الدستور الإيراني في خدمة السلطة المطلقة (3) منحت المادة 57 صلاحية مطلقة للولي الفقيه
حسن فحص -أندبندنت
التعديل الرئيس والأهم على الدستور الذي جاء نتيجة استفتاء 1989 طال مضمون المادة 57 من الدستور، إضافة صفة “المطلق” على صفة “ولي الأمر” التعبير الشرعي لولي الفقيه بما أنه هو ولي أمر المسلمين، وأصبح نص هذه المادة على النحو الآتي “السلطات الحاكمة في جمهورية إيران الإسلامية هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وهي تمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأمة، وفقاً للمواد اللاحقة في هذا الدستور. وتعمل هذه السلطات مستقلة عن بعضها بعضاً”.
الحاجة إلى هذا التغيير والتعديل، بخاصة تلك التي شملت صلاحيات رئيس الجمهورية، وإلغاء منصب رئيس الوزراء، فرضته التعقيدات والتداعيات التي شهدتها إيران صيف عام 1985، وتفجير أزمة سياسية على خلفية التريث الذي لجأ إليه السيد علي خامنئي رئيس الجمهورية المنتخب لدورة ثانية في اختيار رئيس مجلس الوزراء، خصوصاً بعد أن عبر عن رغبته بعدم تكليف السيد مير حسين موسوي للمرة الثانية، وميله لتكليف وزير خارجيته علي أكبر ولايتي، والأجواء التي أشيعت عن معارضة قائد الثورة المؤسس السيد الخميني لهذا التغيير، الذي قابله إصرار من خامنئي الذي اضطر إلى التصريح علناً والطلب من الجميع عدم ممارسة الضغوط عليه في موضوع اختيار رئيس للوزراء. الأمر الذي دفع السيد الخميني إلى التدخل مباشرة على خط الأزمة، وإعلان تأييده لعودة مير حسين موسوي والإبقاء عليه في رئاسة الوزراء، ما اعتبر حينها تصرفاً سلبياً تجاه موقع رئيس الجمهورية الذي اضطر إلى القبول بتنفيذ هذا التوجه، والتعايش مع رئيس للحكومة يختلف معه حول آليات إدارة الوضع الاقتصادي بالدرجة الأولى، خصوصاً اقتصاد الحرب الذي غلب عليه الدور الكبير للدولة على حساب القطاعات الخاصة.
انتقال السيد خامنئي من موقع رئيس الجمهورية إلى موقع المرشد الأعلى وقائد الثورة وولي الفقيه وأمر المسلمين، جاء بالتزامن مع وصول الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني إلى موقع رئاسة الجمهورية، لتبدأ معهما مرحلة جديدة من تاريخ إيران والثورة، كان فيها التناغم وتقاسم الأدوار واضحاً، إذ سمح التعديل الدستوري لرئيس الجمهورية بأن يكون صاحب صلاحيات أوسع وأكبر من السابق على حساب موقع رئاسة الحكومة، وأن يكون المسؤول المباشر عن السياسات الاقتصادية وعملية إعادة الإعمار والبناء وترميم ما لحق بإيران من خسائر في القطاعات الاقتصادية، الصناعية والإنمائية، جراء الحرب مع العراق، في حين كانت المسائل السياسية الخارجية والثقافية والإشراف على المؤسسة العسكرية والأمنية والوزارات والمؤسسات المعنية بها في قبضة المرشد مباشرة.
وسمحت التعديلات للمرشد بأن يكون صاحب الصلاحية المطلقة في إدارة المؤسسة العسكرية بكل قطاعاتها، وكان يتولى مسؤولية تعيين قياداتها وأركانها والإشراف عليها كونه القائد الأعلى والعام للقوات المسلحة، فضلاً عن مرجعيته لأعمال وقرارات المجلس الأعلى للأمن القومي ومجلس صيانة الدستور ومجمع تشخيص مصلحة النظام ورئاسة السلطة القضائية.
هذه الثنائية كان من المفترض أن تشكل رافعة للنظام في مرحلة ما بعد المؤسس، إلا أن الافتراق لم يتأخر كثيراً بين المرشد والرئيس، وكان الموقف الذي اتخذه رفسنجاني في انتخابات عام 1997 التي جاءت بالرئيس محمد خاتمي إلى رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية على حساب مرشح النظام والمرشد رئيس البرلمان الأسبق الشيخ علي أكبر ناطق نوري مؤشراً على أن الخلاف بينهما قد وصل إلى مراحل متقدمة، خصوصاً أن رفسنجاني من خلال تأكيده على إجراء انتخابات بعيدة عن أي شبهة تزوير أو تلاعب أو تضييق، وإصراره على الخروج من رئاسة الجمهورية بأقل خسائر سياسية ممكنة حتى وإن أدى ذلك إلى توتير الأجواء بينه وبين المرشد، قد اتخذ قراره بوضع مسافة بينه وبين مؤسسة المرشد، وأن يلعب دوراً أبوياً يرعى كل التوجهات السياسية والاجتماعية على اختلافها في المجتمع والحياة السياسية والثقافية الإيرانية.
مرحلة ما بعد رفسنجاني شهدت تكريساً لثنائية سياسية وفكرية واجتماعية ودينية، بين تيار محافظ يسعى لفرض القراءة الدينية على المجتمع بكل مستوياته، وبين قراءة منفتحة تسعى لإعادة رسم مساحات التداخل بين السياسي والديني، ولم تتردد في طرح مسألة فصل الدين عن السياسة من دون إعلان العداء للدين أو المؤسسة الدينية، خصوصاً أن أصحاب هذه الرؤية كانوا من القيادات الثورية والإسلامية منذ بداية الثورة، ولم يتركوا موقعهم الديني بما هو التزام شخصي، محاولين تقديم رؤية جديدة يعتقدون أنها تساعد في إنقاذ النظام الإسلامي من الوصول إلى الانسداد السياسي والاجتماعي والثقافي، وتسمح لقوى الثورة والنظام من الاستمرار والحفاظ على قاعدته الشعبية بكل تنوعاتها وأطيافها.
والاختلاف في التوجهات لم يقف عند هذا المستوى، بل وصل إلى ما اعتبره النظام تهديداً يمس سلطته، عندما بدأت تعلو الأصوات المطالبة بإعادة النظر في الصلاحيات الدستورية الممنوحة لرئيس الجمهورية، ما اعتبر محاولة لتقليص صلاحيات المرشد. إلا أن الخطر الأساس الذي شعرت به الدولة العميقة التي بدأت تأخذ في تلك المرحلة شكلها النهائي وتكرس نفوذها ووجودها في تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الكلام الذي صدر حول ضرورة إعادة النظر في موضوع الصلاحيات المطلقة لولي أمر المسلمين، وأن يعاد النظر في التطبيق الحرفي والعملي لآخر ما جاء في المادة 107 التي تتحدث مع مواد أخرى عن صلاحيات ولي الفقيه التي تقول “يتساوى القائد مع كل أفراد الشعب أمام القانون”، بخاصة أن هذه الأصوات كانت ترى أن صلاحيات المرشد “فوق دستورية”. وتحديداً بعد تدخله في تعطيل عمل البرلمان صيف عام 2001، وسحب مشروع قانون جديد للإعلام “بقرار ولائي” ومنع إقراره لجهة أنه يتعارض والتوجهات العامة للنظام والسلطة، ويسمح بحالة من التفلت الإعلامي والمساس بالأخلاق العامة.
هذا الصراع، دفع النظام لاعتبار التيار الإصلاحي النقيض النوعي له، ما دفعه لاستنفار جميع قدراته وطاقاته لإخراجه من اللعبة السياسية، وهي جهود انتهت إلى إخراج الإصلاحيين من السلطة، ومحاصرة دور وتاريخ رفسنجاني، وإيصال محمود أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية، ليبدأ في ظل رئاسته التأسيس لمرحلة الإمساك الكامل بمفاصل الدولة والنظام، وتكريس هيمنة الدولة العميقة، وتعاظم دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، حتى على المستويين الإقليمي والدولي.