العدو يوزِّع الموت بالتساوي: لا مناطق أمان في غزة
الأخبار- يوسف فارس
في صباح الـ16 من أيار/ مايو، قصفت الطائرات الإسرائيلية منزل أبو العوف الذي قضى تحت أنقاضه 14 فرداً من عائلته، من بينهم ابنتَاه روان وشيماء، فيما أصيبت زوجته بجروح بالغة الخطورة. وإلى جانب منزله، ألقى العدو أكثر من 30 قنبلة شديدة الانفجار، تسبَّبت في تدمير أكثر من ستة منازل، قضتت أسفلها عائلات الكولك واشكنتنا. الضربات الإسرائيلية المركَّزة لأحياء تُعدُّ بعيدةً نسبياً عن المناطق الحدودية، أنهت الجدل الذي كان يعيشه سكّان القطاع عن المناطق الآمنة، وتلك الأكثر أمناً، وحوّلته، كما يرى أبو أحمد، إلى حديث عن المناطق الخطرة وتلك الأكثر خطراً. يضيف الرجل، في حديثه إلى «الأخبار»: «لا نستطيع القول، بعد هذه الحرب، إن منطقتي شرق بيت حانون والشجاعية أكثر خطراً من سواهما، فقد وزَّعت إسرائيل الموت على الوسط أسوة بالأطراف».
من وجهة نظر أبو أحمد الذي يعمل في شركة مقاولات، ستُعيد الحرب الأخيرة تشكيل فكرة السكان عن مناطق الأمان ومناطق الخطر؛ فأحياء مثل الرمال والصناعة وتل الهواء، نالت نصيباً وافراً من القصف، فاق، على نحوٍ كبير، ما عاشته مناطق حدودية في الشجاعية وشرق خانيونس وبيت حانون. غير أن تلك الجدلية لا تفضي إلى فرضيات مسلَّمة، إذ يقول أبو محمد المصري الذي يسكن في مدينة بيت حانون، أقصى شمال قطاع غزة، إن سكان المناطق الحدودية على موعد دائم لإخلاء منازلهم في كل حرب، خصوصاً أن تلك المناطق هي بوابة أيّ عملية برية، ويطاولها قدر كبير من التمهيد بالنار الذي يُشنّ في العادة بقذائف المدفعية العمياء.
الغريبُ في مفاضلة الموت التي يُكثِر الشارع الغزّي الحديث عنها، أن محاولة فهمها تحتاج إلى فهم يتعدّى المفاضلة بين مناطق الحدود والوسط، إلى ما هو أعمق. ويحضر هذا الحديث كثيراً في مجالس السمر بين العائلات التي ما زالت تعيش أجواء الحرب، وفي المقاهي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. ويقدِّر الشاب عاصم حماد، أن ثمة تغيّراً في التكتيك القتالي الذي مارسه الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب، عمَّا كان عليه الحال في عام 2014. ويوضح الشاب الذي لم يطرق أبواب الثلاثين بعد: «عقيدة أفيف كوخافي القتالية تركّز على استهداف غرف العمق، والبحث عن أهداف ثمينة من قيادات المقاومة، ومجرّد الشكّ في وجود أحد العناصر الفاعلة، سيقود إلى تدمير حيّ كامل، بغضّ النظر عن مكانه، إذا كان هذا الحيّ في وسط غزة أو حتى في وسط البحر». يستكمل أحد الجالسين الحديث، قائلاً: «ومعنى كلامك، أن علينا أن ندرس الخلفية العسكرية التي ينطلق منها كل قائد، حتّى نحدّد المكان الذي سنقيم فيه في غزة، لتجنُّب أن تُلقي واحدة من الطائرات الحربية طنّاً من المتفجرات على رؤوسنا ذات مساء».
استناداً إلى ما سبق، يرى عمر المبحوح الذي يعمل باحثاً اجتماعياً، أن المفاعيل التي تتركها الحروب على وعي السكان، تساهم في إعادة تكوين خياراتهم التي هي محدودة بحكم جغرافيا القطاع، والمستوى الاقتصادي للسكان. يشرح المبحوح: «لا يمكن الجزم بأن الأبراج والعمارات السكنية ستغدو خياراً غير مناسب حتى بعد التركيز على استهدافها وتهديدها؛ لأنها الخيار الاقتصادي المعقول بالنسبة إلى شريحة الشباب التي لن تتمكّن بطبيعة الحال من أن تشتري أرضاً يتجاوز سعر المتوسط منها الـ60 ألف دولار، ثم تعمّر فوقها بيتاً بما لا يقلّ عن 50 ألفاً أخرى، فيما لا يتجاوز سعر الشقة السكنية الـ30 ألفاً». فضلاً عن ذلك، يضيف: «ثمة قناعات تركتها تجربة أربع حروب عاشها السكان خلال 13 عاماً فقط، ويبدو هذا الموروث الحديث متضارباً جداً. ففي حرب عام 2014، مثلاً، كانت منطقة وسط غزة أكثر المناطق أمناً، وقد نزح السكان إليها، فيما كانت المنطقتان الوسطى والشمالية ساحة حرب. لكن في هذه الحرب، بقيت المنطقة الوسطى آمنة جزئياً، ودمَّرت الحرب حتى شارع الرمال الرئيس القريب من منطقة الجندي المجهول، وهي عاصمة المدينة وقلبها». لذا، فإن «هذه الحرب، وما تركته الحروب الماضية من قناعات، لن يبدِّل من واقع الأمر شيئاً، إذ إن مساحة القطاع الجغرافية ضيّقة، وعدد السكان في تزايد مستمرّ، وسيحكم هذا الواقع خيارات السكان. وإنْ دمَّر الاحتلال المنطقة ذاتها في كل حرب مرتين، فإن البرهة الزمنية بين الحروب، ستتكفّل بإعادة الحياة إليها من جديد، فيما سيسلّم الناس أمر سلامتهم إلى السماء… هذا ما أثبتته التجارب».