حل لبناني “على البارد”
“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
إذا قُدّرَ للدولة اللبنانية أن تبقى على قيد الحياة حتى العام المقبل في ظل الشروع بورشة رفع الدعم، ما يعني تسريعاً في وتيرة الإرتطام والإنهيار، نحتاج من أجل الإستمرار أعواماَ إضافية، إلى مؤتمر جامع وليُسمّى ما شئتم: مؤتمر تأسيسي، طاولة حوار، تسوية، مؤتمر للإتفاق على عقد إجتماعي جديد، مؤتمر “طائف” لإعادة إنتاج اتفاق الطائف، لا خلاف على الإسم طالما أن المصلحة العليا تقتضي إنقاذ الجمهورية!
ليس سرّاً، أن دولاً عربية عدّة، باتت تفكر، في ضوء المتغيرات الحاصلة في الإقليم واستعصاء الأزمة اللبنانية وتحوّلها إلى إعصار متحرّك من الدرجة الخامسة على مقياس “سافير سيمبسون” ويمثل خطراً على الجوار، أن تدعو إلى مؤتمر غايته بحث مستقبل لبنان. وللصراحة، فإن وزير خارجية قطر السابق محمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، الذي رعى يوماً مؤتمر الدوحة عام 2008، من بين المنظّرين إلى هذا الحل “التسووي”.
قبل أيام، قال بن جاسم في تغريدة له عبر “تويتر”: إن لبنان “لا يحتاج إلى وساطات من الخارج، بل يحتاج أن يجلس كل الفرقاء على الطاولة لبحث مستقبل هذا البلد”. وأضاف: “ساسة لبنان بحاجة اليوم إلى مكان يجمعهم ويسهّل عليهم الحوار في ما بينهم لعلهم يتوصلون إلى صيغة توافقية تُخرجهم من هذا النهج المدمّر”.
المثير في كلام المسؤول القطري السابق، أنه جاء تزامناً مع زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان إلى بيروت، ما أعطى الكلام طابع الرسالة الموجّهة، وكأن “بن جاسم” كان يقول لـ”لو دريان” من موقع صاحب الخبرة والتجربة: لا داعي للمبادرات، إجمعوا اللبنانيين على طاولة واحدة، وينتهي الأمر!
في الواقع، فكرة الدعوة إلى طاولة حوار موسّعة لم تغادر الذهن السياسي الفرنسي إطلاقاً. وبحكم براغماتيتها، تجد فرنسا، أنه من المحال أن لا يتم إصلاح الفجوة داخل الحياة السياسية اللبنانية، إلاّ بلقاء جامع بين الأقطاب المعنيين، الذين ما زال قسم كبير منهم يتمتّع بحيثية شعبية رغم كل الويلات التي تسبّبوا بها، والتجارب خير دليل. من هنا، نما الحديث مؤخراً عن نية فرنسا الدعوة إلى مؤتمر يُعقد في باريس، لكن سرعان ما تمّ نفي الأمر من أصله، وقد تزامن ذلك مع حالة الغضب التي اعترت الإليزيه من جراء الإستهتار الرسمي اللبناني بمبادرات الحل الفرنسية، ما دفع بالأخيرة إلى اللجوء إلى خيار التلويح بعقوبات آحادية. في المقابل، ثمة من يعتقد أن سقوط فكرة الدعوة إلى المؤتمر، نابعة من التباينات داخل “خلية لبنان” في قصر الإليزيه، بين فريق لم يعد يرى مصلحةً في إصلاح الخلل البنيوي الذي يعتري الطبقة السياسية اللبنانية . وبالتالي يجب استبدالها عبر إيجاد بديل متوفّر أو العمل على إنتاج بديل، وبين فريق آخر ما زال يتبنّى وجهة النظر القائلة بعدم التخلي الكامل عن الطبقة الحالية حفاظاً على مصالح فرنسا العليا واللجوء إلى اعتماد “الكي”.
وللحقيقة، إن “لو دريان” من أصحاب وجهة النظر الأولى القائلة بقلب النظام. ويبدو أنه أخذ أوكسيجيناً، بعدما عمدت باريس إلى تغيير وجهة نظرها تجاه المعضلة اللبنانية. ولا ريب أن لـ”لو دريان” دوراً في ذلك. وللعلم، فإن وزير الخارجية الفرنسي يؤثر في مقدارٍ معقول على وجهة النظر السياسية لرئيسه إيمانويل ماكرون، وثمة من يقول، أن “لو دريان” هو من حمل ماكرون على التفكير باحتمالات تغيير أو قلب النظام اللبناني، وهو من زرع في رأسه يوماً اللجوء إلى خطط بديلة. وحين تحرّك “حِس الحمية” لدى ماكرون مع إرتفاع نسب الأدرينالين في جسده حين زار بيروت وجال في شارع مار مخايل، أطلق عبارته “المفتاحية” الشهيرة أمام الأهالي المتجمهرين لاستقباله والتي عمل دوائر القصر الفرنسي على تلطيفها لا لشيء إلاّ لعدم كشف الخطط: “لا بُدَّ من تغيير النظام في لبنان”.
بمعزل عن الموقف الفرنسي المُستجد، فإن فكرة الدعوة إلى المؤتمر لم تسقط تماماً. ثمة أطراف وشخصيات، من بينها النائب السابق وليد جنبلاط، تتبنّى فكرة “الإستمهال” ريثما تتبلور الأجواء الإقليمية وتظهر نتائج الحوارات والمفاوضات: الأميركية – الإيرانية / السعودية – الإيرانية / السعودية – السورية / التركية – المصرية الخ… وفي اعتقاد هؤلاء، فإن التهدئة الإقليمية ستُسفر عن تهدئة لبنانية يجري إنتاجها وتمهّد لطاولة حوار تُعقد في بيروت وليس في أي مكان آخر، لكن تحت رعاية إقليمية – دولية، على أن تأتي بحلّ “ملبنن” يتم من خلاله إنتاج “تسوية” ما برح رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي ينادي بها ويدعو إليها من مقام العارف باحتمالات ونتائج التطورات الإقليمية وطبيعة الحياة السياسية اللبنانية، التي تحتاج دورياً إلى جرعات “تسووية” كي تبقى على قيد الحياة، أي أن تأتي التسوية على قاعدة “الحل المستدام” وليس الترقيع، تسوية لا تستثني التعديلات الدستورية أو إدخال تغييرات على شكل النظام وتركيبه.
المفارقة بين عامي 2008 (طاولة الدوحة) و 2021، أن طاولة الحوار المقترحة، والمفترض أن تجري الدعوة إليها “على البارد”، أي من دون إقحام السلاح في المسألة كما حصل أعوام 1958 و 1969 و 1990 ، وذلك على الرغم من أن المؤشرات جميعها تدل على “حقبة ساخنة” سيعبر إليها البلد خلال الفترة المنظورة ، وهي مفتوحة على شتى الاحتمالات، ولكن هذه المرّة لن تكون الأحزاب التقليدية أو السياسية محرّكاً لها بل الأسباب الإقتصادية والعوامل الإجتماعية. أمّا المفارقة الثانية ، فهي تأتي من ضرورة أن تكون الطاولة على الأراضي اللبنانية وليس في أي دولة خارجية.