تسريبات “بيغاسوس”: هواتف شخصيات على علاقة بخاشقجي اخترقتها NSO الاسرائيلية
جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي ارتبطت بسلسلة من الاختراقات لهواتف شخصيات قبل وبعد الجريمة. حصل ذلك بتسهيل من برمجية بيغاسوس الاسرائيلية لصالح السعودية. هذا التحقيق يكشف كيف.
في مقابلة أجراها مع قناة CBS في حزيران/ يونيو 2019، قال هوليو شاليف الرئيس التنفيذي لشركة NSO أن لا علاقة لشركته بقضية قتل المعارض السعودي جمال خاشقجي وأكد أن تحقيقاً داخلياً للشركة توصل إلى هذه النتيجة.
هذه كانت كذبة ولم تكن الكذبة الوحيدة.
برنامج “بيغاسوس” الذي طورته شركة NSO تحت إشراف وزارة الدفاع الإسرائيلية استخدمته المملكة العربية السعودية لمحاولة اختراق هواتف شخصيات سعودية وغير سعودية على علاقة بقضية جمال خاشقجي. هذا جزء مما كشفه “مشروع بيغاسوس” الذي نسقته مؤسسة Forbidden Stories وهي منظمة صحافية غير ربحية مقرها باريس، بالتعاون مع منظمة Amnesty International’s Security Lab لحقوق الإنسان.
الشخصيات تم تحديدها بفضل تسريبات، ضمّت أكثر من 50 ألف رقم لهواتف ذكية يفترض أنه قد تمت محاولة اختراقها عبر البرنامج من قبل أكثر من عشر دول، حصلت Forbidden Stories عليها وشاركتها مع 80 صحافياً في 17 مؤسسة إعلامية من بينها “درج”، عملوا على مدى أشهر على التحقق من الأرقام وتحديد هويات أكثر من 1000 شخصية ضمت صحافيين ونشطاء في مجالات حقوق الإنسان وحرية التعبير ومعارضين ولكن ايضاً رجال أعمال وسياسيين.
الشركة الإسرائيلية نفت في رسالة وجهتها الى الصحفيين المشاركين في المشروع أن يكون أي من برامجها قد استخدمت في قضية خاشقجي.
الا ان التحقيق الاستقصائي، مدعماً بتحاليل جنائية أجرتها منظمة “أمنستي انترناشيونال” لـ 67 هاتفاً وجدت أدلة دامغة على خرق 37 منها من قبل برنامج Pegasus تطابق الآثار التي وجدت على 29 منها مع الفترة الزمنية التي تغطيها اللائحة. الهواتف الثمانية المتبقية وجد عليها اثاراً تعود إلى فترة زمنية لاحقة و السبب في ذلك قد يكون تغيير الهاتف الذكي من قبل المستخدم.
التحليل الجنائي الذي أظهر فرقاً زمنياً لم يتجاوز دقائقاً معدودة بين الوقت المعلن للأستهداف بحسب اللائحة و ظهور آثار الخرق على الهاتف المستهدف يثبت أن البرنامج المتطور الذي اشترته المملكة من اسرائيل في صيف 2018 لم يكن فقط على علاقة بجريمة قتل خاشقجي في سفارة بلاده في إسطنبول قبل وقوعها وبعده، انما استخدم أيضاً في فترات لاحقة لمراقبة شخصيات تركية على علاقة بالتحقيق، فضلاً عن مقربين من خاشقجي من بينهم خطيبته خديجة جنكيز وزوجته حنان العتر وصديقه الصحافي وضاح خنفر.
“لطالما شعرت ان واحداً منا كان مراقباً, لأن هناك تفاصيل كنت قد قلتها خلال أحاديثي مع خديجة عند اختفاء جمال، لم تطل قبل أن تصبح علنية خلال أيام قليلة”، يقول خنفر.
أفضل ما يمكن أن يشتريه المال
البداية كانت في الإمارات في ربيع 2017 في لقاء على هامش معرض الأسلحة (IDEX) حيث طرح رجل أعمال أوروبي على سعوديين من بينهم عبدالله المليحي، و هو من المقربين من رئيس جهاز الاستخبارات الأسبق تركي الفيصل، فكرة كان سمعها من رجل أعمال إسرائيلي عن رغبة شركات إسرائيلية بالدخول إلى سوق الخليج.
المليحي عبّر عن اهتمام سعودي بشراء أجهزة تجسس متطورة، لتتوالى بعد ذلك الاجتماعات في فيينا وقبرص.
بين جدران فندق “الفور سيزونز” في ليماسول، لم يخف المفاوضون السعوديون حماستهم للحصول على اجهزة تجسس تسمح لهم بمراقبة من يريدون حيث يريدون. بعد التجربة الناجحة للبرنامج والاطلاع على ما يمكن أن يقدمه كانوا يعلمون أنهم على وشك الحصول على “أفضل ما يمكن أن يشتريه المال” .
الاجتماعات التحضيرية تلتها لقاءات على مستوى متخذي القرار، في الرياض هذه المرة، فرضت على هوليو شاليف ومرافقيه الحصول على إذن خاص من وزارة الدفاع الإسرائيلية، فالبلدان لا يزالان في حالة حرب. حصلت الزيارة بين 18 و 20 تموز/ يوليو وتم الاتفاق. ابتداء من هذا التاريخ ومقابل 55 مليون دولار دفعتها السعودية لشركة إسرائيلية خاصة، صار بإمكان أجهزة الأمن السعودية خرق الهواتف الذكية لأي شخص في أي وقت والحصول على أي نوع من المعلومات المتوفرة على الهاتف من دون ترك أثر بإمكان المستخدم ملاحظته أو كشفه.
هذه ميزة “بيغاسوس” 3، البرنامج الأقوى والأكثر تطوراً من نوعه، والذي يستطيع خرق الهاتف الذكي من دون الحاجة الى أي روابط.
جمال خاشقجي: النحل في مواجهة الذباب والقتل ثمناً للمعارضة
أقل من ثلاثة أشهر فصلت بين حصول المملكة على برنامج بيغاسوس 3، وبين قتل جمال خاشقجي في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر. لا أدلة على أن هاتف خاشقجي كان مراقباً عبر البرنامج فالهاتف موجود لدى أجهزة الأمن التركية التي رفضت التعليق على الموضوع.
الا ان هاتف معارض آخر، تم التأكد من اختراقه عبر “بيغاسوس”، هو الذي يعتقد أنه سمح بكشف معلومات لأجهزة الاستخبارات السعودية يعتقد انها جعلت في حينه من خاشقجي عدواً للدولة وولي عهدها محمد بن سلمان.
في مقابلة أجريت معه ضمن فيلم The Dissident يقول المعارض عمر بن عبد العزيز، وهو لاجئ سياسي مقيم في كندا، إنه يعرف جيداً بأن خاشقجي قتل بسبب المعلومات التي تم الوصول إليها عبر هاتفه -والذي تم التأكد من اختراقه عبر تقنية التحليل الجنائي- ومن بينها أن خاشقجي كان أرسل له ومن حسابه الخاص مبلغ 5000 دولار لتمويل مشروع النحل الإلكتروني.
يحكي عبد العزيز عن بدء علاقته بخاشقجي وصولاً إلى المشروع الذي عملا معاً على تحقيقه بهدف محاربة جيش “الذباب الالكتروني” الذي طورته السعودية لقمع أصحاب الرأي والصحافيين والحقوقيين الذين وجدوا في منصات التواصل الاجتماعي مساحة للتعبير والتغيير.
آلاف من المستخدمين يشغل كل منهم عشرات الآلاف من الحسابات الوهمية مهمتها الوحيدة التشويش وفي كثير من الأحيان تشويه سمعة شخصيات سعودية لديها جمهور واسع وبالتالي تأثير كبير.
“أن يكون لديك رأي في السعودية، فهذه مشكلة، ولكن ان يكون لديك رأي وايضاً جمهور، فهذه جريمة” يقول عبد العزيز.
على رغم الفارق الهائل لجهة الإمكانيات، مشروع النحل كان واعداً، لكن خاشقجي قتل قبل أن يختبر نجاحه.
بعد الجريمة، المزيد من المراقبين
التحليل الجنائي الذي قامت به منظمة “أمنستي إنترناشيونال” عبر قسم Security Lab أثبت أن هاتف وضاح خنفر، المدير السابق لقناة “الجزيرة” والصديق المقرب لخاشقجي كان مراقباً، كما هو حال خطيبته خديجة جنكيز. في مقابلة أجرتها معها دانا بريست من “الواشنطن بوست” في اسطنبول تتحدث جنكيز عن الضغط الهائل الذي يشكله هذا النوع من الخرق للخصوصية. “الأمر لم يعد يتعلق بجمال وحده، الأمر صار يتعلق بالبقاء على قيد الحياة”.
“أود أن أكون انساناً عادياً، مثل أي إنسان آخر. كل ما يجري يحزنني و يجعلني خائفة. هاتفي يمكن ان يتم خرقه مجدداً و هذا يجعلني اشعر اني لا املك اية طريقة لحماية نفسي”، تضيف.
التحليل الجنائي لهاتف امرأة أخرى هي زوجة لخاشقجي اسمها حنان العتر أثبت أن هاتفها كان مخترقاً. العتر تعيش حالياً في الخفاء في الولايات المتحدة وهي طالبة اللجوء السياسي بسبب ما تعرضت له من ملاحقات خلال الأشهر التي تلت مقتل خاشقجي بما في ذلك توقيفها والتحقيق معها في مطار دبي.
