يوم فجّروا بيروت.. وحظي حسن بـ«الفرحة الكاملة»!
وسام الامين-جنوبية
في 4 أغسطس، 2021
كان أحد أيام العمل العادية في مكاتب “جنوبية”، الواقعة على طريق المطار قرب المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، وصودف ان تأخرت بسبب إنشغالات العمل. الساعة 6 عصرا انقطعت الكهرباء في مبنى السنتر الذي نشغله، فبدأت استعدّ للمغادرة وكان الجميع قد غادر قبلا، وآخرهم رئيس تحرير الموقع الزميل علي الأمين، فتحت نافذة غرفة المكتب الذي اعمل فيه وكذلك نافذة الغرفة المقابلة، كي يمر تيار الهواء في حرّ آب للتعويض عن مكيّف الهواء الذي فقدت برودته قبل قليل.
ما إن بدأت بإغلاق جهاز الكمبيوتر استعدادا للرحيل حتى شعرت بهزّة خفيفة بدأت تتصاعد، ولكنها استقرت بعد ثوانٍ، فحمدت الله انها انتهت ولم تكن هزة أرضية قوية، كالتي حدثت عام 1997، ولا مرعبة التي حدثت عام 1984، وقررت ان اتصل بزوجتي كي استعلم منها، عن وقع تلك الهزة الارضية وقوتها في منطقة خلدة جنوب بيروت حيث سكني وعائلتي.
شعرت بعصف هواء جعل الستائر المعدنية تنتفض ثم سمعت بعدها دوي انفجار عميق على دفعتين أشبه بجدار الصوت وما ان وضعت يدي على هاتفي الجوال، حتي شعرت بعصف هواء جعل الستائر المعدنية تنتفض، ومرّ مثل زوبعة بين نافذة مكتبي ونافذة المكتب المقابل، ثم سمعت بعدها دوي انفجار عميق على دفعتين أشبه بجدار الصوت الذي تطلقه الطائرات الحربية الاسرائيلية، بعدها سمعت صوت تحطم زجاج متفرّق وبدأت اصوات الناس تعلو مستفسرة عن ما يحدث.
انها ليست هزة أرضية اذن، على الاغلب انه جدار صوت، اقفلت المكاتب وخرجت من مدخل السنتر، فرأيت الناس متجمعة تنظر باتجاه الشمال، بعضهم يتلفظ بكلمة انفجار واخر يحاول تفسير سرّ اللون الزهري، لدخان يتصاعد من جهة وسط بيروت، ولم تكن بعد وصلت أية معلومة حول ما جرى، وطريق المطار تبعد 10 كيلومترات عن مكان التفجير.
خاطبني احد الجيران من اصحاب المكاتب عند مدخل السنتر وقال: انظر الى الارض فقد سقط لوحا زجاج من احد المكاتب هنا، وقد يسقط غيره، فابتعد. ابتعدت واستقليت سيارتي متوجها الى منزلي في خلدة، وكنت استمع الى راديو السيارة والملاحق الاخبارية، التي قالت بداية ان الانفجار استهدف بيت الوسط حيث يقيم الرئيس سعد الحريري، فتذكرت ان علي الامين كان يتحدث عن لقاء مع الحريري قبل ساعات، فاتصلت به لأطمئن عليه، ثم اخبرني انه كان مع وفد صحافي في اجتماع مع الرئيس الحريري عندما سمعوا دوي الانفجار الهائل فتحطم كثير من زجاج المبنى، وقال ان الانفجار لم يستهدف الحريري ولكنه وقع في مكان قريب لم يُعرف بعد.
حمدت الله على سلامة الجميع، وقلت في نفسي يبدو انه انفجار دون ضحايا، ثم بدأت الملاحق الاخبارية تحدد، ان مصدر الانفجار مرفأ بيروت وان الإصابات قليلة. الخبر المشؤوم ما ان وصلت الى منطقة الاوزاعي حتى جاءني اتصال من زوجتي مرفق بصوت ابنتي تاج وهي تصرخ: حسن حسن يا بابا… قلت: ما الخبر؟!!..قالت زوجتي: أدرك حسن، لقد أصيب في الانفجار وهو بمركز عمله قرب شركة كهرباء لبنان..الان هو بطريقه الى المستشفى…ولكن لا نعلم أي مستشفى بعد..كان يتحدث مع تاج عندما وقع الحادث…قال لتاج انه مصاب في وجهه ورأسه وهو ينزف، ولكنه ما زال بوعيه وممسكا بهاتفه، وقالت ان كل زملائه في العمل اصيبوا وربما مات بعضهم، وقد انقطع الاتصال بعدها ولم يردّ، يبدو ان الشبكة تعطلت!
عدت بسيارتي وانعطفت باتجاه بيروت وانا افكر بهذه الكارثة. هكذا اذن، الحبيب حسن نبها ابننا الثاني الذي لم نلده، الجار وصديق طفولة وشباب ولدي عبدالله وخطيب ابنتي تاج لاحقا، هو جريح الآن وجرحه بليغ في وجهه ورأسه.
كان حسن جالسا على الارض في احدى الغرف، مضمد الرأس.. فقط عينه اليمنى وجزء بسيط من رأسه خارج لفة الشاش الابيض الذي تحوّل الى أحمر مباشرة وبشكل غريزي تحركت اصابعي لتطلب رقم هاتف حسن كي اتأكد انه ما زال بوعيه وانه نجا من الموت، فردّ علي بصوته المتعب: إيه عمي أنا واعي، ولكن ما عم اقدر شوف منيح وعم انزف، وجهي مغطى بالدم وانا موجود بسيارة ما بعرف على أي مستشفى ناقليني”!
ارتحت عندما سمعت صوته واتصلت بزوجتي مباشرة وبشرتها اني تحدثت معه، بشرت بدورها تاج التي كانت الى جانبها في السيارة الثانية يقودها عبدالله، متجهين الى مستشفيات بيروت للبحث عن حسن، وقالت ان والده ابو حسن ايضا غادر مركز عمله في الشويفات متوجها الى مستشفيات العاصمة.
رحلة البحث عن حسن
وصلت حوالي الساعه 7 الى طوارىء مستشفى الجامعة الاميركية، حيث تسمع من بعيد أسماء بصوت عال، انهم الاهالي حالهم مثلي يسألون عن احبائهم المصابين، سيارات الاسعاف وسيارات مدنية لا تتوقف عن نقل الجرحى، احد الممرضين يخرج ويعلن الحقيقة الصادمة التي لم اكن اتوقعها، “يا اخوان في الداخل عشرات القتلى ومئات الجرحى، منهم دون اطراف، رجاء لا تضغطوا علينا”، فما كان من احد الشباب من الاهالي الا ان صرخ وهجم على باب الطوارىء، وقد استفزّ شعوره هذا الكلام ” اريد ان اعرف اذا كان اخي بينهم او في مستشفى اخرى اريد ان ادخل الان”.ودارت معركة بينه وبين حرس طوارىء المستشفى اسفرت عن دفعه خلفا ثم تهدئته لاحقا.
فجأة سمعت صوت احدهم يقول: شو عندك يا سيّد؟! التفت فإذا هو ابن ضيعتي “موسى”، اخبرته عن اصابة حسن فوعدني خيرا ودخل الى مبنى الطوارىء بصفته موظفا في وزارة الصحة كي يبحث عن “صهرنا الحبيب” في حال وجوده. أفرحت قلبي مبادرة ابن الضيعة الطيب القلب، وبينما انا التفت باتجاه سيارة اسعاف قادمة توقفت بجانبي، رأيت منظرا بشعا جدا لاحد المصابين في رأسه بدون ضمادة، ولكنه ما زال حيا في وضح حرج كما قال سائق الاسعاف، ركزت على وجهه، فوجدت انه يشبه حسن ولكن وجهه الملوث بالدم مكتنز اكثر، مع ان الملامح متشابهة. ابتعدت.. ثم عدت لأنظر وانا أتألم من هول المنظر: أيكون حسن ووجهه ممتلىء اكثر بسبب الاصابة؟!
