ٍَالرئيسيةتحقيقات - ملفات

ما هي الثورات الملوّنة؟ كيف؟ ولماذا؟

 

الكاتب: قاسم عز الدين

التلوين هو رمز من رموز اتخذتها الأجهزة والاستخبارات الأميركية، لاستخدام التحركات والانتفاضات الشعبية في مجرى التخطيط، للسيطرة على دول الشرق ثم الجنوب، من أجل فرض استراتيجية تخريب الدول وإلحاق تبعيتها للمصالح الغربية والنموذج النيوليبرالي الأميركي.

الألوان البرتقالية والزرقاء وأنواع ورود الربيع والياسمين، تستهدف شيطنة ألوان الثورات التاريخية التي غيّرت منظومة العبودية الإقطاعية والرأسمالية ومنظومة الخضوع والتبعية لاستراتيجيات الدول الغربية، كاللون الأحمر في الثورة الفرنسية والبلشفية، واللون الأصفر في الثورة الإيرانية…

من وراء ذلك، تستهدف رموز الألوان البرّاقة تغطية أهداف التوحّش في التحوّل عن أسس ومفاهيم الثورة التي تصنع التاريخ، والإيهام بصناعة أميركية ملوّنة “سلميّة سلميّة…”، تسعى إلى تحطيم الدول والمجتمعات من داخلها، وتنصيب سلطات تابعة لمنظومة ما يُسمى “قيَم” الدول الغربية، التي تحتفظ لنفسها باحتكار أشكال الحرب والعنف الأكثر همجية باسم “المجتمع الدولي”، وبذريعة الدفاع عن حياة الشعوب وأمنها.

رؤية أميركية من أجل عالم الغابة

الاستخبارات والأجهزة الأميركية التي عملت طويلاً مع الأجهزة الغربية و”المؤسسات الدولية”، تحرص على تذويق مفاهيم وأهداف الثورات الملوّنة بما تسميه “القيَم” التي نشرتها وأشاعتها قبل الحرب العالمية والثانية وبعدها، والتي باتت “ثقافة سياسية عامة” بين النخب والناشطين والسياسيّين، حتى إن الكثير الكثير من المعادين لأهداف الثورات الملوّنة يتبنّون فكرها و”قيَمها” عن غير دراية بأن مفاهيمها ومعانيها بشأن الحرية والديمقراطية الأميركية أو المقاربة الأميركية لمحاربة الفساد والاستبداد… جرى صناعتها وتسويقها “ثقافة عامة” بوصفات نمطية معلّبَة لسيادة النموذج الأميركي في عالم الغابة.

أ ــ  في البدء كان ترويج “الثقافة” السياسية الأميركية لمحاربة “الشمولية والاستبداد

في هذا المنحى، بدأ النشاط الاستخباري الأميركي يهتمّ بترويج “الديمقراطية الأميركية” إثر ثورة أكتوبر السوفياتية في العام 1917، عبر تأسيس “اللجنة الثقافية” التي أعاد تنظيمها سيدني هوك في العام 1939، لكن موجة الترويج الواسعة التي خصّصت لها الحكومة الفيدرالية الأميركية ميزانية مفتوحة معزّزة بمؤسسة “فورد”، تكفّلت بها الاستخبارات الأميركية في مطلع الحرب الباردة مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتقسيم العالم إلى معسكرين، فأنشأت “المؤتمر من أجل حرية الثقافة”، رداً على “المؤتمر العالمي لمحبي السلام” في باريس في العام 1948.

المؤتمر الأميركي جرى إنشاؤه في برلين الغربية، واتخذ باريس مقراً له في العام 1950، تحت إشراف الاستخبارات الأميركية بقيادة مايكل جوسّيلسون، كما كشف التحقيق الذي أجراه شارل ديغول في العام 1967.

تحت شعار حرّية الثقافة، جمعت الاستخبارات الأميركية فلاسفة وأدباء وعلماء اجتماع وصحافيين وكتّاباً وناشرين… من 35 دولة غربية وشرقية في المؤتمر الأول، وضمّت أجهزته التنفيذية جهابذة “اليسار الليبرالي”، أشهرهم ريمون آرون وألبير كامو وروبير مونتغوميري والشاعر بيار إيمانويل… وجمعت شيوعيين مرتدّين مرموقين، أمثال كارل جاسبير وأرتور كوستريل وجامس بيرنهام… فضلاً عن عدو ستالين الأشرس نيقولا نابوكوف الذي توعّد قائلاً: “في هذا المؤتمر، سنبني منظمة حرب نووية“.

