الضعف الأميركي ورهانات الأغبياء
السيد صادق الموسوي-البناء
كثيرون يتصوّرون أن الولايات المتحدة الأميركية هي صاحبة اليد العليا، وأن بيدها القرارات الكبرى، وهي التي تحدد مصير الأمم والدول، وتُسقط أنظمة وتركّب حكومات، لكن بقليل من التعمّق نرى:
1- مزاجية الولايات المتحدة، بمعنى أنّ رئيساً يأتي ويحدد سياسة بناءً على أجندته وأفكاره وخلفياته، ويعقبه رئيس آخر يتصرف بعكس سلفه بصورة كاملة، والنموذج الأخير أمام أعيننا، حيث كان أوباما يتودّد لإيران ويرسل الرسالة تلو الرسالة لآية الله خامنئي وأنجز أخيراً الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية، إضافة إلى قرارات أخرى اتخذها في موضوعات داخلية، لكن ترامب فور دخوله البيت الأبيض انقضّ على كل إنجازات سلفه ورأى في الاتفاق الأميركي مع الجمهورية الإسلامية أسوأ اتفاق في تاريخ الولايات المتحدة وأعلن الخروج منه وعليه.
وفي مجال العلاقات مع المملكة العربية السعودية كانت إدارة أوباما تتعامل ببرودة مع المملكة فيما انقلب ترامب الذي كان يهاجم السعوديين قبل انتخابه إلى متودد حتى أقصى الحدود، وهو أعلن مراراً بأنه لا يعنيه في هذه العلاقة إلاّ كسب مزيد من المال، وأسمى أنظمة الخليج بصورة عامة بأنهم «البقرة الحلوب»، وكان في خطاباته يتباهى بأنه باتصال هاتفي قصير لم تتجاوز مدته الدقيقة الواحدة حصل على مبلغ 500 مليون دولار من الملك السعودي سلمان، وهو قام بالتغطية على جريمة قتل جمال الخاشقجي مقابل مال تسلمه من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لكن جو بايدن ربح الرئاسة وكانت أحدى ركائز حملته العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران ومتابعة قضية خاشقجي، وهو أعلن أنه لن يتعامل مع ولي العهد السعودي بسبب ضلوعه في تلك الجريمة المروعة.
ثم إن سياسة الولايات المتحدة تنقلب بين عشية وضحاها، فعدو الأمس يصبح صديقاً بل حليفاً، وحليف الأمس يصير عدواً خطيراً يهدد المصالح القومية للولايات المتحدة، ففي النموذج الأول هو الرئيس العراقي صدام حسين الذي كان حتى قبل انتصار الثورة الإسلامية هو العدو الرئيس للسياسة الأميركية، لكنه تحول إلى حليف أساسي للولايات المتحدة ووضعت الإدارة الأميركية جميع إمكاناتها تحت تصرفه في الحرب ضد الجمهورية الإسلامية، وشجعت أيضاً حلفاءها وأصدقاءها في العالم لتقديم كل مساعدة للعراق في مواجهة إيران، ورفعت اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وأعادت العلاقات مع العراق ورفعت العلم العراقي على سارية السفارة في العاصمة الأميركية بمشاركة وزير الخارجية الأميركي ألكسندر هيغ ووزير الخارجية العراقي طارق عزيز.
لكن ما إن توقفت الحرب حتى بدأت أميركا بالتحرش بالرئيس العراقي بدءاً بـ «المدفع العملاق» ثم بـ «الصاعق النووي» ثم بـ»أسلحة الدمار الشامل»، وأخيراً كان توريطه بغزو الكويت لتكون الذريعة لإعلان الحرب ضده، وأخيراً كان إسقاطه في العام 2003.
والنموذج الماثل أمامنا اليوم هو التحول في العلاقة مع جماعة طالبان الأفغانية حيث كانت العلاقة الأميركية معها متينة إلى أقصى الحدود وكان يستقبل قادتها الرئيس الأميركي ريغان في البيت الأبيض، وكانت وسائل الإعلام الأميركية تصفها بـ «المجاهدين»، لكن الجماعة تحوّلت بعد فترة إلى حكومة راعية للإرهاب، وطالبتها الإدارة الأميركية بتسليم أسامة بن لادن الذي كان قبل ذلك رجل أميركا الأمين والموثوق في أفغانستان، وتذرّع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بأحداث 11 أيلول ليسوّق الاتهام فوراً إلى القاعدة ويعلن الحرب على أفغانستان واحتلالها، وبعد أن فشلت الإدارات الأميركية المتعاقبة الجمهورية والديمقراطية في الاستمرار في تحمّل أعباء وتكلفة البقاء هناك انقلبت مجدداً إلى التقارب مع جماعة طالبان وعقدت اجتماعات عديدة معها، وأخيراً سهّلت لها السيطرة على البلاد وتركت لها قواعدها العسكرية ومخزوناً هائلاً من أحدث أنواع الطائرات والمعدات والأسلحة.
أما النموذج الأحدث فهو التحوّل في السياسة الأميركية تجاه سورية حيث كان الموقف الأميركي حتى قبل أسابيع عدم السماح لأيّ تعامل لبناني وعربي مع الدولة السورية القائمة، بل كان كلّ الدعم والمساندة لمعارضي النظام والثائرين عليه، لكن ما إن كان إعلان تحرك ناقلات المحروقات من الجمهورية الإسلامية إلى لبنان الرازح تحت أشدّ العقوبات الأميركية بسبب تغلغل حزب الله في أجهزة الدولة اللبنانية، حتى سارعت السفيرة الأميركية في لبنان بالإعلان عن رفع قيود بلدها عن التعامل مع سورية، ودفعت أميركا بالدولتين العربيتين مصر والأردن إلى التعاون مع سورية لتأمين الكهرباء والغاز للبنان، وتم ذهاب وفد وزاري لبناني رسمي إلى دمشق، وعقد لقاء رباعي في عمّان ضمّ الأردن ومصر وسورية ولبنان، ورضيت الولايات المتحدة بأن تأخذ سورية نصيبها من الغاز والكهرباء اللذين يمرّان عبر أراضيها، وحركت العراق أيضاّ لتقدم مليون برميل من النفط مجاناً للبنان، ورضيت أميركا كذلك بتأليف الحكومة اللبنانية بعد أكثر من عام وأن يكون فيها وزراء لحزب الله، وخفتت فجأة كافة الأصوات المنادية بإسقاط النظام السوري، وصار كلّ الحديث يدور حول الحلّ السياسي في سورية، وفي لبنان رضي جميع الأطراف بما توافق عليه الرئيسان الفرنسي والإيراني وسقطت جميع الاعتراضات من الحريصين على الاستقلال والمطالبين بالسيادة الوطنية.
أمام هذه النماذج من الأداء الأميركي المزاجي والمتقلب والذي أوردنا قليلاً منها، وبعد تراجع القوة الأميركية الاقتصادية أمام الصين والعسكرية أمام روسيا، وذهاب هيبتها بفعل السياسة الإيرانية في الاستخفاف بها والتعالي عليها من خلال رفض التفاوض المباشر معها، وتوسل الإدارة الأميركية السابقة والحالية كي تقبل إيران بالجلوس معها ولو لأخذ صورة تذكارية، وأخيراً رضوخها للشروط الإيرانية، واستعداد الإدارة الحالية لإلغاء كافة العقوبات التي فرضها ترامب المعتوه على الجمهورية الإسلامية.
بعد كل هذا كيف لعاقل أن يراهن على الولايات المتحدة الأميركية، ويربط سياسة بلده بمزاج رؤسائها، ويعلق الآمال على مواقفها، وينتظر رضى الإدارات الأميركية المتأرجحة في توجهاتها؟
وفي الختام لا بد من التذكير بمآل أكثر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وشرطي الخليج كله وهو الشاه محمد رضا بهلوي حيث مُنع من اللجوء إلى أميركا وهو يحمل جنسيتها بعد هربه من إيران، وتشرد في عدة دول حتى دخل أخيراً إلى الولايات المتحدة، لكنه أُدخل فوراً في مستشفى الأمراض العقلية وتمّ التعامل معه على أنه مجنون، وأغلقت عليه الأبواب والمنافذ حتى لا يرى شيئاً خارج غرفته ولا يأتي أحد لزيارته.
وصدام حسين الذي خدم الولايات المتحدة أفضل خدمة بدخوله الحرب مع الثورة الإسلامية في إيران التي كانت وجهتها فلسطين وهدفها تحرير القدس من دنس الاحتلال الصهيوني، وهو تكفل بالتصدي لها وبناء حاجز قوي يمنع الإيرانيين من صرف جهودهم وإمكاناتهم في مواجهة الكيان الغاصب، لكنه في النهاية تمّ إخراجه من حفرة وتم التعامل معه بكل إذلال، وأخيراً تم تسليمه من جانب السلطات الأميركية إلى الدولة العراقية وتمت محاكمته وإعدامه.
وهنا نذكر المتعلقين بحبال أميركا في لبنان والمنطقة كلها بكلام لأمير المؤمنين علي يقول فيه: «ما أكثر العِبَر وما أقلّ الاعتبار»، ويقول الله سبحانه: (إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) صدق الله العلي العظيم.