انه في مستشفى المقاصد
وفيما انا أتردد في السؤال عن هوية الجريح المعلق بين الحياة والموت، وردني اتصال من زوجتي يقول انهم خرجوا من مستشفى “اوتيل ديو” بعد ان تلقوا اتصالا من حسن الذي تمكن هاتفه من العمل، واكد لهم فيه انه بمستشفى المقاصد. عائلتي وصلت قبلي الى مستشفى المقاصد قبل الغروب بقليل، كان الدخول متاحا للجميع كي يتفقدوا جرحاهم ويلموا قتلاهم المرميين في غرف وممرات طوارىء المستشفى، مناظر تقشعر لها الابدان، ايضا لا اريد ان اذكر اي مشهد، ولكن آلمني ان عبدالله وتاج يشاهدان بشكل حيّ هذه المجزرة البشعة، التي سوف تنطبع بذاكرتهما الى اخر عمرهما. كان حسن جالسا على الارض في احدى الغرف، مضمد الرأس بشكل بدائي، فقط عينه اليمنى وجزء بسيط من رأسه خارج لفة الشاش الابيض الذي تحوّل الى أحمر لأن الدم لم يتوقف عن النزف. اخرجناه من الغرفة ثم من المستشفى، وكانت زوجتي دائمة الاتصال بأخيها جراح الاعصاب في مستشفى الرسول الاعظم، ودّعنا الممرض وشكرناه واثنى هو بدوره على خيارنا بالذهاب الى مستشفى اخر، بسبب عدم توفر خدمات طبية للجميع مع تزايد ورود المصابين اليها.
ما هي الا دقائق حتى وصلنا الى مستشفى الرسول على طريق المطار قرب مكان عملي الذي كنت فيه قبل ساعتين، ليس بسبب السرعة التي قدت فيها فحسب، ولكن بسبب تسهيل مرورنا وفي كثير من الاحيان بعكس السير من قبل الناس واصحاب السيارات، مساعدة لسيارة تنقل جريحا من جرحى تفجير المرفأ الدامي.
خاتمة سعيدة
حضر الخال الطبيب الدكتور محمد واستلم جريحنا الذي اصبح جريحه، كما حضر الوالد ابو حسن وأخذنا زاوية من باحة مستشفى الرسول الاعظم، وبدأنا بالاطمئنان ساعة بعد ساعة عن حال جريحنا الحبيب،7 ساعات في العمليات، لاستخراج الزجاج من كافة انحاء جسده، ثم لترميم وجهه وعينه المصابة، واصبع يده واسنانه التي اقتلع منها ثلاثة، وكانت المفاجأة السارة ان دماغه لم يتضرر.
يوم الجمعة الماضي، وقبل موعد السنوية الاولى للمناسبة المشؤومة، وكذلك قبل انتهاء رحلة علاج حسن بشكل نهائي، كانت “الفرحة الكاملة” كما يقولون، بانتقال حسن وتاج الى البيت الزوجي، انه الاصرار على الحياة، وسبقه الاصرار على العمل، فمهندس الاتصالات حسن نبها عاد الى عرينه يعمل “أون لاين” من منزل الاهل الى المنزل الزوجي.
في جلسة مصارحة مؤخرا، وجدت ابنائي عبدالله وتاج وتالة، ومعهم حسن، مصرّين على السفر الى الخارج، وهم بدأوا بتقديم طلباتهم المرفقة بشهاداتهم وخبراتهم الى السفارات. فإن زادت الثقة بانفسهم وبمن يحبهم من الاهل والاصدقاء، فقد فقدوا الثقة ببلدهم:”لن أجني على ابني وادعه يولد في لبنان”، “لبنان وطن غير قابل للعيش”، هذا كلامهم…أوليسوا على حق؟!