أقامت جماعات “حرية الثقافة” مئات المؤتمرات والندوات في المحافل والجامعات، وانكبّت على تأويل قضايا الحريات العامة بمفاهيم النموذج الأميركي التي طغت في الثورات الملوّنة لاحقاً، كالحريات الفردية، وحرية اختيار السلطة والسلَع، وحرية التعبير والرأي

وأسّست عشرات المجلات الأكاديمية المرموقة ومراكز الأبحاث التي تصبّ كلها في النفح عن مثالب الديمقراطية الأميركية بصفتها السعادة المطلقة وخير البشرية بأسرها… في مواجهة عدوّها المطلق الذي يسميه مروّجو الأيديولوجية الأميركية والغربية “الشمولية والاستبداد“.

في هذا الصدد، نهلت الثورات الملوّنة من النبع الفكري والثقافي الذي تشرّبته 3 أجيال من أساتذة أهم الجامعات الغربية في العلوم الإنسانية الحديثة. وعلى أيديهم، تربّى تلاميذهم الكبار والصغار من الخريجين والمريدين و”المفكرين” والسياسيين والناشطين…. في دول الشرق والجنوب (راجع على سبيل المثال أيقونة عزمي بشارة حنّة أرندت في “الثورة والقابلية للثورة”).

 تحت تأثير الترويج والتسويق الإعلامي المدفوع بسخاء، أضحت الأيديولوجية الأميركية “ثقافة سياسية” عامة تعتنقها معظم التيارات السياسية ذات المشارب الإسلامية والليبرالية واليسارية والقومية الطامعة بالحكم باسم “مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية” (تونس وغيرها على سبيل المثال بعد موجة أوروبا الشرقية).

 ب ــ نظرية التخريب والتوحّش من “مون بيلران” إلى البيت الأبيض

 الأسس التي بنت عليها أميركا موجة تخريب المجتمعات وإلغاء دور الدولة الناظم للسياسات الوطنية، أنشأها فريدريك هايك، أستاذ مرغريت تاتشر، بمعيّة ميلتون فريدمان وكيل الاستخبارات الأميركية في قصر الجنرال بينوشيه، إثر اغتيال رئيس تشيلي سلفادور أللندي.

 في “مون بيلران” السويسري (الذي لا يزال لجنة تنظّم منتدى دافوس)، تجمّع في العام 1947 رهط من الاقتصاديين الذين ينتمون إلى المدارس النيوليبرالية النمساوية والأميركية والفرنسية (موريس أللياس، جورج ستيغلر، كارل بوبر…). وقد حظوا في ما بعد بجوائز “نوبل”، لمواجهة الاقتصاد الاشتراكي والنظرية الكينزية الداعية إلى تدخّل الدولة في السياسات الاقتصادية.

هايك الذي واجه الكنزية في أميركا في العام 1938 في كتابه “الليبرالية الجديدة” (النيوليبرالية)، ذهب في العام 1943 إلى الترويج بأن أي تدخّل للدولة في السياسات الاقتصادية والرعاية الاجتماعية، هو طريق يؤدي إلى عبودية “الإنسان الحرّ”، وأن حرية السوق والرأسمال يحرّران هذا الإنسان من عبودية الدولة، حتى إذا كان مصيره عبودية رأسمالية الشركات الكبرى والموت فقراً وجوعاً، “بسبب عدم كفاءته بحرّية المنافسة“.

لم يكتسب رهط “مون بيلران” أهمية دولية في حينها بسبب الفلسفة الاقتصادية الساعية إلى سيادة إجرام الغابة الذئبية، ولا بسبب عنصرية تفوّق العرق الأبيض التي ضمّها الرهط ممن يُسمون فلاسفة ومفكرين وإعلاميين… إنما اكتسبها من دعم الشركات الكبرى والمصارف والكوادر الحكومية التي أسّست نحو 100 معهد من لوبيات الضغط التي تسمى “تينك ثانك” في النموذج الأميركي.

من “مون بيلران” إلى البيت الأبيض والحكومة البريطانية مع الثنائي ريغان ــ تاتشر في العامين 1979 و1980، تسلّحت الكوادر ولوبيات الضغط بقرار سياسي أميركي – بريطاني دفع تلاميذ مدرسة شيكاغو الاقتصادية ولوبيات الضغط في الإدارات الحكومية إلى تبوؤ إدارة سياسات “المنظمات الدولية“.

هذه “المنظمات الدولية” التي وُلدت عرجاء بسبب الهيمنة الأميركية، تحكّم في إدارتها وسياساتها “الخبراء” الذين زرعتهم أميركا والحكومات الغربية في جميع المنظمات، ابتداء من البنك الدولي وصندوق النقد، مروراً بالمجالس الاقتصادية ومنظمات “الفاو” ومجالس الأغذية والزراعة والمياه… وصولاً إلى منظمات الأمم المتحدة الداعية إلى “التنمية المستدامة” ومكافحة الجوع والفقر وما يسمى “المنظمات الإنسانية” في دول الجنوب.

لم يقتصر اعتناق أيديولوجية وأهداف الغابة على جيش العاملين والمتعاونين مع هذه المنظمات في دول الجنوب، إنما تخطّاها إلى خرّيجي العلوم الاقتصادية والعلوم الإنسانية والتسويق… ومعظم القوى والتلامذة التي تنهل في جامعات دول الجنوب نموذج التوحّش في الاقتصاد والسياسة والإدارة.

تحت تأثير طغيان أيديولوجية التوحّش واتساع أدواتها في مراكز القرار السياسي، يتقاطع الكثير من المعادين للثورات الملوّنة عن غير دراية مع الأهداف التي أسسها “مون بيلران” والمؤتمر “من أجل حرية الثقافة” في الأسس المؤسِّسة، وأهمها:

 1 – إلغاء دور الدولة الناظم للسياسات الوطنية وإيكاله إلى “خبراء وكفاءات وتكنوقراط”… لإدارة سياسة الاقتصاد النيوليبرالي، واعتبار سلطة الحكم الفائزة في الانتخابات محل دور الدولة “على طريق الديمقراطية“.

 2 – تخريب المجتمعات بالتبعية الاقتصادية لحرية السوق والتجارة والاستثمار الأجنبي، وبالتبعية الاستراتيجية والسياسية لما يسمى “المجتمع الدولي“.

3 – توجيه الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية نحو تغيير سلطات الحكم المتعثّرة أو الفاسدة، واستبدال سلطات “نظيفة” أكثر كفاءة في تسويق “الديموقراطية الأميركية” بها.

 ج ــ المنظمات “غير الحكومية” ثالثة الأثافي

الثورات الملوّنة في دول الشرق السوفياتي، نظّمتها الاستخبارات الأميركية بالوكالة عبر قوى محلية (منها النقابة والكنيسة في بولندا) جرى تثقيفها وإعدادها في إطار الموجتين الأولى والثانية لتحقيق الأهداف المشغولة في المطابخ الآنفة الذكر.

ثورات “الربيع العربي” أخذت طابعاً مختلفاً، أساسه تحوّل المنظومة والمؤسسات الدولية إلى اعتماد المنظمات “غير الحكومية” أدوات تحريضية وشبكة تنظيمية لتحقيق الأهداف والاستراتيجية التي أرساها ريغان – تاتشر، بوحي من نظريات “مون بيلران”، بمشاركة معظم النخب العربية النيوليبرالية والناشطين و”الخبراء والمفكرين” من كل حدب وصوب.

العرّاب جين شارب أدى دوراً مباشراً في اللحظات المفصلية، فضلاً عن برنار هنري ليفي وعزمي بشارة، من خلال توجيه التعليمات في مصر عبر “الجزيرة” و”نيويورك تايمز”، لكن دور شارب الأكثر فعالية في التخريب ضد طموح الشعوب العربية بالتغيير، هو إنجازه مع الاستخبارات الأميركية برنامجاً وآليات عمل ميدانية لتوجيه عمل المنظمات “غير الحكومية” باتجاه جرّ الحراك الشعبي نحو ثورة مضادة تستهدف إنشاء سلطات “ديمقراطية” شفّافة وطيّعة “للمجتمع الدولي” في استراتيجية “السلام” ووصفات البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية… المعلّبة.

مؤسسته “ألبير أنشتاين” مع العميل المتقاعد روبير هالفي، هي إحدى عشرات مؤسسات “التفكير” التي أنشأتها المؤسسات الحكومية الأميركية في العام 1983 لتسويق عقيدة ريغان بشأن الديمقراطية الأميركية في العالم، لكن مؤسسة “أنشتاين” تميّزت بدعم الاستخبارات وجون ماكين وجورج سوروس وبيل سميث… “للتفكير” في تسليح المنظمات “غير الحكومية” باستراتيجية وأدوات وآليات عمل (أكشن) أو ما يسميه “شارب” وسائل لشنّ الصراع.

ترجمت الاستخبارات الأميركية كتابه “من الدكتاتورية إلى الديمقراطية” (في العام 2003) إلى 35 لغة، ونشرته بأكثر من 10 ملايين نسخة موجهة في المقام الأول إلى إعداد وتدريب الأجهزة الحكومية ومنظماتها غير الحكومية “للتأهيل والتمكين” على مستوى الكرة الأرضية.

الأجهزة والإدارات الغربية ومؤسساتها “الدولية” تصوّب في أولوياتها على المنطقة العربية – الإسلامية بسبب محور المقاومة في مواجهة الإمبريالية والصهيونية، فتحاول إصابة عصفورين بحجر واحد، توظّف له “فاعلين” وناشطين وجمعيات وتيارات سياسية وإعلامية… من أجل ما يسميه جين شارب “تقويض قوّة العدو“.

د – لكل شيء آفة من جنسه

تنجح الثورات الملوّنة بتخريب المجتمعات وتفتيتها، متسلّحة برؤية واستراتيجية، وبأدوات عمل وآليات منظّمة تجرّ بها “المجتمع المدني” نحو أهداف ومصالح الدول الغربية والسلطات التابعة في التقيّد بتعليمات منبع النهب “الشرعي” والفساد “القانوني“.

ولا تنجح مواجهة ثورات التخريب والانهيار ومنبع الفساد بغير رؤية بديلة واستراتيجية مواجهة، وبغير تخطيط وتنظيم آليات عمل في المجتمع المدني من الفئات الشعبية والشباب والعمال والمزارعين والجمعيات المهنية والروحية والثقافية… والبلديات والمنشآت الصغيرة في منتديات اجتماعية للمقاومة الشعبية من أجل تغيير منظومة الخراب والانهيار.

تستند هذه المواجهة إلى إنجازات محور المقاومة في كسر تغوّل الإمبريالية والصهيونية، لكن تسنده وتحمي ظهره بين معركتين في فترات “التهدئة” الحربية في مواجهة مخططات التيارات السياسية والمنظمات “غير الحكومية” في التحريض الطائفي وشيطنة المقاومة، بذريعة خروجها عن الدولة – المزرعة وعن منظومة “المجتمع الدولي” منبع الخراب والانهيار.

حراك المجتمع المدني المقاوم هو محلّي وقطاعي بطبيعته، فلكل فئة احتياجات واهتمامات خاصة تسعى لتحقيقها في الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية العامة، وهو يشمل المنتجين والشغيلة، ويشمل أيضاً الصناعيين والمزارعين والطامحين إلى التغيير من كادرات المحامين والقضاء والأطباء… لكن تنظيم هذه الاحتجاجات والاهتمامات يقع على عاتق هيئات التنسيق من القوى الفاعلة المسلّحة برؤية التغيير في إطار المقاومة الاجتماعية الشاملة.

القوى الفاعلة في المقاومة الاجتماعية الشعبية، يقع على عاتقها إنشاء إطارات مع فئات المجتمع لاقتصادات صغيرة حرفية بديلة في التجارة والتسويق العادل، وفي الزراعة النظيفة والغذاء الصحي والبذور البلدية والأسمدة العضوية وحماية البيئة والمياه والتنوّع الحيوي… يقع على عاتقها الانخراط في حركة أحرار العالم لمواجهة الإمبريالية والصهيونية، والتفاعل مع نشاطات حركة المناهضة العالمية في مواجهة المنظومة النيوليبرالية من أجل منظومة إنسانية في رؤى وسياسات بديلة. تخطّط منظومة التوحّش في استراتيجيّتها وأدواتها وآليات عملها على مستوى العالم. وعلى هذا المستوى، يمكن هزيمتها في ترابط المواجهة المحلية بالمواجهة الإقليمية والعالمية، وفي الرؤية من الأعم إلى الأضيق.

الفاعلون الفلسطينيون والعرب يقلبون معادلات تاريخيَّة صعبة في أميركا وأوروبا، حيث عصب منظومة التوحّش، استناداً إلى انتصار المقاومة، وإلى انتفاضة الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، فطاقات شعوب منطقتنا هائلة بحجمها وامتداداتها حين يخرج ماردها من القمقم المحلي الضيّق الأفق الذي تحشره فيه أيديولوجيات تسعى إلى طمس الرؤوس والأعين، فتحصر وجود الإنسان في شفتيه وصرمه.

      النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى