تحقيقات - ملفات

رحلة قصيرة على ضفاف الإستبداد والقمع الممنهج في البحرين

 

الدكتور راشد الراشد

لا نتمنى لأحد مهما كانت أيديولوجيته وإنتمائه الإثني والمذهبي والعنصري والعرقي، أن يتعرض نظامهم السياسي للسرقة وللإغتصاب، وألا يشعر أحد أبدا بألم العيش في ظل الإستبداد والدولة البوليسية أو تحت تحت ظل أي نظام يطبق على أنفاسك ويمارس الوصايا عليك وعلى أنفاسك في كل شيء، ونتمنى بصدق بالغ ألا يشهد أحد أبداً هتك حرمته وإنتهاك شرفه وعرضه أو الدوس على كرامته وسجنه وتعذيبه على الهوية وأن يسلخ جلده لإتفه الأسباب، ولا نتمنى أبداً أيضاً لأحد أن يعيش في ظل الإرهاب الرسمي والإستباحة الشاملة خارج القانون، كما لا نتمنى بكل صدق وإخلاص أن يتم التهكم من أحد أبداً عليه وهو يعيش قسوة الظلم والإضطهاد من قبل من يفترض أنهم إخوته وأصدقائه وجيرانه أو شركاؤه في الإنسانية.

ولذا نود أن نأخذ أولئك الذين ضحكوا على آلامنا وأوجاعنا المريرة ورقصوا على جراحنا المدمية في رحلة قصيرة لبضعة دقائق ليعيشوا بعضاً من جوانب التجربة، وليتذوقوا بعضاً مما كنا نعانيه وما زلنا من عذاب وألم في ظل الإستبداد والديكتاتورية وإغتصاب السلطة والهيمنة على الدولة.

ولا نريد هنا من اولئك النفر الذين ضحكوا علينا وظهورنا تتلوى من ألم الإهانة والتعذيب إلا أن يعيشوا لحظة من اللحظات المرة ونحن نتجرع غصص الوجع والألم تحت نظام لا يعرف معنى للرحمة أو الشفقة أو لا يلتزم بميزان لأي قيمة للإنسانية.

كلما نريده في هذه اللحظة السوداء السيئة من تاريخ بلدنا هو متابعة بسيطة ومن خلال بضعة سطور أن يتابع البعض من أعمتهم الدعايات المضللة أن يتابعوا أفعال سلطة الإستبداد المهيمنة والمسيطرة على النظام السياسي وسلطة الأمر الواقع في بلدنا، هذه السلطة الغريبة من نوعها في طبيعة تشكلها وخلفيتها التاريخية، والتي تتشكل اليوم من مجموعة من المرتزقة اللقطاء الذي جاء بهم النظام من كل أنحاء العالم ليجعل منهم أدوات قاهرة للقمع والبطش والتنكيل، والذين جاؤوا وعيونهم مسمرة على ما يحصلون عليه من مزايا ومنافع شخصية ومغانم على حساب أهل الأرض الأبرياء، ومن الذين لم يكن يهمهم بعد ذلك ما يمكن أن يقوموا به من جرائم ضد أهل الأرض الطيبين الذين حباهم الله تعالى بالإيمان والخلق الرفيع.

وهنا لن نتحدث عن التجنيس السياسي وهو القشة التي قصمت ظهر البعير، وكشفت عمق الخلل في طبيعة نظام الإستبداد وتركيبته في البحرين وإلى درجة الإنحطاط التي وصل إليها في إعتبار الوطن مجرد غنيمة حرب أو مزرعة خاصة يستطيعون فيها إستبدال المزارعين قوماً بقوم، وأمة بأمة، وبمنطق السادة والعبيد، ودون أن يرف لهم جفن في مصير الذين تعبوا في حرث الأرض وعرقوا حتى عمروها وأقاموا بنيانها وشيدوا صروحها.

ولن نتحدث عن المزايا التي وظفتها سلطة الإستبداد والقمع إلى جموع المرتزقة الطامعين في خيرات أرضنا إبتداءاً من منح الجنسية وعلى أسس ومعايير سياسية بإمتياز وإعطاء الأولوية في التوظيف في أجهزة الدولة ومنح الوحدات السكنية بل ومنح المجنسين من المرتزقة والمأجورين الأولوية في الوظائف العليا في مؤسسات الدولة ومنظماتها، وتفردهم بالحصول على العديد من العطايا والإمتيازات الخاصة بأهل الأرض، فذلك مما فاحت ريحته وفاضت ومما لايمكن تغطيته وستره بغطاء ولا قناع.

ولن نتحدث عن طبيعة ”الإستبداد“ وعدم شرعية النظام السياسي القائم، فسلطة الأمر الواقع هي القائمة، وفضلاً عن ذلك فالمهمة منجزة بفضل ثورات وإنتفاضات لم تتوقف وجميعها تطالب بوضع حد للإستبداد وإنهاء عهود طويلة من إغتصاب السلطة، وحركة دائمة ومستمرة من أجل إسترداد شرعية الحكم والنظام السياسي إلى الإرادة الشعبية.

كما لن نتحدث عن سيطرة ”عائلة“ واحدة على السلطة بشكل مطلق دون شرعية، ولا عن إحتكارها للموارد التي تعتبرها حق مكتسب من عملية غزو رهيبة حدثت وقائعها قبل قرنين من الزمن وتحديداً في أيام سوداء حالكة من العام ١٧٨٣م حيث جرت من الأهوال والفضائع ما لا يمكن نسيانه حتى نهاية التاريخ، ولا عن تحكمها الشمولي المطلق في ثروات ومقدرات البلاد، والتي تعتبرها مجرد إستحقاق ناتج عن الأيام الأولى للغزو والإحتلال تلك.

حديثنا في هذه السطور عن بعض صور المعاناة والوجع القاسية والرهيبة التي تعرضنا لها كشعب وبشر لأننا طالبنا بالعدل والمساواة، ولأننا طالبنا بقيم المجتمع الدولي التي طالما صم آذاننا بها كالديمقراطية وتعزيز مبادىء حقوق الإنسان والشرعية وغيرها من القيم العامة، ودفعنا ثمناً عظيماً وغالياً لأننا عبرنا عن رغبتنا في العيش المشترك وأن تحكمنا القيم الإنسانية ومبادؤها، واعلنا عن رغبتنا في المشاركة السياسية الحقة في إدارة شؤون بلدنا وأن نكون جزءاً من العملية السياسية التي يتحدد فيها في الغالب مصيرنا كشعب وأجيال حاضرة كما يتحدد فيها مصير الأجيال القادمة، وكانت هذه كل جريمتنا في قاموس أهل الإستبداد، وكان الثمن أن ندفع فاتورة ذلك غالياً من دمائنا وأعراضنا ونواميسنا ومقدساتنا التي انتهكت بقسوة ووحشية شديدة ودون حدود، وأمام مرأى العالم ومشاهدته في وضح النهار.

في ١٤ فبراير ٢٠١١ وقف الشعب، مصدر السلطات جميعاً، كما تنص عليه كل دساتير الدنيا، ومما تؤكده المواثيق والعهود الدولية، ومما يدعيه النظام المستبد الحاكم، ليقول كلمته بوضوح شديد ويعلن عن رغبته في الديمقراطية وبناء نظام سياسي يستمد شرعيته من الإرادة الشعبية وإقامة دولة المواطنة الحقة التي تكفل الحقوق والحريات لجميع المواطنيين على حد سواء ودون فرق أو تمييز بينهم وبين أحد منهم، وعلى أن تعمل الدولة على صيانتها وحمايتها والدفاع عنها، ولكن النتيجة كانت أن تستباح كل حرمة وينتهك كل حق ويداس على الكرامة وتجري الفضائع من القتل خارج القانون وقد سقط العشرات في مجتمعنا الصغير شهداء التوحش من أجل السلطة والاستئثار بها، وجرت أبشع عمليات الإستباحة الشاملة إنتقاماً من الشعب عندما طالب بالعدالة والديمقراطية وبناء دولة المواطنة، والتي جرى فيها الترويع بكل ضراوة ووحشية والتي تم من خلالها التجاوز على الأعراض والنواميس بشكل غير مسبوق ودون مراعاة لأي حرمة.

وقد أعلن النظام الديكتاتوري الحرب المفتوحة ضد الشعب، وبروح الانتقام، وكأن الشعب هو العدو الأكبر، لا بعمل ما كان يفترض به أنه دولة مدنية ونظام سياسي يرعى النظام وحماية المجتمع، والأبشع من ذلك أن تجري عملية الانتقام بواسطة جيش من المرتزقة الأوباش، والمأجورين الذي وظفهم النظام ضمن حملته المسعورة للقمع والبطش والتنكيل.

وقام النظام في حملته المسعورة التي اتسمت بروح الانتقام والهمجية في مواجهة المطالب العادلة والمشروعة للشعب بالقتل خارج القانون والسحل ومداهمات البيوت ووضع العشرات من نقاط التفتيش التي تمت فيها أبشع صور الإهانة والإذلال للمواطنيين، كما جرت حملة إعتقالات كمية وتعسفية غير مسبوقة، لم يبقي فيها النظام أي حرمة أو ناموس دون انتهاكها، مما وثقته العديد من المنظمات الدولية التي يعتد بها والتي يمكن مراجعتها بضغطة زر في الفضاء الالكتروني.

وتحول النظام السياسي إلى دولة بوليسية من الطراز الأول حيث تحولت جميع شوارع وأزقة البحرين إلى مناطق للاستباحة الشاملة وعاش المجتمع برمته أقسى درجات الظلم والقهر والاضطهاد، وقام النظام بتنفيذ أبشع الجرائم التي أتحدى أحدا في هذا الكون أن يأتينا بأفظع منها.

الأوضاع السياسية في ظل الإضطهاد والقمع وتكميم الأفواه الممنهج

بنظرة سريعة فاحصة للواقع نجد بأن شعب البحرين في ظل النظام الديكتاتوري والقمعي لآل خليفة يعيش أوضاعاً قاسية وصعبة ويكفي مراجعة سريعة على بعض صفحات تقارير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جلسات مراجعتها الدورية لملف حقوق الإنسان تعدد بعض هذه التقارير ما مجموعه أكثر من ٢٨٧ إنتهاكاً ماساً وحاطاً بالكرامة الإنسانية وأكثر من هذا الرقم تنديداً وإستنكاراً من المجتمع الدولي حيال هذه الإنتهكات والممارسات الحاطة بالكرامة الإنسانية، والتي تطالب بضرورة وقف هذه الانتهاكات ووضع حد للاستبداد.

وتعيش البحرين في ظل أجواء بوليسية تهيمن عليها ضراوة ووحشية القمع، وتتسم بمصادرة الحريات بشكل بشع وتكميم الأفواه بشكل مطبق، فبعد مرور أكثر من عشر سنوات على أحداث ١٤ فبراير ٢٠١١م ما زال الكلام ممنوعاً وبأي نسبة حول الأوضاع السياسية والمطالبة بالحقوق السياسية، وهناك الآلاف من المواطنين يرزحون في سجون النظام ظلماً وتعسفاً بسبب إبداء الرأي أو المطالبة بالعدالة والمواطنة المتساوية، بل وهناك الآلاف يعيشون في المنافي القسرية بسبب تعبيرهم عن الرأي، فضلاً عن فقدان المئات المواطنة بعد إسقاط جنسياتهم، وهي ممارسة ربما تكون قياسية وغير مسبوقة في تعامل الأنظمة الديكتاتورية مع شعوبها، وناهيك عن وجود أكثر من ٦٥٠ طفلاً دون الرابعة عشر من العمر في السجون بعد إن تمت ضدهم محاكمات أمام المحاكم العسكرية وبتوجيه تهم كيدية كبيرة تتجاوز حدود قدرات كل هؤلاء الأطفال كتهمة الارهاب ومحاولة قلب نظام الحكم بالقوة، وعلى الضفة الأخرى يمارس النظام وبأبشع الطرق والوسائل قضايا التمييز والتهميش والإقصاء بينما يعتمد على فلول المرتزقة من المجنسين وطابور ضخم من النفعيين والوصوليين للاستمرار في سياساته الممنهجة للانتقام من الشعب واضطهاده وبسط سيطرته الشمولية المطلقة على مقدرات الأمور في البلاد، وهذا غيض من فيض لممارسات إنتقامية ممنهجة تجري وقائعها على الأرض في كل لحظة، وهي ليست مستورة ويعاني من قسوتها ووحشيتها الآلاف وقد أصبحت بفضل الفضاء الالكتروني والعالم المجازي مكشوفة لدى كل العالم.

يبقى إن هذا الشعب الذي قدّم القرابين والشهداء ضحايا على مذبح الحرية والشرف والكرامة لن يتخلى عن كرامته، لإنه يعرف معناها ومعنى الحرية والشرف والدين والمعتقد، ولا يقبل بديلاً عن ذلك لو عرضت عليه كل كنوز الأرض وثرواتها من النفط والغاز والمعادن. وستبقى قضية الكرامة راية خفاقة في قلب هذا الشعب المتطلع بما قدمه من دماء وأوجاع لتحقيق تطلعاته المشروعة في العدالة والمساواة وقيام نظام سياسي منصف وعادل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى