من “الربيع العربي” إلى “الربيع العِبري”
البروفسور بيار بولس الخوري
لم يَعُد من الممكن فهم شيءٍ في الشرق الاوسط من دون العودة الى مُفارقة استعصاء التغيير مع استحالة استمرار ما هو قائم.
كان “الربيع العربي” مِثالًا ساطعًا على ذلك في لحظةٍ بدا الماضي ثقيلًا جدًا علي الشعوب العربية التي خرجت من الهموم الكبرى، بعد أن أتعبتها، إلى محاولة البحث عن ذواتها في اقتصاداتٍ مُتحوّلة هجينة. لعب “الربيع العربي” بين سقوط الحلم الوطني وضياع الحلم الشخصي.
لم يَعُد مُمكنًا التوفيق بين المهانة الوطنية والمهانة الشخصية خصوصًا في ظلّ الخوف من المستقبل. حصل ذلك لسببين: خروج العالم من نظام وترتيبات الحرب العالمية الثانية، ووقوع عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بأوّل أزمة اقتصادية عالمية مُعمَّمة اعتبارًا من العام 2007. طَرَحَ استبدالُ الحلم العربي بـ”الربيع العربي” إشكاليةً أكبر من الحاجة إلى ذلك الربيع: أن تعرفَ ما لا تُريد لا يعني بالضرورة التقدّم نحو المستقبل. ذلك هو الدرس الأساس من تجربة “الربيع العربي”.
لا زال العالم العربي يتخبّط بالنموذج الإقتصادي الفاشل، وبعدم القدرة على تظهير اقتصادات قادرة على التعامل مع عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبالأحرى عالم ما بعد زوال نتائج الحرب العالمية الثانية.
لوَهلةٍ بدت إسرائيل قوية جدًا في ظل الفشل العربي. دولةٌ استطاعت التخلّي عن القِيَم الإشتراكية التي تأسّست عليها، واستطاعت الإندماج سريعًا في الاقتصاد العالمي الجديد مُظهرةً نموذجًا مُدهشًا من الجمع بين قواعد المعلومات الكبرى وحداثة الاتصالات والتكنولوجيا متناهية الصغر (النانو). فعلت إسرائيل ذلك ولكنها بقيت الدولة غير الكفوءة التي تقوم على اقتصادِ التعويضات والمُساعدات وسرقة أرزاق الغير. بالمختصر هذا هو السرّ الرئيس من أسرار نجاح إسرائيل.
تقدم عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية سريعًا: جاءت الولايات المتحدة برئيسٍ مُلوَّن من أصلٍ إفريقي مُسلِم حفر اسمه في تاريخ أميركا والعالم كواحدٍ من أعظم الرؤساء، وبعد أربع سنوات جاءت بنائبة رئيسٍ مُلَوَّنة هي الأخرى. أوصلت لندن عمدةً (رئيس بلدية) مُسلم إلى مدينتها. وفي مضمارٍ آخر ودّع العالم كثيرًا من القِيَم المُقفلة وتحوَّلت السياسة إلى مكانٍ نجد فيه المُتحَوِّلين والمُثليين وكل الظواهر التي أفرزتها حرية الحياة الشخصية. المملكة التي مثلت يومًا رمزًا قويًا للتشدّد الديني في ممارسة الإسلام جاءت بقيادةٍ شابة أعطت المرأة حقوقًا لم يكن من الممكن تصوّرها قبل عقدٍ من الزمان.
كل القِيَم في العالم تغيَّرت نحو المزيد من حرية الأفراد والجماعات وقبول الآخر إلّا في إسرائيل. بقيت تلك الدولة الغائصة في ميثولوجيا دينية تتقدم إلى الخلف آلاف السنين.
لم يعد العالم قادرًا على العيش مع نموذج إسرائيل، ولم يعد الشرق الاوسط قادرًا على انتظار انتصار الماضي الذي لم يفعل سوى تحطيم الحاضر والمستقبل في منطقة غنية بالطاقات والموارد والأحلام. بدا العالم مع انتفاضةِ حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية وأراضي العام 1948 جاهزًا ليقول كلمة: كفى إسرائيل!
فُتِحَ الإعلام العالمي أمام الصوت الفلسطيني لأوّل مرة. منصات التواصل باتت تُسوِّق استطلاعات تسأل عن رأي الناس حول الفصل العنصري (الأبرتايد) الإسرائيلي، وعالم مُتفرِّج وهو يسمع صوت صواريخ “حماس” تدكّ تل ابيب.
هل لاعب العالم إسرائيل بالورقة الأصعب؟ “نأسف لن نُساهم هذه المرة في تقديم خدمات نزع الخوف عن شعبك الذي زرعتيه بأفعالك”. ذلك هو الدرس الكبير بعد الذي جرى في فلسطين. المدن والمستوطنات تُدَكُّ بالصواريخ، إسرائيل عاجزة تمامًا عن وقف خطر الصواريخ، فلسطين إلى واجهة اهتمامات العالم. ما أصعب هذا المشهد على إسرائيل!
إفتتح عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بسقوط نظام الفصل العنصري في أفريقيا الجنوبية، ودار العالم دورة كاملة في نزع نتائج تلك الحرب عبر أصقاع الأرض، وها هو يحطّ اليوم في آخر محطة: الدولة العبرية.
العالم يقترب من أزمة أعقد وأشمل من أزمة العام 2007، بعد ما أنفقته الحكومات على جائحة كورونا في ظل تعطّل اقتصاداتها، وهي تحتاج خيرات الشرق الاوسط لخلقِ مُتَنَفَسٍ كبير للرأسمال العالمي درءًا للأزمة. هذا بدوره يحتاج إلى تسويةٍ تاريخية يُريدها المال اليوم بشكلٍ صارخ. كل شيء مُتوَقِّف في المحطة الإسرائيلية.
فهل تحتاج إسرائيل الى “ربيعٍ عِبري” لحلّ التناقض بين الماضي والمستقبل؟ وهل تحتمل اسرائيل نتائجَ ربيعٍ يقطع بين رفض التغيير والحاجة الماسة إليه؟ العرب قادرون دائمًا على التعايش مع الحطام…ذلك لا ينطبق تمامًا على اليهود.