الجدار الذي يتلطّى خلفه جعجع
إيلي القصيفي -أساس ميديا
وضع جعجع خريطة طريق للحلّ تبدأ بانتخابات نيابيّة مبكرة، ثمّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية فور اكتمال عقد المجلس النيابي الجديد، ثمّ تشكيل حكومة إصلاحات منبثقة عن المجلس نفسه، وأخيراً إجراء حوار وطني برعاية رئيس الجمهورية الجديد لمناقشة الملفّات الخلافية، ولا سيّما تلك المتعلّقة بسيادة الدولة، والاتّفاق على ما لم يُطبَّق من اتفاق الطائف، وخصوصاً ما يرتبط بالسلاح واللامركزية الموسّعة.
للوهلة الأولى يظهر طرح جعجع متماسكاً ومنطقياً، لكنّه طرحٌ منزوع الفتيل السياسي، لأنّه لا يصيب هدفاً سياسياً مباشراً يمكن أن يشكّل عنوان مواجهة مع “الزمرة الحاكمة التي يشكّل نواتها الصلبة الثنائي حزب الله والتيار الوطني الحر”، كما قال جعجع.
فصحيح أنّ رئيس القوات تقدّم خطوة إلى الأمام بطرحه إجراء انتخابات رئاسية مبكرة فور إجراء الانتخابات النيابية المبكرة، لكنّه عملياً لم يبدّل أولويّته السياسية، وهي إجراء انتخابات نيابية مبكرة. ولو أراد خلط الأوراق والتقدّم خطوة كبيرة على طريق المواجهة مع الثنائي المذكور لكان طالب باستقالة رئيس الجمهورية، لأنّ أيّ طرح دون هذه المطالبة هو بلا مفعول سياسي راهناً.
لكنّ جعجع يريد بطرحه هذه المعادلة إعفاء نفسه من أعباء المواجهة السياسية المفتوحة مع هذا الثنائي، وتحديداً مع الحزب الذي أحال مسألة حلّ الأزمة الوطنية التي يتسبّب بها تمسّكه بسلاحه إلى الشيعة أنفسهم، وكأنّ عموم اللبنانيين غير معنيّين بها، أو كأنّ حلّ هذه المسألة هو اختصاص شيعي.
ولا ريب أنّ طرح جعجع المتّصل بسلاح الحزب يحيل إلى قراءته للواقع السياسي اللبناني الحالي وإلى استراتيجيّته السياسية بإزاء هذا الواقع.
في الواقع ينظر رئيس القوات إلى الخريطة السياسيّة الحالية بوصفها جزراً طائفية ليس بينها أدنى تداخل. فكلّ من هذه الجزر له أولويّاته السياسيّة المختلفة تماماً عن أولويّات الجزر الأخرى، ولو كانت كلّ هذه الجزر تواجه النتائج الكارثية نفسها لرئاسة ميشال عون، كما قال جعجع.
لذلك فإنّ أولويّة القوات في التركيز على الانتخابات النيابية المبكرة، ولو لم يبقَ سوى أشهر قليلة على موعد الاستحقاق الانتخابي، تعكس أمرين:
– أوّلهما أنّ القوات تعوِّل على الانتخابات النيابية لتحصيل مقاعد نيابية إضافية تخوِّلها أن تصبح اللاعب المسيحي الأوّل في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
– وثانيهما أنّ مطالبة القوات بالانتخابات النيابية المبكرة، وهي مطالبة شعاراتية لا تعبّر في توقيتها عن دينامية سياسيّة فعليّة، لا تعدو كونها جداراً تتلطّى القوّات خلفه لكي لا تطالب باستقالة عون جاعلةً منها مطلباً سياسياً جدّيّاً يرسم خطّاً بيانياً للمواجهة السياسية مع ثنائي الحزب والعهد.
ولعلّ إحجام جعجع عن المطالبة باستقالة عون هو إحجام متّصل بحسابات انتخابية مسيحية، باعتبار أنّ هذه المطالبة تعطي ذريعة للتيار الوطني الحرّ للقول إنّ القوات تُضعف الموقع الرئيسي للمسيحيين في النظام، في وقت يخوض الرئيس عون معركة الدفاع عن حقوق المسيحيين.
وعليه يفضّل جعجع البقاء ضمن دائرة سياسية آمنة، وذلك لحسابات انتخابية ورئاسية. فهو لا يريد الدفع باتّجاه إسقاط الستاتيكو السياسي الراهن، بل هو مرتاح إلى حالة “الفردانية السياسية” التي تغرق فيها كلّ قوة سياسيّة على حدة، وهو ما يمنع تشكيل جبهة سياسيّة تُعيد إحياء عناوين المواجهة الفعليّة مع العهد والحزب.
وليس أدلّ على ذلك من كون رئيس القوّات لم يتطرّق في كلمته يوم الأحد إلى نداء المطارنة الموارنة في الأول من أيلول، الذي اتّهم قوى إقليمية وقوى محليّة تابعة لها بالوقوف وراء زوال لبنان، بل آثر جعجع البقاء في العموميّات في حديثه عن مواقف بكركي، ولم يبنِ على هذا النداء الذي يمكن أن يشكّل ركيزة سياسيّة ووطنية لإطلاق دينامية مواجهة مع الثنائي الحاكم.
لا ريب أنّ جعجع يبرّر توجّهه السياسي بأمرين:
– الأوّل أنّه إذا خرج من أولويّته الضيّقة فهو لا يضمن ملاقاته من قبل الحلفاء القدامى في “14 آذار” الذين يغرقون هم أيضاً في أولويّاتهم الضيّقة.
– والثاني أنّ المناخ الدولي والإقليمي مؤاتٍ لحزب الله، ولن يذهب جعجع في اتجاه معاندة الواقع الجيوسياسي الجديد، كما فعل مطلع التسعينيّات، فكانت النتيجة إبعاده عن اللعبة السياسية واعتقاله.
بيد أنّ هناك فرقاً أساسياً بين المرحلتين، وهو أنّ لبنان يواجه حالياً انهياراً شاملاً يهدّد دولته وهويّته السياسية والاقتصادية، ولذلك يُفترَض بالقوات أن تسأل نفسها: هل حصولها على خمسة أو حتّى عشرة نوّاب إضافيين يمكن أن يغيّر الواقع إذا أصبح لبنان برئاسة جمهوريّته وبرلمانه وحكومته بيد طهران والحزب؟
إلّا إذا كان حزب القوات مستعدّاً هذه المرّة للتأقلم مع المعادلة الإقليمية والدولية الجديدة، والرهان على أنّها يمكن أن تعزّز الحظوظ الرئاسية لجعجع!
لكن هل تضمن القوات ألّا تخضع سياستها ورهاناتها للمحاسبة في الانتخابات المقبلة؟
وقتذاك لن ينفع القوات الندم، كما لم ينفعها بعد انتخابها لعون.