ٍَالرئيسية

“حجاي هداس” وعملية الموساد في طرابلس: من تاريخ الملفات السوداء

في مثل هذه الايام من العام 1973 فككت الاجهزة الامنية اللبنانية شبكة للموساد الصهيوني في طرابلس بعد حوالي ثلاثة أشهر على عملية الانزال الدموية في فردان، وعلى علاقة بها.
كان بطل تلك الشبكة الصهيوني الموسادي “حجاي هداس” الذي كان متخفيا باسم ألماني وهو “اورلخ لوسبرغ” ويحمل جواز سفر ألمانياً.
ترتبط عملية طرابلس بعملية فردان في أنهما كانتا ضمن الحملة التي اطلقتها غولدا مائير لتصفية قادة منظمة التحرير تحت ذريعة عملية اولمبياد ميونيخ 1972 وطاولت سلسلة الاغتيالات قادة عدة. لكن الملاحظ ان تلك العمليات بدأت قبل عملية ميونيخ ولكنها عادت واتخذت من عملية ميونيخ حجة لتغطية ارهابها وتصفية القيادات ونشر الرعب والقتل العشوائي الذي طاول المدنيين أيضاً.
كانت عملية طرابلس تستهدف القيادي الفلسطيني “سعيد السبع” وهو احد مؤسسي حركة فتح، والذي تعرض لمحاولات اغتيال عدة.
أثارت تحركات “لوسبرغ” ريبة سعيد السبع وخاصة انه كان يجلس غالباً على شرفة منزل “خطيبته” اللبنانية “جميلة معتوق” وهو يشرف مباشرة على منزله، وكان الالماني يمسك دائماً بآلة التصوير فقام سعيد السبع بالايعاز الى عناصره بتتبعه ومراقبته، وتبين انه يتردد على محل رينوار للتصوير في شارع عزمي بوسط مدينة طرابلس، ولدى مراجعة صاحب المحل تبين انه يملك مغلفا للصور يحتوي على كل اقسام منزل سعيد السبع.

كثّف الفدائيون عملية مراقبة “الالماني” الذي تبين أنه يجتمع دورياً مع عناصر “اجنبية” في اماكن مختلفة للتمويه وإبعاد الشبهاتدها تم إبلاغ الاجهزة الامنية اللبنانية التي لم تتحرك بسرعة ما ادى الى فرار العدد الاكبر من أعضاء المجموعة وبقاء “لوسبرغ” الذي لجأ الى القسم الثاني من خطته بقيامه بتمثيلية اختطاف “نفسه” من قبل الفدائيين ليلعب على وتر الفتنة بين السلطات اللبنانية والمقاومة الفلسطينية التي كان قد أسس لها سابقاً بتأسيسه منظمة أسماها “ميونيخ 72”.
وكان لتدخل “العميد عصام أبو زكي” الدور الحاسم في كشف تلك القضية عندما تلقى اتصالاً مستعجلاً من الرئيس فرنجية يطلب منه الكشف على وجه السرعة عن قضية “خطف سائح الماني في طرابلس” بعد احتجاج السفارة الالمانية التي ظهر لاحقا أن هناك تنسيقاً مشبوهاً بينها وبين العدو، وهي القضية التي ذكرها العميد المرحوم أبو زكي بالتفصيل في مذكراته “محطات في ذاكرة وطن”.
اذًا، ما ان شاع خبر اختطاف “اورلخ لوسبرغ” بمدينة طرابلس حتى احتجت السفارة الألمانية في بيروت عبر سفيرها في لبنان ولتر نوفاك، مدعيا ان الألماني المخطوف هو “دبلوماسي” ألماني، ومعتبرًا أن “هذا اعتداء سافر على الحكومة الألمانية ورعاياها في لبنان، من جانب سعيد السبع والفدائيين الفلسطينين”.
الا ان الحديث تغيّر بعد ان تمكن العميد عصام ابو زكي من إلقاء القبض على “لوسبرغ”، وكشف مسرحية الخطف التي قام بها، ما ادى إلى افتضاح امره وإلى وضع السفارة الألمانية في موقف محرج، فطلب السفير الألماني ولتر نوفاك لقاءً عاجلًا مع عادل اسماعيل مدير الشوؤن السياسية في وزارة الخارجية اللبنانية، مطالبًا بالافراج عن اورلخ لوسبرغ وصرح اثر المقابلة بأن اورلخ لوسبرغ كان قد تقدم إلى السفارة الألمانية في بيروت في اواخر شهر أيار/مايو 1973، وانه اجتمع به، وهو مواطن ألماني “نصاب” وبحقه عدة مذكرات توقيف وأنه مطلوب للانتربول الدولي بتهم اصدار شيكات من دون رصيد وسرقة عدد من السيارات في ألمانيا الغربية، وأن الحكومة الألمانية تطالب الحكومة اللبنانية بتسليمها اياه لمحاكمته على الاراضي الألمانية.

التحقيق مع اورلخ لوسبرغ

بعد اعتقال اورلخ لوسبرخ تم نقله إلى سرايا طرابلس، وبدأ التحقيق معه، لكنه رفض الكلام، واصر على انكار كل شيء، ونفى معرفته الاشخاص الذين “خطفوه”، وافاد بأنه جاء إلى لبنان، في منتصف شباط/فبراير من عام 1973، على متن باخرة آتيًا من إيطاليا، برفقة رجل ألماني يدعى جو متزيغ، وأن الاخير يحمل جوازي سفر احدهما ألماني والاخر بولوني. واكد انه استأجر المنزل للراحة والاستجمام، ونفى ان يكون أحد قد خطفه. وتناول التحقيق معه قضية منظمة ميونخ 72 الفدائية التي بادر إلى تأسيسها، وتبين من خلال التحقيق انه على تواصل مع بعض العناصر الفدائية في شمال لبنان، وأنه زودهم ببيانات وبرنامج سياسي توجيهي كان قد اعطاه لاحد عناصر رصد الفدائيين لتعميمه على رفاقه، وفيه دعوة للقضاء على القيادات الفدائية الناشطة، وخاصة من تتبنى عمليات كميونخ داعيًا إلى تنقية العمل الفدائي من كل شائبة مدعيًا انه مناصر للقضية الفلسطينية.

