الحكومة العتيدة في الوقت الضائع! كان الله بعون لبنان…
د. عدنان منصور*-البناء
بعد أن تولى حسان دياب رئاسة الحكومة، كان هناك على الساحة السياسة من لا يريد، إصلاحاً، ولا أدارة سليمة ولا مواجهة للفساد، ولا محاكمة للفاسدين. إذ أنّ المنظومة السياسية المتجذرة في الحكم، لا سيما، أخطبوط المصالح الخاصة الذي يمثل الدولة العميقة داخل الحكومات والمؤسسات والإدارات العامة، كانت تدير وتوجّه السياسات، وتتخذ القرارات الملائمة لامتيازاتها، ونفوذها ومصالحها المالية، والتجارية، والاقتصادية، وتحرص على وجودها داخل شبكة المقاولات والتلزيمات والعقود والصفقات التي تسيل على الدوام لعابها.
أكثر من سنتين، والبلد يتخبّط في أسوأ أزمة خانقة مدمّرة، لم يشهدها في تاريخه الحديث، فيما أرباب المنظومة السياسية يهدرون الوقت وهم يبحثون منذ ثلاثة عشر شهراً عن حكومة إنقاذ، وأيّ إنقاذ! لم يبق معادلة او مصطلحاً إلا واستخدموه، لغاية أنه استهوتهم الأرقام والرسوم الهندسية والمعادلات الرياضية والمقاييس والمكاييل، وهم يقاربون تشكيل الحكومة، فيقولون لك إنها على بعد أمتار، أو خطوات، أو العودة الى النقطة الصفر، أو المربع الأول والمربّع ما قبل الأخير، والمربع الأخير! هناك من تكلم عن الزوايا الحادة التي يعملون على تدويرها، وهناك من حدثك عن التحرك في دائرة مفرغة، وعن المثلث، والثلث، والربع، والنصف زائد واحد، وعن المسافة المتبقية للتشكيل، والأمتار الفاصلة عنه، وعن الربع المتر الأخير…
لم يكتف أرباب المنظومة ومن لفّ لفهم بالرسوم الهندسية، من خطوط، ودوائر، ومثلثات، ومربعات ومستطيلات وزاوايا، بل تراهم يدورون حول أرقام تجذبهم، وتحرك عقولهم في كلّ مرة يحاولون مقاربة تشكيل الحكومة العلية، فيحومون حول الأرقام المحظوظة، 14 و 16 و 18 و 20 و24 و 30 و32. بذلك كانت تكتمل أرقام اللوتو الحكومية!
وطن يتفكك ويتحلل، وشعب يهاجر، والجوع والفقر يلفّ غالبية اللبنانيين، والزمرة السياسية بقيت لأكثر من سنة غارقة في تدوير الزوايا والحصص، والعدد، والحقائب الدسمة وشروط توزيعها ووو…
شعب يعيش في قاع المستنقع، وحكامه على كوكب آخر، يتجاذبون هذه الوزارة او تلك، يوزعون الحقيبة على هذا او ذاك!
هذا يطرح اسماً، وذاك يرفضه. هنا من يتمسك بحقيبة، وهناك من يعترض! والسؤال الذي يطرح اليوم بعد تشكيل الحكومة، والتي من المفترض أن لا يزيد عمرها عن تسعة أشهر، وهو أقلّ من عمر الفراغ السياسي الذي عاشه لبنان: ألم يكن بمقدور المنظومة السياسية الراعية للحكومة، إيجاد التركيبة الحالية قبل أشهر وتجنيب لبنان المزيد من الانهيار والفوضى، والإفلاس والسقوط؟! ما الذي ستحمله الحكومة الجديدة من معجزات، كي تحقق ما هو مطلوب منها، خلال ثمانية أشهر من عمرها الافتراضي! أهي حكومة تكنوقراط، ومستقلين فعلاً، ويتحركون من تلقاء أنفسهم، بملء إرادتهم، وبوحي ضميرهم المطلق، يضعون صالح الوطن فوق كلّ اعتبار! أم أنّ المنظومة السياسية التي تتحمّل وحدها مسؤولية الانهيار الذي وصلت اليه البلاد، هي التي ستدير الأمور في كلّ صغيرة وكبيرة، (وهذا أمر مفروغ منه وحتمي)، تكبّل عمل الحكومة واندفاعها، ثم تلقي المسؤولية والتبعات على الوزراء!
ما الذي تغيّر بعد أكثر من عامين من حراك الشعب وغضبه على الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان؟! ما الذي تغيّر في سلوك وأداء الذين قبضوا على مؤسسات الدولة وأفلسوها، ونهبوها، وجوّعوا وأذلّوا شعبها؟! ما هو الجديد الذي ستقدّمه الحكومة العتيدة، التي تضمّ العديد من الوزراء النزيهين الأكفاء المشهود لهم، عبر منظومة لن تغيّر من سلوكها وأدائها وتوحشها، ولن تخفف من استغلالها، ونهمها، واحتكاراتها، وكارتيلاتها !هل ستسمح الدولة العميقة للوزارة الجديدة بملاحقة المختلسين ومهرّبي الأموال بصورة غير قانونية، وكشف أسمائهم واحداً واحداً!
هل ستسمح للقضاء بملاحقة كلّ من أثرى وحقق ثروة على حساب الخزينة والشعب وتبخرت الأموال العامة على يديه! وهل ستسمح بوضع حدّ نهائي للاحتكارات والوكالات الحصرية، والكارتيلات، والمافيات التي تتحرك في كلّ الاتجاهات! هل ستلاحق من تلاعب بالعملة الوطنية وأوصلها الى الانهيار الذي هي فيه! هل سترفع يدها عن القضاء لملاحقة أباطرة السوق السوداء، وإصدار الحكم الصارم بحقهم، وهم الذين خزنوا النفط ومشتقاته، والدواء، والغذاء، وكانوا السبب الرئيس في إذلال وتجويع المواطنين، وقهر المرضى! هل ستسمح لها باستعادة هيبة الدولة، وثقة الشعب بها! وهل وهل…
إنّ بقاء المنظومة الحاكمة على حالها، تدير الحياة السياسية عبر حكومة موزاييك، تجمع التناقضات، في ظلّ ثقة مهتزّة بين الأطراف يشوبها الحذر الشديد، في الرؤى والأهداف والغايات، لا يعطي الرجاء أو الأمل في إيجاد الحلول السريعة لمشاكل بلد أصبح مهدّداً بشكل مباشر وحادّ في صيغته الحالية، ووحدته، وعيشه الواحد، واستمراريته، وبقائه وطناً نهائياً لجميع أبنائه !
إنّ المنظومة السياسية المهترئة التي حكمت وأدارت البلاد على مدار عقود، وفشلت فشلاً ذريعاً في إقامة دولة القانون، وصون وحدة الشعب، وتعزيز المؤسسات الدستورية، وتحقيق الإنماء المتوازن، والحوكمة الرشيدة،
ورفع اليد عن القضاء، تمكيناً له لمحاكمة الفاسدين، وعجزها عن وضع حدّ للجنوح الطائفي، وهيمنة سلوكه السيّئ على مؤسسات الدولة بمستوياتها كافة، لن تستطيع ان تلبّي مطالب أبناء شعبها، أياً كانت الشعارات التي ترفعها وتحرص عليها، والتي سيتضمّنها البيان الوزاري المنتظر، الذي بأدبياته المنمّقة، سيزخر بالوعود، والمشاريع والحلول.
ما أكثر البيانات الوزارية التي أطلت على اللبنانيين، وما أقلّ الالتزام بها وتنفيذ مضامينها! وما البيان الوزاري المنتظر إلا ليحمل الآمال تلو الآمال، بها يعيش المواطن المسحوق المعذب، على فسحة من الأمل، فيما الزمن ينهش من عمره، والمنظومة السياسية القابضة على زمام الأمور تجدّد لنفسها وبنفسها، تستنسخ ذاتها، وكأنّ شيئاً لم يتغيّر. تتقدّم بكلّ عنجهية وغرور بين صفوف الشعب، تتحداه، تستفزه في عقر داره، ولسان حالها يقول له: القرار والنفوذ لي! والسلطة والحكم لي! والاحتكارات والكارتيلات والامتيازات لي! وحق التوريث السياسي لي! واغضب وأشتم متى شئت وكيفما يروق لك !
في دول العالم التي يحترم السياسيون والحكام أنفسهم، يغادرون المسرح السياسي نهائياً عندما يفشلون في إدارة الحكم او المؤسسات. او عندما يفقدون ثقة الشعب بهم والذي يحترمون إرادته. لكن في لبنان، وللأسف الشديد، الأمر يختلف، فكلما حامت الشبهات الدامغة حول مسؤول ما، تراه أكثر تحدياً وصلفاً وعناداً واستخفافاً، غير مبال بمطالب الشعب وحكمه عليه، فتراه مجدّداً على سدة الحكم.
إنّ العلة في لبنان ليست في تشكيل حكومة، او في وجود أو عدم وجود وزراء أكفاء، وإنما العلة تكمن في نظام طائفي رجعي، مترهّل، مترنّح، لا يمكن له مطلقاً أن يبني دولة، ويخدم شعباً أو وطناً، ويلبّي مطالبه المحقة لا من قريب ولا بعيد. نظام طائفي وجد أصلاً ليخدم طبقة سياسية طائفية ملازمة له، يحقق لها على الدوام مصالحها، وأهدافها، ويحصّنها في وجه أيّ تغيير أو إصلاح، كي يضمن بقاءها واستمراريتها، ومن ثم توريثها لأبنائها وأحفادها.
حقائق الأمور تقول للبنانيبن اليوم رغم أوضاعهم الكارثية: لا تعوّلوا على الإصلاح الذي تنتظرونه بفارغ صبر، لأنه لن يأتي على يد أصحاب البطون المنتفخة التي كانت سبب فقركم، وإفقاركم، وإذلالكم، وإفلاسكم،
ونهبكم، وتجويعكم!
التغيير لم يأت بعد. ولا تأخذكم الوعود البراقة والأوهام! الإصلاح لا يزال بعيد المنال، ولن يتحقق على يد منظومة منغمسة في الفساد وراعية وحامية له بكلّ قوة وشراسة ما دامت اساس الحكم والسلطة !
أشهر قليلة وستبدي لنا الأيام مدى صحة ما نقوله، وما ستحققه الحكومة التي يعلق عليها الكثيرون الآمال الكبار، من إنجازات ستوعدنا بها دون شك، بعد أيام قليلة، بمباركة، وتوجيهات شبكة المنظومة السياسية، التي على يديها ولدت التشكيلة الوزارية بعد طول عناء، بعملية قيصرية صعبة كادت أن تقضي عليها قبل ان ترى النور! هل يرى اللبنانيون بدورهم النور على يديها، أم انّ المنظومة الحاكمة سترسم لها سيرة تضمّها الى سيرة الحكومات السابقة؟! بعد أشهر قليلة، سيكون التقييم والحكم للشعب!
فلننتظر!
وإنّ غدا لناظره قريب…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