صوّب على الرأس أيّها القنّاص..!
وفاء أبو شقرا
غفوتُ متأخّرةً في تلك الليلة، لكن مطمئنّة. إذْ أكّدت لي “مصادر موثوقة” في الأمانة العامّة لمجلس الوزراء، أنّ اسمي مُدرَجٌ بين أسماء الأساتذة المرشّحين للتفرّغ في الجامعة اللبنانيّة. فموضوع التفرّغ، كان أحد البنود المطروحة على جدول أعمال تلك الجلسة الوزاريّة الشهيرة، في ذاك الخامس من أيّار/مايو 2008. لماذا “الشهيرة”؟ لأنّها أرَّخت لحربٍ أهليّة، من نوعٍ جديد. طال اجتماع الحكومة، في ذلك المساء، وامتدّ حتّى الخامسة فجراً. لذا انتظرنا اليوم التالي، لنقرأ بيان مقرّراتها الطويل. كانت عيناي تقفزان بين السطور، بحثاً عن إسمي. Yesssss، يا للسعد المنبلج مع بداية هذا النهار. لقد أصبحتُ مع 679 زميلاً، أساتذة متفرّغين في الجامعة الوطنيّة. تلك الجامعة التي أخضعوا مصيرها، منذ أواسط التسعينيّات الماضية، لمشيئة السلطة السياسيّة والقدر. لكن، “يا فرحة ما اكتملت”. إذْ، بأسرع من البرق، بدأت تتبدّد بهجتي بقرار التفرّغ. فالأجواء تلبّدت، سريعاً، بغيومٍ داكنة. وتحديداً، عندما شاع خبر صدور قراريْن يصوّبان، بالمباشر، على حزب الله. وبما أنّ السقوط في الوحل أسهل بكثير من الصعود إلى النجوم، اختار اللبنانيّون الطريق الأسهل، جرياً على العادة. وبطبيعة الحال، لا داعي لشرح ماهيّة وكيفيّة غرق الكائن البشري في الوحل. غرقنا، ولم يُصلِّ علينا أحد! أمواج الاحتقان والتخوين العاتية، تعلو وتخبط وتتكسّر في البيوت والساحات التي انتصبت جبهاتٍ متواجهة. لعلعت التهديدات بقطع الأيدي وعظائم الأمور. عنفٌ ودمارٌ وقمعٌ بالعصي والمولوتوف والقنابل والنيران الرشاشة والقذائف الصاروخيّة والقنص. لا حدود للكراهية المنبعثة من رشقات الحديد والنار. كان المطلوب شيئاً واحداً، لوقف حفلة الترهيب هذه: أن يسحب “عملاء إسرائيل” القراريْن، فوراً. وهذا ما حصل. سُحبا ولم يُصلِّ أحد عليهما، أيضاً. ولكن، لماذا حصل ما حصل؟ لم يعنيني، يوماً، إيجاد جوابٍ لهذا السؤال. ولا التحليلات المُجمِعة على الخطورة الاستثنائيّة لنهج “الاعتراض” الذي أُرسي، مذّاك. وأكثر. لم يهمّني، حتّى، كلّ الخراب الذي كان يلوح في الأفق. ولم أحزن على الأرواح المزهقة. فكلّ حواسي كانت منشغلة بأمرٍ آخر. كنتُ أتابع، وبقلقٍ شديد، ما ستؤول إليه التطوّرات. كنتُ مرعوبة من احتمال أن تفضي هستيريا الويل والثبور، إلى إلغاء “قرارات الفجر” (كما سُمّيَت)! أي، أن يلغي الوزراء كلّ قراراتهم المتَّخَذة، وليس فقط القراريْن محلّ النزاع. صرتُ أندب حظّي وأتمتم بغيظ، “ألم يخطر ببالهم أن يفعلوا ما فعلوا إلاّ في “هذه الجلسة” بالذااااات؟” خفتُ لأنّني كنتُ على يقين، بأنّه إذا حدث وأُلغي قرار تفرّغنا، فمعناه “تخبزوا بالأفراح”. لأنّ مزاج “السلطة” قد يتعكّر، ولسنواتٍ طويلة. ويا ويلنا إذا تعكّر مزاج السلطة! أو.. إذا لم تجد إفادة لها، بإعادة طرح الملفّ مرّةً جديدة. فهكذا، يا سادة، تُساس دولتنا العَليّة منذ ما بعد إتفاق الطائف. تبعاً لمزاج حُكّامنا وبارومتر صفقاتهم ومصالحهم. لقد أوصل الشعب اللبناني نفسه إلى أماكن خطيرة جدّاً. إرتضى أن يعيش حياة تافهة ومفزعة. أن يتأقلم مع شتّى الأزمات. ألاّ يرفع صوته سوى للنقّ. أصبح أهل لبنان، يا أصدقاء، كالنعاج في يومٍ شاتٍ. يتصرّفون كاللاجئين داخل وطنهم. نجح عدوان الطبقة السياسيّة الحاكمة في دحرجة هذا الشعب إلى وادٍ سحيق تلخّصت حكايتي مع “حرب” أيّار/ مايو 2008، إذاً، في هذا التفصيل التافه بالنسبة لكثيرين. أمّا بالنسبة لي، فكان يمثّل مصيري ومستقبلي ومصلحتي.. الشخصيّة. كيف لا، وقد تحمّلتُ (من أجل إدراج إسمي) قبول طلب “الشفاعة” من الزعيم المفدّى. فمن دون هذه الشفاعة، لا أمل لي (ولا لغيري) في دخول ملاك الجامعة. كومة من الشهادات لا تنفع في لبنان، بقدْر كلمة توصية من زعيم الطائفة حتّى ولو كان أُميّاً! شكراً للربّ الذي رماني في “كنف” زعيمٍ مثقّف. يعني “الله ما بيبلي ليعين!” آه، كم غيّرتني الحياة اللبنانيّة! وهذا التغيير غير المحمود، بات عنوان هزيمتي في هذا الوطن. فهو البحر الشعري الذي نظمتُ بتفاعيله، أبيات قصيدة تلك الهزيمة. كيف؟ رميتُ كلّ “العقائد” التي كنتُ أؤمن بها، من شبّاك غرفتي. ووضعتُ رأسي بين رؤوس أتباع أبشع عقيدةٍ عرفها بنو البشر. عقيدة “أنا ومن بعدي الطوفان”. هي مقولة لمدام de Pompadour همست بها لعشيقها ملك فرنسا لويس الخامس عشر. أرادت رفع معنويّاته بعد معركة روسباخ (أثناء حرب السنوات السبع). فدعته لعدم التفكير في العواقب الدراماتيكيّة للهزيمة. وباتت مقولتها تُطلَق، لوصف سلوك كلّ الأنانيّين عبر التاريخ. تُقال لكلّ الذين يستصغرون وجود الآخرين. فلا يعودون يرون سوى أنفسهم ومصالحهم الذاتيّة. حتّى وإن اقتضى الأمر أن يجرف الطوفان هؤلاء الآخرين! ألم تصبح “أنا ومن بعدي الطوفان” العقيدة التي يعتنقها معظم اللبنانيّين؟ بلى والله أعلم. وإلاّ، كيف نفسّر سرّ قبولهم غير المشروط بتقنيّات الذلّ؟ يكاد لا يخلو حديثٌ في لبنان، أكان اجتماعيّاً أم سياسيّاً، من تناول “الإذلال” الذي نتعرّض له، نحن اللبنانيّين. الكلّ مذهول من حالنا! أجل. لقد أوصل الشعب اللبناني نفسه إلى أماكن خطيرة جدّاً. إرتضى أن يعيش حياة تافهة ومفزعة. أن يتأقلم مع شتّى الأزمات. ألاّ يرفع صوته سوى للنقّ. أصبح أهل لبنان، يا أصدقاء، كالنعاج في يومٍ شاتٍ. يتصرّفون كاللاجئين داخل وطنهم. نجح عدوان الطبقة السياسيّة الحاكمة في دحرجة هذا الشعب إلى وادٍ سحيق. لقد أمسى إذلالنا، الشغل الشاغل للحُكّام. هؤلاء الذين، وبعيداً عن ثرواتهم الشخصيّة، لم يعرفوا أن يتدبّروا شيئاً. حتّى في المجالات التي لا تتطلّب مجهوداً يُذكَر. لم يُنتِجوا إلاّ الفراغ. بلى، أنتجوا للّبنانيّين فائضاً من الذلّ. والإذلال، كما علّمتنا التجربة، يستلزم خلق آليّات الإخضاع والسيطرة على الناس. إحدى هذه الآليّات، هي امتهان كرامة الإنسان. أي إفقاره بالمعنى المعنوي. ومن ثمّ بالمعنى المادّي. ومن ثمّ إذلاله لترويعه وشلّ إرادة الإعتراض والمقاومة فيه. أليس هذا الأسلوب هو المتَّبَع من قِبَل عدوّنا؟ بلى. أسلوب، يفرض المعادلة التالية: كلّ الحلول التي تؤدّي إلى الكرامة تقتضي الموت، وكلّ الحلول التي تؤدّي إلى العيش تقتضي الذلّ. إنّها باختصار، محاولات خلق واقعٍ من “الاحتلال المريح”، بحسب المصطلح الإسرائيلي. في لبنان، عوّدتنا عصابات السلطة على أن نعبر العمر وننسى. ننسى ماذا؟ أنّ هناك شيئاً إسمه الوطن. إسمه المواطن. إسمه الشعب. والحقوق. والمصلحة العامّة. والنضال من أجل هذه الحقوق والمصلحة العامّة والسهر عليهما كيف يترجم محتلّو السلطة عندنا هذا الاحتلال المريح؟ إقرأ على موقع 180 خطوط الترسيم تتعدد: لبنان يقاتل خلف خطوط العدو بتعويد اللبنانيّين على عدم توقّع أيّ شيء من دولتهم. وجعلهم لا يؤمنون بقدراتها. بل، بقدرات المفوَّضين شرعاً ترتيب شؤون حياة “ربعهم”. بشكلٍ مستقلّ عن الدولة، إنّما بأموالها المسروقة. برمجوا اللبناني، على أنّه إنْ لم يكن محسوباً على واسطةٍ حزبيّة طائفيّة، فهو من الهوامش. ومن مقتضيات هذه البرمجة، العمل اللامتناهي على تعزيز “الأنا” ومصلحتها. على خلق قابليّة الخنوع عند المواطن، وجعله إنساناً متقبِّلاً لأيّ شيءٍ في سبيل نجاته الفرديّة ومصلحته الشخصيّة. وهذا الترتيب، يتطلّب الإذعان والتذلّل لكرّاز طائفته. أي، يجب أن يحقن صباحاً “مقويّات” للذلّ في عروقه. ويتوجّه مساءً للاستعطاء عنده. صار اللبناني يمتهن الشحاذة. وتحوّلت شحاذته إلى شحاذة مكتسبة. وهذه الشحاذة المكتسبة، كما تقول سيكولوجيا الشحاذة، هي مرحلة نفسيّة تتبع نقطة انصهارٍ واحدة. بمعنى أنّه، بمجرد أن يقبل الإنسان أن يمدّ يده للمُحسن، فهو يصل إلى مرحلة الانصهار هذه. ويعقب ذلك، فترة قبول وتصالح واقتناع. اقتناع بماذا؟ بأنّ مدّ اليد، ليست إلاّ حركة طبيعيّة. وهي تشبه حركة العمل اللاإراديّة التي تصدر عن الفلاح وهو يحرث. وعن الخبّاز وهو يقرِّب يده من نار الفرن. وعن الطبيب وهو يفحص مريضه.. وهكذا. يا إلهي، أيُعقَل أن يحدث لنا ما يحدث، نحن مَن رقّص الأعداء على صفيحٍ ساخن؟ حُكّامنا أعتى وأشدّ بأساً وإجراماً من الصهاينة. قلناها في أحد المقالات، ولا بأس من التكرار. وبالحديث عنهم تذكّرتُ ولا تنفعني الذكرى! حضرتني قصّة أحد رفاقنا وكان معتقلاً في “أنصار”. كان قريب صديقةٍ لي. أخبرتني ما أخبرها به “زملاؤه” في الزنزانة. ظلّ أيّاماً يطلب الماء من جلاّده، بعدما أعياه العطش المتأتّي من تعريضه لساعاتٍ طويلة لشمس آب/ أغسطس. جاءه الجلاّد، أخيراً، بكوبٍ فيه بعض القطرات فقط، ووضعه على بُعد أمتارٍ منه. وقال له، “إزحف وخذ الماء” (كانت يدا الأسير ورجلاه مربوطة بالسلاسل). زحف بطلنا. وعندما وصل إلى الكوب رفعه مبتسماً وصبّ الماء على حذائه. كلّفه هذا التصرّف، وضعه أسبوعاً في “الإفرادي”. أيُعقَل أن يكون هذا الشاب ينتمي إلى الشعب اللبناني، ذاته؟ آه على ذاكرتي..! لعلّني لم أُرزَق نعمة النسيان مثل كلّ البشر. فأنا أحمل هذه الذاكرة على كفّي. هي لعنة ظلّت ترافقني وتنغّص عليّ أيّامي. فـ”النسيان هو أحسن دواء إخترعه البشر في رحلتهم المريرة”، يقول الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني! وبعد؟ في لبنان، عوّدتنا عصابات السلطة على أن نعبر العمر وننسى. ننسى ماذا؟ أنّ هناك شيئاً إسمه الوطن. إسمه المواطن. إسمه الشعب. والحقوق. والمصلحة العامّة. والنضال من أجل هذه الحقوق والمصلحة العامّة والسهر عليهما. “ههه.. شو نَفَعْكن النضال يا عزيزتي؟ حرام شو مساكين.. ضحكو عليكن بشويّة (القليل) مبادئ برّاقة”، هكذا كان يعيّرني ساخراً المدير المسؤول في الإذاعة حيث كنتُ أعمل في باريس. هو الذي أمسك باكراً بعلاّقة المفاتيح التي تفتح المسالك المعبَّدة والموصِلة إلى النصر المبين. إلى المال الوفير. إلى الترقّي السريع. “تعلّمي أصول وأسرار الحياة”! يردف مستكملاً موعظته. فهو يهوى، وأمثاله من “الليبيراليّين الجُدد”، إعطاء الدروس أينما حلّوا. يعشقون كيْل النصائح المستخرَجة من تجاربهم “الناجحة”. والتي دفعوا أثمانها، غالباً، من كراماتهم. هم لا يخجلون، على كلٍّ، بهذا الإقرار! يسمّون الهوان والتذلّل “تدوير زوايا”. كلمة أخيرة. يقول الضابط النازي كارل مونتر: “التعايش مع الذلّ أقبح من الهروب من المعركة..!”. وأقول للقنّاص الذي يشاهدني عبر المنظار: صوِّب نحو الرأس.. ففي القلب وطنٌ يأبى السقوط في معركة إذلاله! إقتضت نصيحة القنّاص.