الضحية كردي والجلاد كردي أيضاً
عمر قدور|المدن
كلمات قليلة باسم السفارة الأمريكية في دمشق، قبل يومين، وضعت حداً لنشوب جدل حول “وفاة” أمين عيسى العلي أثناء احتجازه في سجن تابع للإدارة الذاتية الكردية، السفارة دعت إلى تحقيق فوري شفاف، وإلى محاسبة أي شخص تثبت مسؤوليته عن الاعتداء أو إساءة معاملة المحتجزين. بيان السفارة القصير له أهمية خاصة، ويُنظر إليه كإقرار ضمني بمقتل أمين عيسى تحت التعذيب، لأن السفارة لا تسطر بياناتها اعتباطاً من دون معطيات وأدلة أمامها، ولأن الإدارة الذاتية لا تستطيع الرد على البيان بتقرير طبي صادر عنها، هي التي في موقع اتهام.
كانت جثة الشاب قد سُلمت لأهله قبل خمسة أيام بعد نحو شهر من اعتقاله، وعدم تمكنهم من التواصل معه. حسب أقوال متكررة للأهل، جرى التأكيد عليها خلال الأيام الماضية، آثار التعذيب كانت واضحة على الجثة، واستدعوا طبيباً “تحفظوا على ذكر اسمه لأسباب تخص سلامته” ليخلص تقريره إلى تعرض الضحية لأنواع عديدة من التعذيب، مثل دلق زيت مغلي على ظهره وضربات قاسية على رقبته وآثار للصعق الكهربائي على خصيتيه.
على الأقل حتى الآن، خاصة بعد بيان السفارة الأمريكية، صارت القناعة الغالبة لدى معظم الأكراد هي أن الشاب قضى تحت التعذيب في أحد سجون الإدارة الذاتية. أنصار الإدارة، من ضمن منظومتها الحزبية أو من خارجها، صمتوا في دليل على اقتناعهم بحدوث جريمة القتل تحت التعذيب وبالصعوبة البالغة لإيجاد أعذار مخفِّفة للجناة، فضلاً عما انكشف لجهة عدم السماح لأهل السجين بالتواصل معه أثناء احتجازه أو توصيل أدوية يتناولها عادة بموجب وصفة طبيب، وهذه ليست الشكوى الأولى من سوء معاملة الموقوفين.
صادف مقتل أمين عيسى مع الذكرى الثامنة لمجزرة عامودا2013، وفي تلك المجزرة أطلق عناصر من وحدات حماية الشعب الرصاص على متظاهرين طالبوا بإطلاق سراح ثلاثة ناشطين. تأخرت وحدات الحماية حتى الذكرى السابعة “العام الماضي” لتعترف بمسؤوليتها وتعتذر من أهالي الضحايا، لكن جهود المصالحة مع الأهالي وتعويضهم شابها الكثير من المماطلة بعد اعتذار واعد من مظلوم عبدي شخصياً. يُخشى أن تلاقي الواقعة الجديدة مصير سابقاتها، من إنكار وتسويف، ثم اعتراف متأخر لسنوات واعتذار لا يقترن بمحاسبة المسؤولين عنها، وخلال هذه السنوات تستأنف الأجهزة انتهاكاتها المعتادة بحرص على إخفاء الأدلة لا على أرواح ضحاياها الجدد.
لحسن الحظ، “يا لهول أن نقول هذا في سياق مقتل شاب!”، أخذت الجريمة بعض حقها من الاهتمام، ونجت من جدل سفيه، لأن الضحية كردي والجلاد كردي أيضاً. لم تحضر تبريرات للجناة وتكذيب لحدوث الجريمة بناءً على اصطفافات عرقية أو قومية، ولم توجَّه من الجهة الأخرى اتهامات بالقتل على أسس التبريرات ذاتها. حسن الحظ، إذا جازت تسميته كذلك، يأتي من عدم استئناف الجريمة بجرائم معنوية مماثلة، في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث لطالما أدى التركيز على هوية الضحية المغايرة إلى تبرير الجريمة ضمن منطق الثأر والثأر المقابل، ولطالما كان التبرير ينطوي على تبرير الجرائم اللاحقة من الطينة ذاتها ومن مختلف الأطراف.
ذلك يختلف بالتأكيد عما قد رآه البعض من حسن حظ في انفضاح الإدارة الذاتية، وهي تثبت بالدليل القاطع أنها ليست أفضل من الأسد أو من الفصائل التي تتحكم بمناطق النفوذ التركي. فنموذج الإدارة الذاتية جرى تسويقه دائماً بوصفه غير قمعي إذا قورن بالفظاعات التي ترتكبها مخابرات الأسد وشبيحته، وغير قمعي على نحو ما تفعل الفصائل الإسلامية في أماكن سيطرتها لجهة فرض نموذجها المتطرف في الجوانب الاجتماعية قبل السياسية.
اجتمع في جهة الفرحين شماتةً خصومٌ تجمعهم “عن قصد أو غير قصد” الرغبة في تبرئة الطرف الذي ينحازون إليه على أرضية مساواة الجميع، فكان لافتاً مثلاً اهتمام الإعلام الروسي الناطق بالعربية بالحادثة، وهو لا يقل عن اهتمام موالي الأسد أو معارضيه. يريد الإعلام الروسي القول أن واشنطن ترعى تنظيماً إرهابياً على النحو الذي ترعى فيه موسكو تنظيم الأسد وتبرر جرائمه، أو بالأحرى تنكر وقوعها. في حين يفرح إعلام الأسد وموالوه بأية جريمة تُرتكب في العالم، إذ يعتبرونها تبريراً جامعاً مانعاً لانتهاكاته. مناصرو الفصائل الإسلامية لم يقدّموا في العديد من المناسبات وعياً حقوقياً أفضل، واقترنت حساسيتهم الحقوقية دائماً بجنس الضحية والجلاد.
لكن، بمغادرة الخصوم الدائمين للإدارة الذاتية، من الضروري الإشارة إلى محكوميها “من أكراد وعرب وسواهم” الذين لا يتحينون فرصة ارتكابها الانتهاكات ليفرحوا بإدانتها، لأنهم هم المتضررين منها، ومن المرجح أنهم على اختلافاتهم يتمنون أن تقدّم نموذجاً متقدماً حقاً، فلا تتعيش على أسوأ ما في النماذج المجاورة لها. وضمن خصومها الحزبيين يُرجح أن تكون هناك نسبة كبيرة من الأكراد تريد للإدارة أن تقدّم نموذجاً مغايراً لما تقدمه حقاً من استئثار بالسلطة وقمع معارضيها، ولا يُستبعد أن يكون التنكيل بالشاب أمين عيسى متصلاً بانتمائه الحزبي الذي لا يروق لأجهزتها الأمنية. القضية لدى هذه الفئة مرتبطة بنجاح الأكراد في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وألا يكرروا خطايا السلطات التي حكمتهم وسعوا إلى التحرر منها.
يبقى أهم وأسوأ ما في مقتل أمين عيسى حدوثه في سياق متواصل، فمثلاً قبل أسبوعين من مقتله تعرض الصحفي الكردي كاميران سعدون للركل واللكم خلال اعتقاله القصير من قبل قوات الأسايش. وسياق الانتهاكات المرتكبة في حق الأكراد يؤكد على أن قبول الانتهاكات في حق الآخرين أو تبريرها سيؤدي حتماً إلى تغوّل مرتكبيها على “مجتمعهم” الخاص، وقبول الانتهاكات ضمن المجموعة ذاتها بذريعة المعركة الكبرى ضد الغير سيؤدي إلى التغوّل ذاته. لقد رأينا كيف لم يكن البعث والأسد شوفينيين إزاء الأكراد ورحيمين بالعرب، وكيف كانت الشعارات القومية وشعارات التحرير غطاء للهيمنة على المجتمع السوري. يستحق أكراد سوريا ألا يدفعوا ثمن بعثيْن، خارجي وداخلي “إذا تغاضينا عن سلطة الكوادر التركية في الإدارة الذاتية”، ولديهم أكثر من غيرهم الفرصة لتقديم نموذج جيد فعلاً بحكم وقوعهم تحت وصاية وحماية قوة الاحتلال الأقوى والأفضل بمعايير الديموقراطية وحقوق الإنسان.