خديجة، التي حصلت على حماية خاصة تؤمنها أجهزة الأمن التركية قالت إنها لم تفاجأ عندما علمت ان هاتفها مراقب، فهي كانت تعرف أن أي علاقة بها تشكل خطراً على كثر، وهو ما عاشته عن قرب بعدما اختار عدد كبير من معارفها أن يقطعوا أي علاقة بها خوفاً من تبعات يمكن أن تطاولهم. المعلومات التي جمعها الصحافيون العاملون على مشروع “بيغاسوس” تقاطعت لتؤكد أن عشرات ممن كانوا على صلة بجمال خاشقجي تمت ملاحقتهم، وفي بعض الأحيان سجنهم لمجرد أنهم كانوا يقرأون ما يكتبه او لأنهم كانوا ينتمون الى مجموعات على تطبيقات تواصل اجتماعي مثل “واتساب”، كان هو ايضاً من أعضائها.
“هم يحاولون أن يقتلوا شبح جمال خاشقجي”، يقول ياسين اكتاي، صديق خاشقجي وأحد المستشارين المقربين من أردوغان.
هاتف اكتاي كان من الهواتف التي وجدت أرقامها على اللائحة ويقول في مقابلة أجرتها معه كريستينا لودويغ من فريق FS إنه قام بتغيير هاتفه وكل ادواته الإلكترونية التي كان يستخدمها. “ولكن في النهاية انت تعلمين انه ليس بإمكانك فعل شيء، نحن نعيش في زمن ما بعد التقدم وكل هذه الأدوات، نحن نحملها في جيوبنا”.
أكتاي، الذي لم يرغب بإخضاع هاتفه لتحليل جنائي، ليس الشخصية التركية الوحيدة على اللائحة التي تم التأكد منها، فاللائحة ضمت أيضاً رقم عرفان فيدان، المدعي العام السابق الذي أوكل في حينه التحقيق في قضية قتل جمال خاشقجي. كما حصل مع خديجة، ابلغ كل من اكتاي و فيدان ان هواتفهما قد تعرضت للخرق و المراقبة من قبل أجهزة تنصت سعودية.
انييس كالامار المقررة الخاصة في المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان قالت خلال مقابلة مع مجموعة من الصحافيين العاملين على مشروع “بيغاسوس” إن التجسس “يظهر نية واضحة” لمعرفة ما الذي يقوم به المدعي العام والأشخاص الآخرون. “بالنسبة إليهم تركيا كانت في قلب المعادلة التي كانت عليهم السيطرة عليها” تقول كالامار.
الأمور لم تنته عند هذه الحدود، فدائرة المستهدفين بالتجسس توسعت خلال الأشهر التي تلت قتل خاشقجي لتطاول نشطاء في مجال حقوق الإنسان موجودين في بلدان كان يعتقد أنها غير مشمولة بحسب الرخصة التي تمنحها NSO لزبائنها. من بين الأرقام التي تم التأكد أنها موجودة على لائحة الاستهداف ارقام تعود لمعارضين من بينهم يحيى العسيري و مضاوي الرشيد. التحليل الجنائي لم يصل لأية معلومات على هاتف الرشيد لأن الفترة الزمنية التي تم وضعها على لائحة المستهدفين تزامنت مع وقف ترخيص السعودية في بريطانيا.
تقول الرشيد “نحن لسنا خلية سرية أو مجموعة ارهابية، نحن فقط نطالب باحترام كرامتنا وحقوقنا وبديمقراطية تضغ حداً للدولة البوليسية التي نعيش فيها”.
السباق نحو الهاوية
في مقابلة قديمة له مع فريد زكريا، يرد جمال خاشقجي على سؤال حول حرية التعبير في الديكتاتورية قائلاً إن ما لا يفهمه كثيرون هو أن المملكة ليست ديكتاتورية. المملكة تحكم بالتوافق، وانا متأكد أن في النهاية، الإصلاحيون هم الذين سينتصرون”. بعد أكثر من عقدين من الزمن وعلى رغم التقدم التكنولوجي وربما بسبب ذلك، يبدو أن المساحة لم تعد متوفرة ليس للإصلاحيين وحسب ولكن لأي معارض على الإطلاق.
الكاتبة كيم غطاس, مؤلفة كتاب “الموجة السوداء” والخبيرة بالعلاقات الأميركية السعودية علقت على مشروع “بيغاسوس” قائلة: “إن غياب المحاسبة سيؤدي إلى تلويث الجميع”. غطاس قالت إن الإصلاحات التي فرضها محمد بن سلمان رافقتها حالات قمع مكثف كان من السهل تبريرها تحت ذريعة الحفاظ على الاستقرار”.
أضافت “بإمكان السعودية أن تتذرع بما تقوم به إسرائيل. ها هي إسرائيل تساعد ديكتاتوريات على قمع المواطنين المعارضين عبر الإيحاء الخاطئ بأن هذا النوع من الاستقرار الذي يؤمنه هؤلاء الحكام الديكتاتوريون مفيد لإسرائيل. دول مثل المغرب والسعودية والإمارات لا يمكنها أن تستخدم ذريعة ما تفعله الصين او روسيا، سيكون ذلك بمثابة سباق الى القعر لمعرفة من بإمكانه أن يكون الديكتاتور الأسوأ”.
“المحاسبة إما تنطبق على الجميع، أو لا تنطبق على أحد”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع