنق حجمٍ كبيرٍ من عمليات الشحن التي ترغب في منعها من الوصول إلى وُجهةٍ معيّنة. لسوء حظها الجغرافيّ، فإنّ روسيا وإيران والصين تقع كلها بشكلٍ ضمنيٍّ تحت رحمة القوة البحرية التي تملكها الولايات المتحدة وشركاؤها. من الناحية النظرية، يبدو أنّ القوة البحرية مصدرٌ مهمٌ للقدرة على الإرغام.
في نفس الوقت، قد تكون تكاليف تنفيذ دورياتٍ بحريةٍ وعمليات اعتراضٍ بحريٍّ مطوّلةٍ وموسعة، وضخمةً بالفعل، لاسيما إذا أُخِذَ الإسهام النسبيّ للسفن المشاركة بعين الاعتبار. بالإضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار أنّ استخدام قوات البحرية الأمريكية ضد سفن أحد الأعداء هو تطبيقٌ للقوة الصلبة، أو حتى أنه عملٌ حربيّ. بالرغم من أنّ عمليات الاعتراض البحريّ هي ذات قيمةٍ إرغاميةٍ على الأغلب، ولكنها يمكن أن تستدعيَ صراعاً مسلحاً، بينما المقصود من إجراءات الإرغام هو تفادي هذا الأمر، لا التسبب به. على سبيل المثال، لا يُتَوَقَّع أن تطيق الصين إغلاق الولايات المتحدة لمضيق “مالاكا” وستكافح إيران الحصار الأمريكيّ عن طريق عرقلة النقل البحريّ عبر مضيق هرمز. إضافة الى ذلك، اٍنّ استخدام القوة البحرية كأداةٍ للإرغام سيكون متعارضاً مع التزام الولايات المتحدة بحرّية الإبحار في المياه الدولية.
في المحَصَّلة، تملك الولايات المتحدة قدرةً بحريةً هامة، لاسيما إذا انضمّ إليها شركاء آخرين. لكنّ التكاليف وما سلف من استخدامٍ إرغاميٍّ لهذه القدرة في كل الظروف، توحي بأنّ هذا الاستخدام يجب أن يكون ضئيلاً. يمكن النظر إلى العمليات البحرية، لا على أنها خيارٌ إرغاميٌّ قائمٌ بذاته، بل وسيلةٌ لإنفاذ العقوبات الاقتصادية، أو امتدادٌ للصراع المسلح.
المصدر: مركز “راند”
الكاتب: ديفيد س. غومبرت وهانس بيننديك