إيران في تل أبيب.. لبنان في غزة
لا سرّ في وقوف طهران وراء البرنامج الصاروخي لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، ولا جديد في أن يكون للداعم حصة ما من اتخاذ قرار الحرب، ولو حصة استشارية. هذا ما تفعله دول بإمكانيات أكبر إذ تنسق مع حلفاء لها عندما تقرر شن الحرب أو مع بدء المعركة إذا فوجئت بها؛ إسرائيل مثلاً كان لها في كافة حروبها مستوى من التنسيق مع واشنطن، بما فيها المعركة الحالية التي تتولى فيها واشنطن تأخير مجلس الأمن لتأتي مبادرات التهدئة في التوقيت المناسب لآلة الحرب الإسرائيلية.
لدى حماس أسباب عديدة لدخولها على خط المعركة التي بدأت هذه المرة باحتجاجات سلمية انطلاقاً من الصراع على حي الشيخ جراح، من الأسباب المهمة ما تراه الحركة لجهة اعتبار المعركة الفلسطينية واحدةً، لكنه سبب يقع في الإستراتيجيا أكثر مما هو في التكتيك وفي البعيد لا المباشر. في المقابل من القضية الواحدة نظرياً، وربما شعبياً، لدينا سلطة حماس ولدينا سلطة فتح، وهو انقسام ما كان له أن يستمر ويترسخ من دون الصراعات الإقليمية. على خط الانقسام الذي يحجب عن طرفيه شرعية احتكار التمثيل الفلسطيني، تقع مظلومية حماس القديمة والمستمرة بسبب عدم الاعتراف بفوزها في صناديق الاقتراع، الأمر الذي انعكس وينعكس يومياً ومباشرة في الحصار المفروض على القطاع، ولا ندري ما إذا كانت صواريخ حماس مدفوعة كسبب مباشر بحافز اختراق الحصار.
لإيران دوافع واضحة للتشجيع على المعركة، من دون أن ننسب إليها اتخاذ القرار برمته على النحو الذي يروّج له أعداء لحماس أو طهران أو لكليهما معاً. إن مجرد الحديث الذي يملأ الإعلام عن “صواريخ إيران التي أصابت تل أبيب” هو بمثابة نصر إيراني، وهذا مطلوب بشدة بعد سنوات من استباحة الطيران الإسرائيلي المواقعَ الإيرانية في سوريا، وصولاً إلى الشكوك حول تنفيذ الموساد عملاً تخريبياً في موقع نووي إيراني.
الكلام الرائج يصب في مصلحة طهران على مستويين، الأول الذي يُظهرها متحكمة بقرار حماس، والثاني الذي يضع صواريخ حماس كأداة في الصراع الإسرائيلي-الإيراني، فوق احتساب أي نجاح تقني للصناعة العسكرية الإيرانية. هنا تتجه الأنظار إلى الصواريخ التي أصابت أهدافاً، لا إلى الطائشة أو التي تولت القبة الحديدية التصدي لها، والعبرة هي في إثبات عدم قدرة القبة الحديدية على التصدي لتكتيك اعتماد هجوم صاروخي مكثف، أي بإطلاق عدد ضخم من الصواريخ في الوقت نفسه.
نظرياً وعملياً، لا يوجد درع صاروخي مُحْكم تماماً إزاء هجوم يفوق قدرته من حيث الكَمّ، والعبرة في عجز القبة الحديدية أمام صواريخ حماس هي في عجز أكبر يمكن تخيّله إذا قرر حزب الله استخدام صواريخه التي تُعدّ بعشرات الآلاف على الأقل. من جهة الرسائل الإقليمية المعتادة، يجوز قراءة المعركة الحالية كمحاكاة لمعركة أشد، قد لا تحدث وقد يبقى التلويح بها للردع، هي معركة صواريخ حزب الله، وفيها تمتلك طهران حصة أكبر من اتخاذ قرار الحرب ومرونة في استمرار الإمدادات العسكرية عبر الحدود اللبنانية مع سوريا.
تفهم القيادات الإسرائيلية جيداً هذه “البروفة” وما تنطوي عليه، لذا لا تريد توقف المعركة عند النقطة المناسبة لحماس ولإيران معاً. على عكس اندفاعها الأول، سُرّبت أخبار عن موافقة حماس على التهدئة بعد استخدامها الصواريخ، وهذا منطقي لأن التوقف هنا يكون قد حقق لها نصراً معنوياً راهناً، وكرّسها للمستقبل كقوة ردع. تتفق الأنباء الواردة على تأخير الوساطات في انتظار أن تكمل القوات الإسرائيلية “مهمتها” التي من المتوقع أن تكون على ثلاثة مستويات؛ إيقاع الأذى الشديد بقطاع غزة وفق سياسة العقاب الجماعي المعروفة عنها، وإيقاع الأذى بقيادات من حماس، وتدمير البنية التحتية المتعلقة بصناعة الصواريخ.
في الهجوم على غزة، لا يفوت إسرائيل الرد على الرسالة الإيرانية، أو توجيه رسالة إذا لم تكن هناك رسالة إيرانية في الأصل، أي أن طبيعة الرد الإسرائيلي فيه أيضاً محاكاة تضع لبنان مكان غزة وحزب الله مكان حماس. لذا لا يُستبعد أن تفوق وحشية الرد ما خبره القطاع في جولات سابقة من المعارك، وتزداد وجاهة هذا الافتراض مع وجود نتنياهو الذي يريد تقديم نفسه بطلاً، سواء إذا كانت حياته السياسية ستنتهي قريباً أو إذا كان سيتاح له الاستفادة من المواجهة للبقاء في السلطة ضمن انتخابات أخرى جديدة. لقد استثمر نتنياهو أكثر من أي رئيس حكومة سابق في التهديد الإيراني، ولا يسعه التراجع أمام أنصاره وخصومه بعدما وصلت “الصواريخ الإيرانية” إلى تل أبيب، بل إن التراجع مرفوض من قبل النخبة السياسية والعسكرية بأكملها.
بخلاف السخريات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي من حزب الله وطهران لتقاعسهما عن نصرة فلسطين، وعطفاً على توعدهما بقرب إزالة إسرائيل من الوجود، الحق أن الحزب وإيران موجودان بقوة في خلفية الحدث، والمؤسف أن أهالي القطاع سيدفعون الثمن المعتاد وفوقه دفعة استباقية على الحساب مخصصة كرسالة للحزب ولإيران. لقد كانت فكرة “نصرة فلسطين” حتى الآن حمّالة أوجهٍ بعيدةٍ عن المعنى الحرفي لها، فتقاعس أنظمة المنطقة عن نصرتها انطوى دائماً على التآمر على القضية والتنسيق مع إسرائيل، بينما ادّعاء نصرتها انطوى على الاستثمار فيها لأغراض لا تنفع الفلسطينيين، أو تتسبب لهم وللشعوب المجاورة بالأذى. ربما أفضل ما نتمناه للفلسطينيين أن يُعفوا من نصرة الآخرين لهم، لعل الاحتمال الأقرب للتحقق حينها أن تُتاح لهم حرية الانتصار لأنفسهم.