مهزلة ومأساة في مهمّة مستحيلة
لا حدود لما يشهده لبنان من غرائب وعجائب في عز الإنهيار. من الغرائب أن يتوهم أي طرف قوي أو مستقوٍ بأنه قوي على الوطن الصغير حتى في أيام محنته. ومن العجائب أن تدار اللعبة السياسية من أجل هدف خارج هموم الناس والبلد هو ضمان الوصول الى الرئاسة في جمهورية تغرق كمكافأة على الفشل في إدارة الشأن العام و”النجاح” في زيادة الأثقال على سفينة الجمهورية الغارقة. وقمة العجائب والغرائب في بلد مفتوح ونظام لا أسرار فيه ممارسة الوسائل التقليدية في الأنظمة السلطوية: إختراع”مؤامرة”على العهد بداعي مواقفه الإستراتيجية ودعمه للمقاومة الإسلامية في بلد أمراء التكتيك والعجز حتى عن الإتفاق على استراتيجية دفاعية. وإختراع”حصار”أميركي على لبنان من أجل أن يتولى المحاصرون بالفعل، وهم إيران و”حزب الله” دور البطولة في كسر الحصار الوهمي وأخذ البلد الى الحصار الواقعي.
وهكذا يكتمل المشهد المعقد: مهزلة في الكوابيس، تساهم في تعميق مأساة على المسرح، وهما معاً في خدمة مهمة مستحيلة. المهزلة هي ما يدور منذ عام في المماحكات حول تأليف الحكومة بين رئيس الجمهورية وثلاثة بالتتابع من رؤساء الحكومة المكلفين. المأساة هي إنهيار كل جوانب الحياة العصرية، وإعادة البلد الى العصر الحجري حيث لا كهرباء ولا ماء ولا مازوت ولا بنزين ولا غذاء، وقتل الناس بحجب الدواء عنهم، وخصوصاً مرضى السرطان. أما المهمة المستحيلة التي يخدمانها، فإنها تغيير جوهر لبنان وهويته ليصبح جزءاً من المشروع الإمبراطوري الإيراني أو أقله ليخدم المشروع كمنصة للصواريخ وموقع جيوسياسي على خلاف مع الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين. والمظاهر خادعة، وإن بدا تمدد المشروع واسعاً في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. وخداع النفس يشمل أي طرف واحد أو مذهب يتصور القدرة على حكم لبنان التعددي بغطاء مكشوف أو بلا غطاء.
ذلك إن من يدفع لبنان الى إكتمال الإنهيار لا يستطيع أن يمسك به ويتحمل المسؤولية المباشرة عنه أمام اللبنانيين والعرب والعالم، ولا أن يصنع من خرابه بلداً آخر لا علاقة له بتراثه وتاريخه و”رسالته”. ومن يبحث عن الرئاسة بالتفاهم مع طرف واحد في الداخل وبلد واحد في المنطقة، وبالخصومة مع بقية الأطراف في الداخل ومعظم القوى الخارجية المؤثرة، وبالرهان على تشديد الأزمات الضاغطة على اللبنانيين، سيصطدم بمعادلة ثابتة: مصير شخص لا يعرف كيف يحافظ على ما أعطي له من رصيد، ولا كيف يخسر، لا يتقدم على مصير بلد وشعب. وحظوظ المتزاحمين على طريق الرئاسة في زمن الإنهيار والباحثين عن دعم محلي وخارجي، تبدو مضحكة مبكية إذا جاءت ضد حظ لبنان.
كان هنري أدامز يقول:”السياسة العملية تكمن في إنكار الحقائق، وهي التنظيم المنهجي للحقد”. لكن السياسة في لبنان تقدمت في الفظاعة على السياسة التي وصفها أدامز قبل قرنين.