الحدث

لا حلّ قبل اقتلاع العونيّة من الحياة السياسية..

 

قاسم يوسف – أساس ميديا

حين انتزع لبنان القرار الفريد الذي حمل الرقم 425، وهو أوّل قرار أمميّ يدين إسرائيل، تصدّر رسولنا إلى الأمم المتحدة غسان التويني المشهد برمّته يومذاك، فصار التنافس قائماً على التوازي بين قرار لا غبار على استثنائيّته وتاريخيّته، وبين الملحمة الدبلوماسية التي خاضها الرجل المخضرم في أروقة مجلس الأمن، وقد قيل وقتذاك إنّ حضوره ودماثته ودهاءه وخطابه المدوّي كان لها الأثر البالغ والتأثير العميق.

قبل الواقعة تلك بأشهر قليلة، طار أيقونة الدبلوماسية اللبنانية فؤاد بطرس على وجه السرعة إلى جلسة مشتعلة لمجلس الأمن، ولأنّ الوقت لم يسنح لإعداد خطاب مكتوب باللغة العربية، ارتجل باللغة الفرنسية خطاباً متكاملاً، متوازناً، لا تشوبه شائبة. استحق بعده تصفيقاً عاصفاً. قبل أن يُسمع صوت المبعوث الفرنسي وهو يقول بلهفة لزملائه: عرّفوني إلى ذاك اللبناني الذي يتقن الفرنسية أكثر منّي.

لا حاجة هنا إلى استحضار الصور المضيئة عن مدرسة ضاربة في أناقتها وتأثيرها وعلوّ شأنها، منذ الخطاب الشهير لكميل شمعون، الذي استحال بعده فتى العروبة الأغرّ، مروراً بشارل مالك، ذاك الصائغ الخلاّق الذي حوّل حقوق الإنسان من فكرة إلى شريعة إلى قلادة تستوطن عنق العالم، وصولاً إلى كوكبة متجذّرة من أحنك الرجال وأدهى الدهاة وأكثرهم دفئاً وعمقاً وثقافةً وهدوءاً وبصيرة. آخرهم الوقور المترفّع جان عبيد، ذاك النبيل الذي لقّبه سعود الفيصل بحكيم وزراء خارجية العرب.

هي الدبلوماسية اللبنانية التي طالما تفوّقت على ذاتها. فأضافت ما يضيفه التجويد إلى الذوق. وتناغمت، حتّى في أحلك الظروف، مع أجزل معايير الرشاقة السياسية وأسمى أوجه الوطنية الخالصة. تماماً كما لو أنّها الدليل الأسمى على مكانة لبنان وريادته وعظيم شأنه ورسالته، والبرهان الدامغ على حضوره الذي لا يطوله حصر أو تطويق.

لكن ماذا يبقى من لبنان إذا استحال رأس دبلوماسيّته شديد الرعونة، متبلّد العقل، تعوزه الحكمة والثقافة والذكاء؟ ماذا يبقى من دبلوماسيّتنا وعلاقاتنا وحضورنا حين يتحوّل رسولنا إلى العالم سفيهاً شتّاماً غارقاً في أمراضه وظلمته وتصحّره ووضاعته؟

الحقيقة أنّنا نشعر بالخجل. ندفن رؤوسنا، ونلطم وجوهنا، ونلملم ما بقي من شظايا صورتنا المكسّرة. ليست القضية محصورة بوزير تافه، ولا بموقف أتفه منه، بل بنسق مرضيّ أخذ يتعمّم ويتوسّع في كل مفاصل الحياة السياسية والوطنية والاجتماعية. وهو نسقٌ يتغذّى من ذهنية غائرة في التسطيح والشوفينيّة والبذاءة القصوى، ومن قلوب محشوّة بالحقد والقيح والضغائن والكراهيات.

ليس الحلّ بإقالة وزير الخارجية المستقيل أساساً، فهذه هرطقة لا تتناسب وحجم الكارثة. وليس أيضاً في اعتذار شفهيّ أو مكتوب على سجيّة رفع العتب. الحلّ المنطقي والمقبول يبدأ حصراً بمحاكمته، استناداً إلى القوانين التي تُجرّم تعريض مصالح الدولة للخطر.

أمّا الحلّ المنشود للبدء باستعادة ما تبقّى من عافيتنا الدبلوماسية والسياسية والاجتماعية والوطنية، فهو يكمن أوّلاً، وقبل أيّ شيء آخر، في اقتلاع أسياده المجانين، ودفن مدرستهم المريضة، وبعدئذٍ يُبنى على الشيء مُقتضاه.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى