ثلاثية الانتخابات الايرانية
بغض النظر عن الشخصيات الكثيرة التي تحسب على الصف الأول في الحياة السياسية الايرانية التي أعلنت مشاركتها في السباق الرئاسي وقدمت اوراق ترشحها رسميا لدى وزارة الداخلية، الا ان اليوم الاخير من المهلة القانونية للترشيحات نقل المعركة الانتخابية الى مرحلة متقدمة تكاد تكون حاسمة في طبيعتها والقوى التي ستشكل المحاور الرئيسة لها.
دائرة الهلال الانتخابي اكتملت مع قيام كل من رئيس السلطة القضائية ابراهيم رئيسي ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني والنائب الاول لرئيس الجمهورية الحالي اسحاق جهانغيري بتقديم أوراق ترشحهم رسميا، خصوصا لاريجاني الذي اعتمد في الاسابيع الماضية سياسة “الغموض البناء” حول قراره خوض السباق الرئاسي من عدمه، منتظرا اتضاح صورة الموقف لدى بعض القوى المحافظة بالوقوف الى جانبه واستعدادها لخوض معركة قاسية في مواجهة جبهة متراصة ومتحفزة من المحافظين لاستعادة السيطرة على مقاليد السلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية بأي ثمن ووسيلة كانت والتي لم تتردد في إعلان موقفها السلبي الحاد منه على خلفية اعتراضها على سلوكياته السياسية التي كانت منسجمة مع مواقف الرئيس حسن روحاني ورؤيته السياسية والاقتصادية والتفاوضية. فضلا عن إنتظاره لخروج بعض القوى الاصلاحية من حالة التردد والتريث في تبنيه مرشحاً وسطياً ومعتدلاً يساعد في حل أزمة الفراغ الواضح وافتقارها لشخصية اصلاحية واضحة المعالم قادرة على إقناع القواعد الشعبية بالمشاركة لصالحها وأن تشكل قطباً في مواجهة مرشحين يعتبرون اقوياء ضمن السياقات التي يمثلونها.
دخول لاريجاني اعاد خلط الاوراق داخل الصف المحافظ بجميع توجهاته واتجاهاته، ولعل النتيجة الاكيدة التي كرسها هذا الدخول هو اسقاط حصرية وتفرد رئيسي كمرشح اقوى وبلا منازع حقيقي بين مرشحي هذا المعسكر. وهو ما قد يدفع شخصيات مثل سعيد جليلي لاعادة النظر في موقف العزوف عن المشاركة لصالح رئيسي الإجماعي، خاصة وان المعركة الحقيقية انتقلت الى داخل البيت الواحد وبين اقطابه، ما يدفع الاخرين للمطالبة او التمسك بحقهم او أحقيتهم في التنافس والوصول الى هذا الموقع.
الكثير من القوى والاحزاب الاصلاحية اعتمد سياسة “الغموض الايجابي” في تعاملها مع امكانية دخول لاريجاني هذا السباق ممثلا لخط الاعتدال، فهي من جهة حاولت في السنتين الماضيتين، أمام إدراكها لأزمتها السياسية وخسارتها لشرائح واسعة من قواعدها الشعبية، ان تنأى بنفسها عن الرئيس روحاني وان تتنصل من مسؤولية وصوله الى رئاسة الجمهورية، وحاولت تقديم صورة الضحية التي انخدعت في خيارها الذي عاد عليها أضرار باهظة الثمن قد تتطلب سنوات لاعادة ترميمها.
وقد لا تكون معركة لاريجاني للحصول على تأييد شريحة لا بأس بها من قواعد المعسكر المحافظ الشعبية، اصعب من معركته لكسب واقناع قوى وأحزاب المعسكر الاصلاحي بذلك، خصوصا وان دخول جهانغيري السباق وما يمثله من ثقل وموقع متقدم بين كل مرشحي هذا المعسكر والفريق الذي ينتمي له في حزب كوادر البناء المحسوب على الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني، قد يدفع الاطراف الرافضة لفكرة “مرشح الاعارة” حتى وان كان ممثلا لمنطق الاعتدال كلاريجاني الى التمسك بحق الاصلاحيين بان يكون لهم مرشحهم الواضح والصريح وان كان ضعيفا وانتهت به الامور الى خسارة المعركة الانتخابية، انطلاقا من مبدأ أن الخسارة الواضحة خير من الفوز الملتبس، خاصة وان اللجنة العليا للسياسات الاصلاحية المكلفة بالعملية الانتخابية واختيار المرشح الامثل والاكثر تمثيلا وصاحب البرنامج الاكثر تكاملا وواقعية، تبدو غير قادرة على حسم خياراتها، وهي تنتظر ما ستخرج به لجنة دراسة اهلية المرشحين في مجلس صيانة الدستور لمعرفة من تبقى لها في السباق الانتخابي وامكانية ان تقف وراءه وتدعمه او تذهب الى خيار بديل من خارج صفوفها في حال عدم وجود مرشح قادر على المنافسة الحقيقية.
اليوم الاخير لتقديم الترشحيات رسم معالم التقسيمات والمحاور السياسية التي ستخوض المعركة الانتخابية وستتصارع من اجل الوصول الى سدة رئاسة الجمهورية، وهذه المعركة ستشهد للمرة الاولى تكريسا لفريق ثالث في الحياة السياسية الايرانية هو الفريق او المعسكر المعتدل الذي لم يستطع روحاني ان يكرسه خلال السنوات الثماني الماضية على الرغم من كل الدعم الذي حصل عليه من القوى الاصلاحية قبل ندمها، ومن لاريجاني نفسه عندما كان على رأس السلطة التشريعية ودفع ثمنا سياسيا اكسبه عداءات داخل التيار المحافظ دفعته لاتخاذ مسافة بين مواقفه العامة مع هذه الجماعة.
مع وجود رئيسي ولاريجاني وجهانغيري في السباق الرئاسي، وهم الذين قد لا يعانون من ازمة العبور من مصفاة مجلس صيانة الدستور، تذهب الانتخابات الايرانية لتكون لاول مرة في تاريخها ما بعد الانتخابات الاولى التي اوصلت ابو الحسن بني صدر، ثلاثية المعسكرات او الاقطاب بعد ان كانت خلال العقود الاربعة الماضية ثنائية بين المحافظين والاصلاحيين الى حد كبير. واذا ما كان رئيسي ممثلا للمعسكر المحافظ او غالبيته، وجهانغيري ممثلا لغالبية المعسكر الاصلاحي، فان لاريجاني سيكون مرشحا وممثلا للمعسكر المعتدل الذي بدأ يفسح لنفسه مساحة في الحياة السياسية الايرانية ويمكن له ان يشكل مركز استقطاب لشرائح من المحافظين والاصلاحيين الساخطين من اداء ممثليهم في السلطة، وايضا عامل جذب وتحريك لجزء كبير من الشريحة الرمادية التي كانت تشكل أحد اوراق القوة للتيار الاصلاحي في الانتخابات السابقة.