توحيد أسعار الصرف خطوة محفوفة بالمخاطر وتحتاج برنامجاً صندوقياً
كثيرة هي أسعار صرف الدولار المتداول بها مقابل الليرة اللبنانية! هذا الأمر هو نتاج الـ Arbitrage الذي يقوم به التجار بين سعر الدعم وسعر السوق السوداء، ولكن أيضًا السوق السوداء للسلع والبضائع والتي أصبحت نسبة مشاركة المواطنين فيها كبيرة نظرًا إلى غياب أي مصدر أخر لهم لتأمين مداخيل إضافية.
وقد يقول البعض أن الحل البديهي هو برفع الدعم وتحرير سعر الصرف وبالتالي فإن إمكانية الـ Arbitrage ستختفي حكمًا. إلا أن البحث المعمق يوصلنا إلى أن مثل هذا القرار قد يؤدي إلى كوارث إجتماعية في ظل غياب أي أفق سياسي وغياب شبكة أمن إجتماعي تسمح بإمتصاص التداعيات السلبية التي قد يخلّفها إرتفاع الأسعار المتوقّع.
عمليًا، من المتوقّع أن ترتفع الأسعار بعد عملية التحرير بشكل كبير قبل أن تعاود الإنخفاض لتأمين توازن إقتصادي – نقدي. وفي ظل غياب حل سياسي سيكون منحنى سعر الصرف بعدها تصاعديا مع إحتمال وصوله إلى مستويات موجعة إجتماعيًا. من هذا المنطلق، خطوة توحيد سعر الصرف يجب أن تكون ضمن خطة متكاملة ضمن إطار برنامج من صندوق النقد يسمح للبنان بالحصول على مساعدات مالية دولية وإستثمارات في الإقتصاد اللبناني.
العملة تعكس الثروة الوطنية بما فيها الإقتصاد. وبما أن الإقتصاد اللبناني يعيش حال إنكماش للعام الثالث على التوالي مع توقعات بإستمرار الإنكماش في العام المقبل، تُصبح الليرة في وضع هش أمام الدولار الأميركي الذي يختفي يومًا بعد يوم من السوق اللبناني بحكم الإستيراد وعمليات التهريب المستمرة. لذا تحتاج الليرة إلى عاملين لمواجهة الدولار في السوق حتى لا تكون تحت رحمة المضاربة الشرسة:
العامل الأول – ثقة يكون منبعها حكومة قادرة على القيام بالإصلاحات الضرورية وتكون مظلتها المالية الدولية، صندوق النقد.
العامل الثاني – دعم مالي يلعب دور الإحتياطي من العملات الأجنبية كتلك التي كان يمتلكها مصرف لبنان قبل الأزمة، بإنتظار أن يُسجّل الإقتصاد اللبناني نموًا إقتصاديًا يكون له دور محوري في تحسن سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي.
بغياب هذين العاملين، وفي ظل فرضية تحرير كامل لسعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، سيكون المواطن اللبناني تحت رحمة المضاربة والإحتكار والتهريب. ولعل من أصعب ما سيواجهه المواطن هو فقدان القدرة على شراء المواد الغذائية ولكن أيضًا المحروقات والكماليات الأساسية الأخرى. ولكن المُشكلة الأكبر تبقى في القروض المُعطاة بالدولار الأميركي والتي يتمّ سدّها اليوم على سعر صرف ١٥٠٠ ليرة لبنانية. وبالتالي وفي حال تحرير سعر الصرف فإن المواطن سيجد نفسه ملزمًا دفع ١٥ ضعفًا ما يدفعه حاليًا لسدّ القرض وهو أمر شبه مستحيل مع المداخيل الحالية بالليرة اللبنانية.
إذًا عملية التحرير يجب أن تتمّ على عدة مراحل تبدأ بتوحيد الأسعار ومكافحة شرسة للإحتكار والتهريب بالتوازي مع خطّة إقتصادية لإستقطاب الإستثمارات وخلق وظائف والقيام بإصلاحات إقتصادية ومالية ونقدية وإدارية وقانونية تكون ضمن برنامج مع صندوق النقد الدولي. هذه العملية المُعقدة والتي تتطلّب تناغمًا في الخطوات التنفيذية، يجب أن تحوي على خلق شبكة إجتماعية لمساعدة الأكثر فقرًا، ولكن أيضًا على فرض حقيقي وفعلي للسيادة المالية للدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية.
وفي إنتظار تشكيل حكومة للقيام بهذه المهمة المعقدة، يأخذ الملف الإجتماعي دورًا أساسيًا في الإجراءات الحكومية وعلى رأسها البطاقة التموينة والمساعدات الإجتماعية على أن يكون التمويل من خارج مصرف لبنان وذلك تفاديًا للطبع والتضخمّ.
على هذا الصعيد تلقّى مصرف لبنان حصة لبنان من حقوق السحوبات الخاصة (SDR) والتي بلغت ٦٠٥ مليون SDR أو ما يوازي ٨٦٠ مليون دولار أميركي، حيث أصبحت هذه الأموال (SDR) في حساب مصرف لبنان لدى صندوق النقد الدولي. وتبقى المهمة الأن إيجاد دولة تقبل بتبديل هذه الأموال مقابل دولارات وهو أمر ليس بالسهل في ظل الظروف الحالية نظرًا للتشنّج القائم بين لبنان والمجتمع الدولي ولكن أيضًا نظرًا لجائحة كورونا التي أكلت سيولة العديد من الدول. وبحسب المعلومات المتوافرة في الأروقة، تبقى الدول الخليجية وعلى رأسها قطر من أكثر المرشحين لقبول هذه المهمة التي تبقى وعلى الرغم من كل ما يُمكن أن يُقال على هذا الصعيد بحاجة إلى رضى دولي.
بعض المعلومات التي توافرت، تقول أنه وعلى الرغم من أن لا قيود على هذه الأموال التي هي حق للبنان وليست مساعدة، هناك بعض الشروط الضمنية التي تنصّ على عدم القدرة على إستخدام أكثر من ٢٥٪ من هذا المبلغ في المرحلة الأولى. وإذا كانت هذه المعلومات غير مؤكدة حتى الساعة، تتركز الإهتمامات الدولية على كيفية إستخدام السلطات اللبنانية لهذه الأموال وهو ما قد يكون مرحلة تجريبية للسلطات اللبنانية بإنتظار مرحلة المساعدات الدولية التي ستلي المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. من هنا ضرورة وضع خطة واضحة المعالم وشفافة يتمّ إبلاغها إلى المراجع الدولية وذلك بهدف رفع رصيد لبنان لدى المجتمع الدولي.
يبقى القول أن تشكيل حكومة قادرة على القيام بإصلاحات هو شرط أساسي وضروري للخروج من الأزمة الحالية والتي إذا لم يتمّ إستدراكها، ستُطيح بالأخضر واليابس.