فلسطين ونموذج جنوب أفريقيا
الأخبار- وليد شرارة
أسراب «الحمائم» العرب، من مثقّفين ليبراليين أو إسلاميين ويساريين «تائبين»، لم تُشفَ إلى الآن من تداعيات «صدمة» انتفاضة الحجارة والصواريخ، شأنها شأن العديد من الأنظمة والقوى السياسية، العربية والدولية. اكتَشف جميع هؤلاء بحسرة أنهم تسرّعوا في نعي القضية الفلسطينية، والاعتقاد بقدرتهم على فرض أولويات أخرى في مكانها بالنسبة إلى الشعوب العربية، أكانت داخلية أم خارجية. وبما أن التصدّي لمفاعيل هذه الانتفاضة على المستويَين السياسي والفكري في المنطقة العربية، وما تُمثّله من تهديد لمسار التطبيع والتطويع، يمثّل هدفاً مشتركاً في ما بينهم، فإن «كتيبة الحمائم» المتخصّصة في الحرب الأيديولوجية، أخذت على عاتقها مهمّة بلورة خطاب الهجوم المضادّ في وسائل إعلام خليجية أساساً.
يرتكز هذا الخطاب، بعد اعترافه مضطراً بديمومة القضية الفلسطينية، على فرضية رئيسة، وهي أن مفتاح النجاح في انتزاع «الحدّ الأدنى من الحقوق» من المحتلّين هو الحرص على سلمية النضال الفلسطيني، باعتبارها شرطاً لا بدّ منه للحصول على دعم الرأي العام العالمي، ومخاطبة الرأي العام الإسرائيلي، والحصول على دعمهما لتسوية عادلة «قدر المستطاع». أيّ طرح آخر بعُرف هؤلاء هو ضرب من المزايدة «القومجية» أو الدينية، يندرج في إطار محاولات استغلال القضية الفلسطينية لغايات ومآرب «لا علاقة لها بها». وعند سؤالهم عن فعالية مثل هذه «الاستراتيجية»، وعن مثال واحد لنصر تحقّق لحركة تحرّر وطني على الاستعمار – الذي هو استيطاني وإحلالي في حالتنا -، اعتماداً على النضال السلمي وحده، يلجأون إلى حجّة واحدة: نموذج النضال ضدّ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. والواقع هو أن ما تُظهره هذه الحجة من جهل مطبق حيال تاريخ النضال المرير، السلمي والمسلّح، ضد نظام «الأبارتايد»، والسياقات الدولية والإقليمية التي خيض فيها، واختلاف جوهره عن ذلك الدائر في فلسطين، يقتضي بعض التوضيحات للردّ على مسعى الاستغلال الرخيص لنضالٍ مُشرق ونموذجي، من قِبَل جهات كانت معادية له أساساً، ولتأكيد صوابية خيارات قوى المقاومة في فلسطين والمنطقة.
الكفاح المسلح في جنوب أفريقيا
الكفاح الشعبي السلمي، من تظاهرات وإضرابات ومواجهات جماهيرية مع أجهزة الأمن، كان من بين الأوجه البارزة لنضال «المؤتمر الوطني الأفريقي» ضدّ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. غير أن هذا النضال ترافَق وتلازم مع كفاح مسلّح أطلقه المؤتمر ضدّ هذا النظام منذ سنة 1960، بعد «مجزرة شاربفيل» التي ارتكبتها أجهزة النظام بحق المتظاهرين السلميين. أسَّس المؤتمر، بعد المجزرة، ذراعاً عسكرية، هي «رأس حربة الأمة»، وشرع في شنّ هجمات على الأجهزة الأمنية والعسكرية، وعلى مؤسّسات ومعتقلات نظام «الأبارتايد». وبعد استقلال دول أفريقية محاذية لجنوب أفريقيا، كأنغولا وزامبيا وناميبيا وموزامبيق وزيمبابوي، أصبحت للذراع العسكرية مراكز تدريب ومواقع على الحدود تُستخدم كقواعد خلفية لقتال قوات «الأبارتايد». أدّى هذا الأمر إلى تدخلات عسكرية جنوب أفريقية في تلك البلدان، وإلى دعمها في أنغولا مثلاً، لحركة «يونيتا»، التي قادها جوناس سافيمبي، والتي لقيت أيضاً مساندة من الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية كبريطانيا وفرنسا، ممّا تسبّب في حرب داخلية دامية ذهب ضحيّتها حوالى مليون إنسان. مزَج المؤتمر الوطني الأفريقي بين أشكال النضال المختلفة، واستخدم الكفاح المسلّح لدعم النضال الشعبي السلمي، وللضغط على نظام «الأبارتايد» لفرض تنازلات سياسية عليه تتيح الوصول إلى الهدف المركزي للحركة الوطنية في جنوب أفريقيا، وهو إلغاء نظام الفصل العنصري والمساواة في الحقوق السياسية والمدنية.
ميزان القوى في الميدان
لم تتأثّر الحركة التضامنية مع الشعب الفلسطيني، والتي اجتاحت شوارع العديد من مدن العالم، سلباً، بلجوء فصائل المقاومة إلى سلاح الصواريخ لوقف التطهير العرقي في حيّ الشيخ جراح والقدس. على العكس من ذلك، فإن الهَبّة الشعبية العارمة على امتداد الوطن المحتلّ، في القدس وأراضي 1948، والقصف الصاروخي من غزة، والصمود في مواجهة التوحّش الصهيوني، هي التي أجّجت الغضب العارم، وحفّزت الآلاف على التظاهر والاحتجاج، وأحرجت حلفاء إسرائيل في عواصم الغرب، والذين دعموها في بداية المعركة، واضطروا إلى حضّها على وقف إطلاق النار بعد انقضاء الأسبوع الأول من عدوانها. الدول الغربية كانت حليفاً وثيقاً لنظام «الأبارتايد»، وكان بعضها، كالولايات المتحدة، يصنّف «المؤتمر الوطني الأفريقي» منظّمة إرهابية وشيوعية، وهي لم تُغيّر موقفها إلا عندما اقتنعت بأن هذا النظام بات «عبئاً استراتيجياً» بدل أن يكون ورقة قوة استراتيجية في السياق الدولي السائد في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وبداية تسعينياته. تقدير هذه الدول لموازين القوى في جنوب أفريقيا، التي كانت دولة نووية آنذاك قبل تخلّيها عن السلاح النووي في أواسط التسعينيات بعد إلغاء «الأبارتايد»، قادها إلى الاستنتاج أن استمرار الصراع، في ظلّ الوقائع الديموغرافية والميدانية، سيفضي إلى انتصار عسكري للأغلبية السوداء، بعد نزاع مروّع مع النظام المذكور، وتهديد مصالحها في هذا البلد والبلدان المجاورة. وقد شكّل انهيار الاتحاد السوفياتي، وتعطّش الولايات المتحدة وشركاتها للحصول على حصّة من ثروات وموارد هذه المنطقة، عاملَين إضافيَّين للدفع نحو تسوية «تاريخية» تَحُول دون تغييرات جذرية ناجمة عن استعار الحرب وانتهائها بمنتصر ومهزوم. فرضية أن إسرائيل أضحت «عبئاً استراتيجياً» تناقَش اليوم في دوريات أميركية تعكس حوارات النخب المعنيّة بالسياسة الخارجية لهذا البلد، كـ»فورين بوليسي» مثلاً، التي اختار ستيفن والت، وهو أحد كتّابها المعروفين، عنواناً لافتاً لمقاله وهو «آن الأوان لإنهاء العلاقة الخاصة مع إسرائيل»، بعد المواجهة الأخيرة في فلسطين. من الواضح أن والت، الذي يمثّل المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأميركية، لم يتأثّر سلباً بإطلاق الصواريخ من غزة.
جوهر الصراع في فلسطين
إذا كان الدمج بين مختلف أشكال النضال هو سمة مشتركة بين الحركة الوطنية التحرّرية في فلسطين وتلك التي انتصرت في جنوب أفريقيا، فإن فارقاً مهماً يميّز بينهما، وهو جوهر صراعهما مع نظامَين استعماريَّين يختلفان في الأهداف. مارس نظام «الأبارتايد» أبشع أشكال التمييز العنصري بحق جماهير الأفارقة على مستوى الحقوق الأساسية السياسية والمدنية، وعبر الفصل في أماكن الحياة وعزلهم في معازل (بانتوستانات). هو استغلّهم كيد عاملة رخيصة، أي دمَجهم من موقع أدنى في الدورة الاقتصادية، مع حرمانهم حقوقهم الدنيا كبشر. لكنه لم يسعَ للاستيلاء على بيوتهم وحقولهم، والقضم التدريجي لفضاءات حياتهم بهدف دفعهم إلى الرحيل. لم يكن التطهير العرقي والتخلّص الكامل من السكّان الأصليين على المديَين المتوسّط والبعيد هدفاً محورياً لنظام «الأبارتايد». التخلّص من أكبر عدد من الفلسطينيين، والاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أرضهم، هما الغاية النهائية للمشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيونى. جوهر الصراع منذ بدايته هو الأرض. قد يلجأ الصهاينة إلى مختلف أشكال العنف والتنكيل بالفلسطينيين، وبينها الفصل العنصري، لكنها ليست غاية بذاتها. الغاية النهائية هي دفع القسم الأعظم منهم إلى الرحيل، من الأراضي المحتلّة في 1967 ومن تلك التي احتُلّت في 1948. على ضوء هذه الحقائق، فإن هدف النضال الوطني الفلسطيني هو مقاومة التطهير العرقي، واستعادة الأرض المغتصَبة، وعودة الحق إلى أصحابه مهما طال الزمن. مَن يُرِد مخاطبة مجتمع المستوطنين الذي يزداد فاشيّةً بحسب تقدير الكثيرين من أبنائه، لإقناعه بفضائل التعايش، فهو يُضيّع وقته. موازين القوى تتحوّل، وقدرة القوى الغربية على السيطرة تتراجع، والانقسامات في صفوف دولة العدو تتعمّق، وقدرات أطراف محور المقاومة تتطوّر، ويتأكد هذا الأمر بعد كلّ جولة صراع مع العدو. وكما أدّت وقائع الميدان أولاً إلى تأمين الشروط المناسبة لهزيمة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فإن تحوّلات الميدان في فلسطين والإقليم ستُنتج الظروف الملائمة لمحو آثار الهمجية عنها.