بعد الانتهاء من استجوابه من قبل ابو زكي، تمت احالته على المحقق العسكري الياس عساف، الذي باشر التحقيق معه، وتبين من التحقيق انه يحمل جواز سفر ألمانياً مزوراً، عليه سبعة أختام دخول إلى لبنان وألمانيا، وهو ضابط استخبارات صهيوني، كما تبين انه يملك مبلغًا كبيرًا من المال مودعًا في بعض المصارف، وكشفت التحقيقات معه عن تحويلات بعشرات الالوف من الدولارات جرت من المانيا الغربية لحساب لوسبرغ الذي ادخر في بنك علي جمال 130 الف ليرة لبنانية إلى جانب تلقيه اموالًا من مصادر فلسطينية.

منظمة ميونيخ 72

تبين أنه خلال تواجد اورلخ لوسبرخ في مدينة طرابلس، عمل على تأسيس منظمة فدائية فلسطينية! وقد استقطب العديد من الشباب اللبناني والفلسطيني، عندما كان يتردد على مخيم البداوي، لتدريب عناصر الكفاح المسلح الفلسطيني على لعبة الكاراتيه، مع العلم ان ابراهيم البطراوي الذي كان يقود جهاز الكفاح المسلح في مخيمات الشمال، قد تدخل لدى ابو زكي من اجل الافراج عن الجاسوس الصهيوني، تحت حجة انه مناضل اممي، على غرار كوزو أوكاموتو وكارلوس. كما تبين من خلال التحقيقات التي اجراها ابو زكي ان الجاسوس الصهيوني غرر بعدد كبير من الشباب اللبناني الذين تعرف عليهم خلال تردده على احد الاندية التي كان يمارس فيها لعبة الكاراتيه في مدينة طرابلس.
ولا شك ان هذه المعلومات وغيرها تلقي الضوء على عمل جهاز الموساد في لبنان والدول العربية والعالم، وتضع العديد من علامات الاستفهام حول الكثير من التنظيمات المجهولة المصدر!

الدور الفلسطيني

بعد اعتقال الجاسوس اورلخ لوسبرغ تبين أن اسمه الحقيقي هو “حجاي هداس”، وكانت المفاجأة أن اتصل الرائد إبراهيم البطراوي مسؤول الكفاح المسلح الفلسطيني في شمال لبنان بالعميد عصام ابو زكي من اجل اقناعه بالافراج عن الجاسوس اورلخ لوسبرغ تحت حجة انه مناضل اممي يناصر القضية الفلسطينية، وله افضال على الفدائيين الفلسطينيين الذين كان يدربهم في مخيم البداوي، فرفض ابو زكي هذا الامر بشدة، وابلغه ان الألماني اورلخ لوسبرغ هو ضابط إسرائيلي مكلف باغتيال سعيد السبع، وان ملفه اصبح بعهدة المحكمة العسكرية في بيروت.

الصفقة السوداء

بعد توقيف الجاسوس الإسرائيلي، وما ادلى به من اعترافات امام ابو زكي، بدأ السفير الألماني ولتر نوفاك مع ضابط السي آي إيه في بيروت روبرت اميس بممارسة الضغوط على الحكومة اللبنانية للافراج عن اورلخ لوسبرغ، كما انه بدأت التدخلات تتحرك في كل الاتجاهات من اجل تبرئة الجاسوس الصهيوني.
اما العميد عصام ابو زكي، فقد تم ابعاده عن الملف، بعد الضغوط التي مارسها ضابط سي آي إيه في بيروت على الاجهزة الامنية اللبنانية، حتى لا يدلي بشهادته في المحكمة العسكرية، فتم ترشيحه إلى دورة لمكافحة المخدرات في الولايات المتحدة حسبما جاء في وثائق ويكيليكس مع ان الدورة لم تكن من اختصاصه، وبعد وصوله إلى الدورة في الولايات المتحدة، تقدم منه احد الضباط المشاركين في الدورة، معرفاً عن نفسه بأنه ضابط درزي من فلسطين المحتلة، وهو يرغب بالحديث والتعرف اليه عن قرب بحكم انه من نفس الطائفة، لكن النقيب عصام ابو زكي كان حازما عندما رفض الحديث معه بصورة قطعية.
بقي اورلخ لوسبرغ في السجن اللبناني لمدة شهرين، وتم تحويل ملفه مع عشرين شخصا من معارفه إلى المحكمة العسكرية، التي كانت برئاسة القاضي اسعد جرمانوس وتولى الدفاع عنه وعن خطيبته جميلة معتوق المحامي والوزير اللبناني السابق رشيد درباس، إلى ان تم ترحيله من لبنان واغلاق ملفه بظروف غامضة، هي اشبه بالصفقات السوداء.
ولا زال حجاي هداس أحد رجالات المخابرات الصهيونية حتى اليوم وتم تعيينه مساعداً أمنياً لنتنياهو وهو من قاد “صفقة جلعاد شاليط” عن الجانب الصهيوني!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى