تحقيقات - ملفات

محضر اللقاء الأميركي الإسرائيلي: هل عطلت غزة الحرب على إيران؟

 

ابراهيم ريحان -أساس ميديا

من داخل غُرف فنادق التفاوض في العاصمة النّمساويّة فيينّا، يسعى الأميركون والإيرانيون للعودة إلى اتفاق 2015 بحذافيره، رغمَ صعوبتها. وبين الأخذ والرّد، يخيّم على مطالب الفريقين المُتباعدة، شبحُ الإسرائيليين، ومعهم آلتهم العسكريّة. ويرتفع هذا الشبح فوق احتمال الوصول إلى اتفاقٍ جديد ترى فيه تلّ أبيب تهديداً وجودياً لها. كما لا يريد الإسرائيليون أن يروا مجدّداً ابتسامة وزير الخارجيّة الإيراني محمّد جواد ظريف، من شرفات فيينا، مُلوّحاً بمسودّة الاتفاق مُجدّداً.

فهل تقترب الحرب بين إسرائيل وإيران؟ وأين قد يكون مسرحها إن حصلت؟

الأسئلة هذه زاد من راهنيّتها هدير الطائرة التي أقلعت من تلّ أبيب قبل أسبوعين، وحطّت في العاصمة الأميركيّة واشنطن، وعلى متنها مستشار الأمن القومي الإسرائيلي مائير بن شبات ورئيس جهاز المُوساد يوسي كوهين، المتوجّهين مع فريقهما للقاء نظيريهم الأميركيين جايك سوليفان ووليام بيرنز.

السّفارة الإسرائيليّة في واشنطن كانت هي طاولة الاجتماعات التي جمعت الوفدين الأميركي والإسرائيلي. لم يكن الإسرائيليّون يوماً أكثر وضوحاً مع الأميركيين في مسألة “النّووي الإيراني” و”الصّواريخ الباليستيّة” و”الأذرع الوكيلة لإيران في المنطقة”: “لن نقف مكتوفي الأيدي على الإطلاق، وسنضرب أي هدفٍ نرى فيه تهديداً لنا، إن كان في إيران أو خارجها”. هذا ما أبلغه الإسرائيليّون للأميركيين في واشنطن. بل وتشير المعلومات إلى أنّ الوفد الأمنيّ سلّم سوليفان وبيرنز وثائق ومعلومات استخباريّة تؤكّد مخاوفهم ممّا يعتبرونها “خفّة أميركية” في التعامل مع إيران وأذرعها، وفي مُجاراة شروطها، بحسب معلومات ديبلوماسية موثوقة حصل عليها “أساس” من مصدر عربي اطّلع على محاضر هذا اللقاء.

على الرّغم من محاولة الأميركيين أثناء الاجتماع طمأنة وفد الدّولة العبريّة الأمنيّ من أنّ “العودة إلى الاتفاق النّوويّ” ليست سوى البداية، وأنّ ما يُقلِق “إسرائيل” سيتمّ تبديده بعد حلّ مسألة “النّوويّ الإيراني”، إلّا أنّ تلّ أبيب تمسّكت بالتّصريح عن نيّتها القيام بكلّ ما هو مُتاح لـ”حماية وجودها”.

من السّفارة الإسرائيليّة، انطلقَ رئيس الموساد يوسي كوهين في اليوم التّالي إلى البيت الأبيض ليُلبّي دعوةً للقاء الرّئيس جو بايدن، المُتمسّك بالعودة إلى الاتفاق مع إيران. على الرّغم من أنّ “اللقاء استثنائيّ” من حيث الشّكل، إلّا أنّ نتائجه كانت مُخيبة للآمال لدى الإسرائيليين، ورسّخ قناعةً لديهم بأّنّ معركتهم السّياسيّة في التأثير على “تفاصيل الاتفاق” ستكون خاسرة.

بايدن أكّد لكوهين الكلام الذي سمعه من جايك سوليفان وبيرنز، بأنّ “الاتفاق هو أوّل خطوةٍ في مسارٍ طويل”، وأنّ إدارته ملتزمة بأمن إسرائيل، ودعا الإسرائيليين إلى انتظار بلورة الاتفاق لمُناقشة ملفيّ الصّواريخ والأذرع لاحقاً. وهذا لم يُعجِب تلّ أبيب، ولن يُعجبها مُستقبلاً…

تمسُّك الرّئيس الدّيمقراطي بالعودة إلى الاتفاق مع إيران، واستراتيجية طمأنة تل أبيب أنّ التّعاطف معها في دوائر إدارته قائم بقوّة، بل وراسخ، جاءَ بنتيجة واحدة: “البلدان اتّفقا على أن لا يتّفقا في شأن إيران”. وانطلاقاً من هنا ازدادت القناعة لدى القيادات الإسرائيليّة أنّ عليهم التّحرّك بانفراد، ومعالجة مخاوفهم لوحدهم.

وبحسب معلومات “أساس” فإنّ الإسرائيليين، خلال اجتماع واشنطن، حدّدوا مطالبهم بثلاث نقاط، هي التالية:

1- أن يكون رفع العقوبات تدريجياً وليس فورياً وشاملاً. فرفض الأميركيون لأنّهم يعتبرون أنّ عقوبات إدارة دونالد ترامب لم تكن مبرّرة.

2- أنّ يشمل الاتفاق النووي برنامج الصواريخ الباليستية والصواريخ الدقيقة في لبنان وسوريا وإيران. وكان جواب الأميركيين أنّ الاتفاق سيكون “نووياً فقط”.

3- الحدّ من التمدّد الإقليمي لإيران وأذرعها المسلّحة وميليشياتها في المنطقة. فأجاب الأميركيون بحزم: “موقفنا واضح ونتفهّم رأيكم. لكنّنا لسنا بوارد البحث في هذا الموضوع الآن. نحن نعتقد أنّ حلول النقاط الثلاثة التي طرحتموها يأتي من خلال الحوار لاحقاً”.

هنا أجاب الإسرائيليون لاختصار النقاش: “إذاً سندمّر كلّ ما يمسّ أمننا ووجودنا، أمنياً وعسكرياً”.

فوافق الأميركيون. وخلص الاجتماع إلى هذا الاتفاق الوحيد. وبدأت التحضيرات للمناورة الكبيرة. 

وفي مقابلة صحافية عقب تنصيب بايدن، مع تل كيلمان، وهو الجنرال في سلاح الجوّ الإسرائيلي، المسؤول عن “استراتيجية إسرائيل تجاه إيران”، سُئل عن قدرة إسرائيل على مهاجمة وتدمير برنامج إيران النووي بالكامل. فأجاب من دون تردّد: “الجواب نعم. عندما نبني هذه القدرات، فإنّنا نبنيها لتكون فاعلة”.

من هنا يبدو واضحاً أنّ الرّفض الإسرائيلي للعودة إلى الاتفاق النّوويّ ينطلق من يقينٍ بأنّ إيران ستكون دولة محوريّة من جهة امتلاك الأسلحة النّوويّة بحلول سنة 2030، وهو تاريخ انتهاء صلاحية الاتفاق النووي الموقّع في 2015.

وتتوجّس تل أبيب من مليارات الدّولارات التي سيحصل عليها النّظام الإيراني بعد رفع العقوبات عنه وتحرير أمواله. تلك التي سيستخدم جزءاً منها، بالتأكيد، في توسيع عمل ميليشياته المُنتشرة على طول خريطة الشّرق الأوسط، خصوصاً حزب الله في لبنان و”حماس” في قطاع غزّة. وهذا ما يعتبره الإسرائيلي تهديداً وجودياً للكيان العبريّ.

ومع عودة الوفد من واشنطن إلى الأراضي المُحتلّة، حاملاً قلقاً إضافيّاً، بدأت إسرائيل مناورة هي الأوسع والأطول في تاريخها، وأطلقت عليها اسم “مركبات النّار”، لمحاكاة هجمات من المحاور كلّها على. وسريعاً تمّ تعليق المناورة مع تنطلاق الصواريخ الفلسطينية من قطاع غزّة.

كان مُقرّراً أن يُشارك في هذه المناورة أكثر من 17 ألف عسكريّ من القوّات البريّة والبحريّة والجويّة والفرَق الخاصّة، ليتدرّبوا على التّصدي لخطر فتح على 3 جبهات في وقتٍ واحدا: (الشّماليّة مع لبنان وسوريا، والجنوبيّة مع غزّة، وجبهة العُمق). أمّا الأخطار التي كانت المناورة ستُركّز على التّصدّي لها فهي التالية:

1- اقتحام حزب الله الحدود من الشّماليّة والقتال على أرض الجليل.

2- قصف صّاروخي مُكثّف من منصّات مُتعدّدة التّواجد الجغرافيّ.

3- انفجار الوضع الأمنيّ والعسكريّ في الأراضي المُحتلّة عام 1948 و1967.

المناورة التي أصرّ رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي على إجرائها دونما اكتراثٍ للوضع المُتفجّر في مدينة القدس والمسجد الأقصى ولما يحصل في الإقليم من تطوّرات، كانت أحد الأسباب الرّئيسيّة لقلق الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله منها في خطابه يوم الجمعة الماضي. إذ حذّر من استغلال الإسرائيليين لها وتطوير أهدافها لتصل إلى حرب إسرائيليّة على لبنان، في سابقة لجهة تخويف مناصريه بدلاً من طمأنتهم. خصوصاً أنّه لم يعد خافياً ما تداوله الفريق الأمنيّ العائد من عاصمة القرار الأميركي. وسرّب الحزب أخباراً إعلامية في مواقع وقنوات قريبة منه لتعبئة بيئته وتحضيرها نفسياً للأسوأ.

مَسرح بداية الحرب التي تُحاكيها المُناورة لم يكن ظاهراً بشكلٍ واضح. إلّا أنّ محاكاتها لهجماتٍ من جبهات عديدة، كلّها ترتبط بإيران، تشير إلى أنّ الإسرائيليين كانوا يريدون تدريب قواتهم الخاصة على مواجهة ردود وكلاء إيران، في حال نفّذت القيادة ضربة قاسية لأهدافٍ في داخِل إيران. هذا كان هدف المناورة غير المُعلن.

وهنا يكمن سرّ تفجير جبهة غزّة غداة عودة الوفد الأمني الإسرائيلي من واشنطن. وفعلاً تمّ تعليق المناورة الإسرائيليّة. وتصاعدت رائحة إيرانية واضحة من “خطف” حركة “حماس” الحراك المقدسي لمناصرة أهالي حيّ الشيخ الجرّاح.

الصواريخ التي انطلقت نصرةً للأقصى ولحيّ الجرّاح لا يمكن وضعها إلا في سياق إقليمي. إذ لم تكن “حماس” مضطرة محلياً لفتح جبهة الحرب. بدت الصواريخ “إقليمية” أكثر منها فلسطينية. وكانت وظيفتها استباق أيّ ضربة إسرائيليّة اشتمّ الإيرانيون رائحتها من غُرفة السّفارة الإسرائيلية في واشنطن. ونجح الإيرانيون بإشغال الجيش الإسرائيلي في معركة مع قطاع غزّة، يخرج منها منهكاً على صعيديّ العسكر والجبهة الدّاخليّة، وبالطبع تصير المناورة في خبر كان، ويتأجّل قرار ضرب إيران.

اليوم يعيد التّاريخ نفسه. في العام 2014، وأثناء تفاوض إيران في لوزان مع المجموعة الدّوليّة، كانت حركة “حماس” تقصف تلّ أبيب والمدن الإسرائيليّة في مواجهة استمرّت 50 يوماً بالتّمام والكمال. في خطوةٍ إيرانيّة واضحة كان هدفها الضّغط على يد واشنطن التي تؤلمها في عهد باراك أوباما، وإلهاء الإسرائيليين بمعركةٍ تعيق تدخّلهم عسكرياً لعرقلة الاتفاق الذي لم تكن إسرائيل موافقة عليه، تماماً كما هو الحال اليوم.

التاريخ يعيد نفسه. طاولة فيينا التي أقلقت الإسرائيليين، أنجبت طاولة واشنطن. وما خرج من غرف السفارة المقفلة، وجد صداه فوراً في صواريخ غزّة.

الكرة الآن في ملعب إسرائيل. هل ابتلعت الطعم؟ أم أنّها تخبّىء في جيبها العسكري مفاجأة لإيران؟

الأيام المقبلة ستكون مليئة بالأجوبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى