كارلوس دوارتي… هل تسعفه أموال النفط السعودية في إنقاذ الكوكب من التغير المناخي؟
رويترز
ظل عالم الأحياء الإسباني كارلوس دوارتي جالسا في أحد القصور الملكية السعودية حتى الساعة الثالثة صباحا في انتظار لقاء مع أقوى شخصية في البلاد.
وأخيرا عاد إلى غرفته بالفندق ليستيقظ بعد ساعات ويلاحظ وصول رسالة على شاشة هاتفه المحمول. كان القصر هو الراسل وكان عليه أن يعود هو وزملاؤه من العلماء والمسؤولين المشاركين في اجتماع حول التنمية المستدامة العودة للقصر على الفور. فقد كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان جاهزا للقائهم.
ربما يبدو أمرا مستبعدا أن يكون عالم مرموق متخصص في الأحياء البحرية يكرس جهده لحل مشكلة التغير المناخي هو من يقدّم المشورة لقادة أهم الدول النفطية في العالم والتي اشتهرت بتصلبها على مدار السنين في محادثات المناخ الدولية.
لكن المتناقضات كثيرة في السعودية.
فالمملكة هي أكبر دولة في العالم مصدرة للنفط الخام الذي لعب دورا بارزا في ظاهرة الاحتباس الحراري. لكنها في الوقت نفسه عرضة بصفة خاصة للتأثر بتداعيات التغير المناخي.
عمد ولي العهد إلى التضييق على المعارضة واتهمه تقرير للمخابرات الأمريكية نشر في الآونة الأخيرة بالموافقة على عملية لقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي في 2018. وينفي ولي العهد تورطه في هذه الجريمة.
غير أنه لاقى إشادة أيضا بمساعيه الرامية لتحقيق انفتاح في المجتمع المغلق بالمملكة ومن مظاهر ذلك تشجيع النساء على العمل والسماح بدخول سياح من غير المسلمين.
كذلك فإن أموال البترول السعودي هي التي تمول أحلام دوارتي في إيجاد نظم بيئية بحرية من “الكربون الأزرق” أي مستودعات في المحيطات تستطيع إلى جانب الغابات المتجددة والحياة البرية على اليابسة أن تمتص دون عناء فائض ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض.
ويقدر بعض العلماء أن مثل هذه الجهود يمكن بمرور الوقت أن تزيل 300 جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون أي حوالي ثلث الكمية التي أضافها البشر إلى الغلاف الجوي منذ الثورة الصناعية في أواسط القرن التاسع عشر.
ويبشر تجديد حقول الأعشاب البحرية بصفة خاصة بخير عميم. بل إن دوارتي نفسه يقدر أن بإمكان هذه الحقول امتصاص وتخزين ما يزيد 15 مرة من الكربون عن المساحات المماثلة في الغابات المطيرة.
وفي الآونة الأخيرة سلط السعوديون الضوء، لدى استضافة قمة مجموعة العشرين لأكبر القوى الاقتصادية في العالم، على أبحاث دوارتي الخاصة بالشعب المرجانية وعدة مشروعات مزمعة يمكن أن تبعد الاقتصاد السعودي عن الاعتماد على النفط.
ويحتل دوارتي، أحد أبرز علماء المناخ في العالم، المركز الثاني عشر في قائمة أعدتها رويترز تقيس نفوذ أبرز 1000 عالم في هذا المجال لدى العلماء وجمهور الناس.
وكان دوارتي قد انضم إلى جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في 2015 بعد مسيرة عمل فيها في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا.
العمل مع السعوديين
يقول بعض العلماء والدبلوماسيين إن إمكانية أن تصبح السعودية من الدول الرائدة في مجال مكافحة التغير المناخي أمر بعيد الاحتمال في ضوء اعتمادها على النفط الذي يمثل حوالي 50 في المئة من الاقتصاد السعودي.
وتضخ المملكة 12 في المئة من إمدادات النفط العالمية ولا يسبقها سوى الولايات المتحدة في هذا المجال. ومن هذا المنطلق تعتبر السعودية “واحدا من الأشرار” في تقدير عالم المناخ المرموق مايكل مان.
ورد دوارتي على ذلك هو أن الحكومة السعودية تبنت العديد من حلول التغير المناخي التي ينادى هو بها منذ فترة طويلة.
وقال “لن أدعي أنه كان لي يد في ذلك. لكني ساهمت بالتأكيد وأيدت التحول بمقدار 180 درجة نحو حل يقوم على تضافر الجهود” في السعودية. وأضاف “هو عمل جماعي”.
ويقول دوارتي إن السعودية ليس أمامها من خيار سوى التكيف في وقت يتجه فيه العالم إلى مصادر طاقة أكثر استدامة. وهو يجادل بأنه ليس أسوأ في استخدامه لأموال السعودية في أبحاثه من عالم يقبل المال من الحكومة الأمريكية.
ويشير العالم الإسباني إلى أن الولايات المتحدة ليست هي أكبر منتج للوقود الأحفوري في العالم فحسب بل هي أكبر مستخدم لهذا الوقود أيضا.
ويبرهن مسار دوارتي في حياته المهنية على الحسابات الأخلاقية التي يتعين على العلماء في بعض الأحيان إجراؤها في السعي للحصول على التمويل الذي يغذي كل البحث الطموح.
وهو يقول إنه جاء إلى السعودية لأنه رأى فرصة فريدة لمباشرة أفكار يمكن أن تسهم في حل مشكلة التغير المناخي الذي ربما يكون أعظم خطر واجهته البشرية على الإطلاق.
وقال دوارتي “لا أريد أن أرحل عن العلم بكومة فحسب من الأبحاث المنشورة والأوسمة. بل أريد أن أتمكن من التأمل في حياتي خلال دقائقي الأخيرة والقول إنني تمكنت من جعل العالم مكانا أفضل قليلا”.
ويقول ديفيد ريدميلر الذي تعامل مع السعوديين أثناء عمله ممثلا للحكومة الأمريكية في الهيئة الحكومية المعنية بالتغير المناخي التابعة للأمم المتحدة إنه حتى السعودية لها مصلحة في معالجة مشكلة التغير المناخي.
قال ريدميلر إنه كان يواجه في كثير من الأحيان مقاومة سعودية في الهيئة الحكومية للأفكار التي تهدد استخدام الوقود الأحفوري. وقال إن التغير المناخي بالنسبة للسعوديين يمثل “تهديدا وجوديا” لكنه يمثل تهديدا لدول صغيرة على جزر بطريقة مخالفة تماما.
وأضاف أن السعوديين يواجهون المشكلة العكسية “فعندما يبتعد العالم عن الوقود الأحفوري سيكون لذلك أثر تدميري على اقتصادهم، وسيواجهون اضطرابا مدنيا شاملا. ولذا أشعر بالتعاطف مع هذا الوضع إلى حد ما. أكره أن يكون لهم اقتصاد يعتمد على الوقود الأحفوري في المقام الأول. لكن هذا هو الحال. ومن هنا أعتقد أن عليك أن تسمع ذلك”.
ويطالب المنادون بقرار حاسم للتحرك بسرعة لقطع الصلة بالنفط والغاز بخطوات مثل فرض زيادات حادة مفاجئة في أسعار الوقود من خلال فرض ضرائب أو رسوم، أو تحوّل الدول بسرعة إلى مصادر أخرى للطاقة.
ويقول دوارتي إن مثل هذه الخطوات ستحدث اضطرابا في كثير من الدول المنتجة للنفط لا في السعودية وحدها. وهو يؤيد استجابة أخرى تتمثل في تقليل تدريجي للانبعاثات الكربونية يقترن ببرامج لإزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.
ولدى منتقدي السعودية شكوكهم. فرغم الإعلانات العامة في السنوات الأخيرة أن المملكة تستثمر مبالغ طائلة في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح فإن كل كهرباء السعودية يتم توليدها حتى الآن في محطات تعمل بالنفط والغاز الطبيعي. وحتى إذا نجح السعوديون في استهلاك كميات أقل من النفط فسيستمرون في إنتاج الخام وتصديره للخارج.
وبين المتشككين يقف عالم المناخ الأمريكي مان الذي يحتل المركز 37 في قائمة رويترز. فقد وقف من السعوديين موقف المعارض في بعض من هذه المؤتمرات المناخية ولا يزال يرتاب في الحكومة السعودية بسبب الدور الذي لعبته على مر السنين في تشجيع التشكيك في الأساس العلمي للتغير المناخي.
وهو يحترم قرار العالم الإسباني دوارتي العمل في جامعة سعودية لكنه يشكك في حساباته.
قال مان عن دوارتي “أتدرك أن هذا قرار تقديري يتعين علينا جميعا أن نأخذه. ثمة مقابل على الدوام. هذا تحليل للتكاليف والفوائد. وربما تتاح لك الفرصة للتأثير وتغيير رأيك. وفي الوقت نفسه فهم يشترون منك رخصة أخلاقية ما خلاصتها أنك تضفي الشرعية عليهم إلى حد ما”.
وأضاف مان “في تقديري السعودية واحد من الأشرار. وسيشعرني التودد لهم بعدم الارتياح. لكن على كل منا أن يأخذ هذا القرار بنفسه. وأنا على ثقة أن هذا تقدير أمين من جانبه كونه يعتقد أن بإمكانه أن يلعب دورا بناء هنا”.
وفي حين يرى مان أن الموقف السعودي واضح تماما فإن دوارتي يرى فيه درجات من اللون الرمادي. ففي رأيه أن دول شبه الجزيرة العربية لم يكن أمامها خيار سوى الاعتماد على النفط. فهو ثروتها الوحيدة.
وقال دوارتي “النفط كان المورد الذي انتشلهم من ظروف حياتية صعبة بصفتهم من البدو وأدخلهم إلى العالم الحديث وسمح بالنمو السكاني حتى أن مياه الشرب مصدرها النفط من خلال عمليات التحلية التي تستخدم طاقة باهظة”.
بل إنه يجادل أيضا بأن الولايات المتحدة والدول الكبرى الأخرى تنتج النفط والغاز أيضا وتتربح منهما. لكن هذه الدول تفلت من الأضواء الساطعة المسلطة على السعودية. ويقول دوارتي إن في ذلك ازدواجية في المعايير.
وتمتد الأسئلة عن مدى أخلاقية العمل مع السعوديين لما يتجاوز الإدمان السعودي للنفط. فقد تعرضت الحكومة السعودية لانتقادات شديدة في الغرب بسبب تورط مسؤولين سعوديين في قتل خاشقجي ولدورها في حرب اليمن.
وعندما سألتُه عن العمل مع السعودية في ضوء هذه المشاكل لاح شرر الغضب في عينيه. انبرى يقول إن الرئيس جورج دبليو. بوش زعم قبل الاجتياح الأمريكي للعراق في 2003 أن العراقيين يطورون أسلحة نووية وكيماوية وأنهم يمثلون خطرا على المنطقة بأسرها.
وأضاف “ومع ذلك كانت الأدلة على أسلحة الدمار الشامل ملفقة. وأنا أعتقد أن العدد بلغ 1.5 مليون قتيل”.
ورغم أن العدد الفعلي للخسائر البشرية في صفوف المدنيين محل خلاف فهو يشكك في الكيفية التي يمكن بها للعلماء الغربيين انتقاد
أي شخص يعمل مع السعوديين في الوقت الذي يقبلون فيه المال من الحكومات الغربية التي شاركت في حرب العراق.
وأضاف “لا أحد يسألهم عن ذلك”. وهنا تبدد غضبه وعلت وجهه ابتسامة.
فرانشيسكو فرانكو المنقذ
الحصول على دعم لم يكن في الحسبان من جهة مثل السعودية ليس بالأمر الغريب على دوارتي. فعندما كان في مرحلة المراهقة أنقذته منحة دراسية على اسم الدكتاتور الإسباني فرانشيسكو فرانكو من مدرسة إصلاحية.
ولد دوارتي في لشبونة لأب برتغالي وأم إسبانية. وعندما بلغ الثالثة من عمره أرسلته أسرته إلى قرية صغيرة في إسبانيا اسمها كالامونتي للإقامة مع خالته وخاله. كانت القرية تقع على مسافة 200 كيلومتر تقريبا إلى الجنوب الغربي من مدريد التي كان والداه قد انتقلا إليها.
وفي نهاية المطاف لحق بوالده ووالدته في العاصمة الإسبانية ودخل المدرسة. لم يكن الأمر سهلا بالنسبة له. فقد كانت لغته الإسبانية ضعيفة وكان يتحدث بلهجة برتغالية.
قال عن تلك الفترة “حدث الكثير من التنمر والمضايقات بسبب الطريقة التي كنت أتحدث بها”.
وفي إحدى المرات تطور النقاش إلى عنف واعتدى عليه طفل بالضرب. والتقط دوارتي قالبا من الطوب (الطابوق) وألقاه. وقال وهو يستعيد الذكريات “أصابه في الرأس فشجه وأحدث جرحا”.
وبلغ التاسعة فأرسله الرهبان الذين يديرون المدرسة إلى إصلاحيتهم.
ويواصل دوارتي رواية حكايته قائلا “هناك تعرضت لإساءات جسدية. فقد كانوا يستعملون أدوات هندسية في ضربنا، مساطر وبراجل خشبية كبيرة. وذات مرة ضربوني بمفصلة البرجل وتمت خياطة الجرح بخمس غرز”.
وفي هذا المنعطف، كان العالم الإسباني بسبيله لأن يصبح لصا ومنحرفا. فلم يكن أداؤه جيدا في الدراسة لأسباب منها أنه كان يجد صعوبة في استظهار المواد الدراسية بالطريقة التي يفضلها الرهبان.
غير أنه حصل في سن الثالثة عشرة على منحة فرانكو الدراسية المخصصة لأطفال الأسر الفقيرة في مدرسة ثانوية في لاكورونيا الواقعة على مسافة 375 ميلا إلى الشمال الغربي من بيته. وحررته المنحة من الرهبان وسددت مصروفات تعليمه.
حكم فرانكو إسبانيا من نهاية الحرب الأهلية الإسبانية في 1939 وحتى وفاته في 1975.
ويقول دوارتي “شيء غريب لأن المصروفات كلها دفعها فرانكو لكن المدرسين في المدرسة الثانوية كانوا جميعا من الشيوعيين والفوضويين. وفي تلك المدرسة تعلمت أن أفكر. تعلمت أنني لست بحاجة للاستظهار بل لاستيعاب المفاهيم”.
وانتهت منح فرانكو الدراسية في أواخر السبعينيات في أعقاب وفاة الدكتاتور. وكان على دوارتي أن يسدد مصروفات ثلاث سنوات أخرى في جامعة مدريد. ولحسن الحظ كان يعمل مدربا محترفا للعبة الكرة الطائرة وموّل هذا العمل السنوات الباقية من دراسته الجامعية.
وفي 1982 تخرج وحصل على درجة جامعية في علم الأحياء. وفي 1987 حصل على الدكتوراه في علم البحيرات من جامعة ماكجيل في مونتريال.
حرم جامعي تحت حراسة مشددة
يقع حرم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية على مساحة 14 ميلا مربعا في مدينة ثول المطلة على ساحل البحر الأحمر. أما العاصمة السعودية الرياض فتبعد عنها 600 ميل شرقا في الجانب الآخر من صحراء شبه الجزيرة العربية.
يحيط بحرم الجامعة البراق سور عال من الخرسانة المسلحة وطريق خاص لتأمينها وسياج من الأسلاك ويفصلها كل ذلك عن سكان البلدة وكثيرون منهم عمال فقراء وافدون من اليمن. ويحتاج كل الزائرين للحصول على ترخيص لدخول الجامعة.
وهناك طريق رئيسي لدخول الجامعة والخروج منها وعليه نقطتا حراسة مسلحتان. ويطل على النقطة الأولى برج مدفع رشاش.
ويعيش دوارتي وزوجته سوزانا أجوستي خلف هذا السور في بيت من ست غرف نوم وسبعة حمامات يشرف على مياه البحر الأحمر الفيروزية. وتبدو المنطقة التي يعيشان فيها وكأنها اقتطعت من مجمع سكني راق في منطقة الحزام الشمسي الأمريكي. وكثيرا ما يذهب دوارتي وأجوستي المتخصصة في علم الأحياء بجامعة الملك عبد الله إلى العمل بالدراجة أو سيرا على الأقدام.
ويعشق العالم الإسباني مشهد البحر الأحمر من بيته غير أن تماثل البيوت داخل الحرم يزعجه. فبعد سنوات من انتقاله لا تزال غرف كثيرة في بيته غير مفروشة ومعظمها ليس به أي زخارف.
وكل شيء في الحرم الجامعي جديد، المكاتب والمختبرات ومعداتها والزوارق والمباني المقامة على الطراز العربي. بل إن أماكن انتظار السيارات تحت الأرض في غاية النظافة ليس بها أي آثار للعجلات على الأرضية المطلية.
وعندما وصل دوارتي إلى الجامعة، كانت هي الجامعة الوحيدة في السعودية التي تسمح للطلبة من الجنسين بالعمل جنبا إلى جنب وأن يتواجد المدرسون مع الطالبات في قاعة واحدة، وكثيرون منهم من مختلف أنحاء العالم.
وفي بقية أنحاء المملكة لم يُسمح للنساء سوى في 2019 بتناول الطعام في الأماكن المفتوحة في المطاعم مع أفراد من الجنس الآخر، وكان ذلك من الإصلاحات التي تمت تحت إشراف ولي العهد.
وتعمل الجامعة وفق مجموعة مختلفة من القواعد. فنحو نصف الطلبة من الإناث كما أن عددا كبيرا من أفراد هيئة التدريس من النساء وهذا هو الحال منذ سنوات.
وقال دوارتي مستعيدا ذكريات أيامه الأولى في الجامعة “أول شهادة دكتوراه سعودية في الأحياء البحرية في جامعة الملك عبد الله كانت لامرأة سعودية”.
وفي اجتماع عادي للطلبة والحاصلين على شهادات الدكتوراه الذين يجرون أبحاثا تحت إشرافه في أواخر 2019 وعددهم 14 فردا كان هناك امرأتان سعوديتان ورجلان من الهند وماليزيا والباقي نساء من اليمن وأستراليا وألمانيا وإيطاليا وباكستان والولايات المتحدة.
كان ذلك آخر اجتماع لهم قبل أن يتفرقوا في العطلة الشتوية وكان دوارتي يريد تهنئتهم على ما أنجزوه في ذلك العام. تباينت أعمالهم من دراسة محار البحر الأحمر العملاق إلى أثر ضوضاء المحيطات الصادرة عن النشاط البشري على النظم البيئية البحرية.
وحاز مشروع ضوضاء البحار الذي تضافرت فيه جهود دوارتي وأحد طلبته وعدد كبير من العلماء الآخرين شهرة عالمية عندما نشر في فبراير شباط الماضي.
وفي العالم الأكاديمي يقاس النجاح عادة بعدد الأبحاث المنشورة في دوريات متخصصة. وقال دوارتي لأفراد فريقه في لقائهم بمناسبة انتهاء السنة في 2019 “إن شاء الله السنة القادمة سننجز عددا أكبر من الأبحاث لكننا حققنا نتيجة طيبة هذا العام… فقد نشرنا 79 بحثا وهو محصول وفير”.
وتضمن ذلك المحصول 62 بحثا شارك هو في قيادة الباحثين فيها مع أفراد من هيئة التدريس في جامعة الملك عبد الله أو مع الطلبة. وفي 2020 شارك في قيادة 99 بحثا منشورا.
تتولد الأفكار في عقله الذي لا يكف عن التفكير، وكثيرا ما تكون الأفكار بعيدة عن تخصصه مثل الحشرات في شبكة عنكبوتية ثم يحول هو هذه الأفكار إلى أبحاث قابلة للنشر. وفي الآونة الأخيرة تعاون مع العالمين التوأمين ماريوس ولوكاس ياريمكو بقسم العلوم والهندسة البيولوجية والبيئية بجامعة الملك عبد الله للتعرف على ما إذا كانت مستويات ثاني أكسيد الكربون الآخذة في الارتفاع في الغلاف الجوي تمثل خطرا على صحة البشر.
وخلص البحث إلى أن مستويات ثاني أكسيد الكربون المتزايدة ربما تؤدي إلى تفاقم أمراض مزمنة مثل مرض السكري والسمنة واضطرابات قصور الانتباه وهشاشة العظام والسرطان.
وبعد ذلك توجه دوارتي إلى مبنى صغير بالقرب من الرصيف البحري بالجامعة. وقف بجوار خزان يمتلئ بشعاب مرجانية صغيرة بالألوان الأخضر والأزرق والأرجواني ومد يده وأمسك بقطعة من الشعاب الأرجوانية ارتفاعها أقل من خمسة سنتيمترات كان حجمها قبل بضعة أشهر أقل من نصف حجمها الآن.
وقال دوارتي “تصور أن هذا الخزان الذي يبلغ عرضه ثلاثة أمتار وطوله 200 متر يمتد متعرجا حول منتجع. هذه تكنولوجيا جديدة نطورها لكي نتمكن من استعادة الشعاب على مستوى العالم”.
وهو يسمي هذا النشاط بستنة الشعاب. والفكرة هي إقامة مئات من الخزانات المتشابهة في أماكن عامة مثل المطارات والمنتجعات ستسمح للشعاب الدقيقة بالنمو حتى تصبح كبيرة بما يكفي لزرعها في البحار.
وإذا نجحت هذه التجربة فربما تتيح زراعة شعاب من السعودية في مناطق أخرى من العالم. قال دوارتي مفسرا ذلك إن البحر الأحمر أدفأ من أي مسطحات مائية كبيرة أخرى في العالم وإن الشعاب تكيفت على مدار مئات الآلاف من السنين مع درجات الحرارة المرتفعة.
والتكيف أمر حاسم. فمع ارتفاع درجة حرارة المحيطات في العالم بسبب التغير المناخي بما يسهم في انهيار الشعاب على مستوى العالم، يمكن لشعاب البحر الأحمر أن تكون نواة استعادتها.
وفي الخطوة التالية، يعمل علماء جامعة الملك عبد الله على تطوير تقنيات تسمح بنمو الشعاب خلال بضع سنوات بدلا من مئات السنين. ويأمل دوارتي أن يختبر فكرة بستان الشعاب في مشروعين سياحيين من المزمع إقامتهما على بعد بضع مئات من الكيلومترات إلى الشمال من موقع الجامعة.
ويحاول دوارتي وزملاؤه في الأساس تطوير شكل ما من أشكال الهندسة البيئية باستغلال البيئة لإصلاح الأضرار التي لحقت بها جراء النشاط البشري.
وتتجاوز رؤيته الشعاب المرجانية وقد بدأت قبل مدة طويلة من وجوده في السعودية. ففي أوائل التسعينيات كان يعمل في مياه حول بيته الجديد الذي استقر فيه في مايوركا وتراءى له في إحدى التجليات أثناء دراسة الأعشاب البحرية أنه عندما تذوي الأعشاب فإنها تستقر في مياه أعمق حول الجزيرة وتأخذ معها الكربون المخزن في خلاياها وتلك طريقة طبيعية لفصل الكربون الناجم عن حرق الوقود والذي تمتصه مياه البحار.
ومنذ ذلك الحين وسّع دوارتي نطاق بحثه من الأعشاب البحرية ونشر أبحاثا عديدة حول الكيفية التي يمكن بها أن تكون استعادة البيئات البحرية، من الشعاب المرجانية إلى المستنقعات الساحلية والداخلية ومستنقعات أشجار المانجروف، وسيلة فعالة في إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.
ويقول دوارتي إن مستنقعات المانجروف وأحواض الأعشاب البحرية على سبيل المثال أكفأ 15 مرة في إزالة الكربون وفصله من الغلاف الجوي من الغابات التي تمتص ثاني أكسيد الكربون وتطلق الأكسجين عبر عملية التمثيل الضوئي.
وقال وليام أوستن المتخصص في البيئات البحرية بجامعة سانت أندروز في اسكتلندا “هذا علم ابتكاري يتيح فرصا جديدة لنا لكي نفكر في الطبيعة وإدارة بيئتنا البحرية”.
وقال أوستن الذي قدم وساما لدوارتي من الاتحاد الأوروبي لعلوم الأرض في 2016 تكريما له على إنجازاته إن دوارتي “يفتح حوارا جديدا عن البيئة البحرية الأوسع وإمكانية إدارتها إدارة فعالة فيما يتعلق بالكربون. ولا ينكر أي منا ونحن نفعل ذلك أننا نحتاج للتركيز على خفض الانبعاثات وتغييرات أخرى في الاستهلاك. غير أن حجة الحلول المبنية على الطبيعة مقنعة”.
تم طرح مشروع البحر الأحمر السعودي كجزء من الحل وهو جزء من رهان جريء أن بإمكان المملكة أن تحوّل اقتصادها بحيث لا يعتمد على النفط في العقد المقبل قبل انهيار سوق الوقود الأحفوري.
وعلى المحك مئات المليارات من الدولارات بخلاف الاستقرار الاقتصادي للبلاد وبشكل ضمني مصير النظام الملكي.
سيغطي المنتجعان اللذان سيقامان على البحر الأحمر 11 ألف ميل مربع من الأرض والبحر ويتيحان آلاف الوظائف وفي الوقت نفسه يضيفان ما يقدر بنحو ستة مليارات دولار للاقتصاد السعودي.
ويصفه السعوديون بأنه مشروع عملاق. وهناك مشروع آخر هو مدينة نيوم الخالية من الوقود الأحفوري على البحر الأحمر بالقرب من مصر وإسرائيل والمتاخمة للأردن. ومن المفترض أن تعمل تلك المدينة بشكل مستقل عن الحكومة السعودية ويملكها صندوق الثروة السيادية السعودي.
ويأمل السعوديون أن تعمل هذه المشروعات التي لا تزال في بداياتها على تنشيط السياحة وتضع المملكة في صدارة توليد الطاقة من موارد متجددة وتكنولوجيا فصل الكربون وإنتاج غاز الهيدروجين بالطاقة الشمسية وهو وقود لا ينتج عن استخدامه سوى بخار الماء وهواء دافئ بدلا من ثاني أكسيد الكربون.
لكن حتى الآن لا تزال هذه المشروعات وعودا إلى حد كبير مثل كثير من الوعود التي أطلقتها دول أخرى لا حصر لها بتقليل الاعتماد على أنواع الوقود الأحفوري