رام الله | مع استمرار المواجهة الشعبية المفتوحة في الضفة الغربية المحتلة، يشهد الميدان تطوّراً لافتاً في أشكال الهجوم على نقاط جيش العدو وأبراجه، وليس آخرها العمليات المتواصلة في الخليل، جنوب الضفة، من إحراق برج عسكري وإطلاق نار من سيارة مسرعة باتجاه مجموعة من جنود الاحتلال، ثمّ إطلاق نار باتجاه جيب عسكري بالقرب من حلحول، وغيرها من «الأحداث الأمنية» في مناطق أخرى. وما تمتاز به الهبّة الجارية أنها تجمع أنواعاً عديدة من الهجمات، ما بين شعبي وعسكري وحتى سلمي، في حين أنه لا مؤشّر يلوح في الأفق إلى اقتراب إطفاء فتيل قنبلة التصعيد. وأمام تصاعد المواجهات، وقيادة «حماس» عدداً من المسيرات نحو نقاط التماس، ومع انتفاض الشباب، وجدت «فتح» نفسها مجبرة على محاولة ركوب الموجة بأيّ طريقة، لتشارك اليوم في الإضراب المفتوح الذي سيشمل فلسطين كلّها.
وإلى جانب تعدّد طرق المواجهة، وفضلاً عن أنها تتصاعد شيئاً فشيئاً، شهد اليومان الماضيان إحراق نقاط وأبراج مراقبة لجيش العدو على امتداد محافظات الضفة. وفجر أول من أمس، اقتحم شبان برجاً إسرائيلياً في فرش الهوا في الخليل، وأحرقوا المكان، ثمّ رفعوا العلم الفلسطيني. والأمر نفسه تكرّر في الأيام الأخيرة مع نقطة مراقبة قرب بلدة بيتا جنوب نابلس (شمال)، فيما فرّ الجنود من برج مقابل بلدة عزون شرق قلقيلية (شمال غرب). أيضاً، في بلدة نحالين غرب بيت لحم، هاجم الشبان معسكراً لجيش العدو بزجاجات حارقة، ثمّ هاجموا مستوطنة «بيتار عيليت» القريبة. كما يشهد عدد من الطرق الاستيطانية أو «الالتفافية» عمليات إغلاق في وجه المستوطنين قبيل المواجهات، ما يؤدي إلى تعطيل حركة السير عليهم لوقت طويل، وهو مشهد بات متكرّراً في الأيام الأخيرة.
على خطّ موازٍ، تتزايد وتيرة إطلاق النار صوب العدو. ففجر أول من أمس، أطلق مقاومون النار باتجاه مستوطنة «بيت عين» المقامة شمال الخليل. وبعد أقلّ من ساعة، أُطلقت النار صوب جنود كانوا يحرسون مدخل مستوطنة «حومش» المخلاة بين مدينتَي نابلس وجنين (شمال)، علماً بأنه بعد تهديدات مقاومين من «سرايا القدس» و«كتائب الأقصى» في جنين ونابلس، لم تشهد أيّ من المدينتين اقتحامات من جيش العدو. فوق ذلك، تمتاز الهبّة الجارية بأنها تحافظ على وتيرة متوازنة لاستنزاف العدو من دون تأثير طريقة على أخرى. مثلاً، من مآخذ مراقبين على الانتفاضة الثانية أن دخول العمل العسكري المسلّح والعمليات الاستشهادية فوراً أدى إلى تراجع الفعاليات الجماهيرية وحرق المراحل، لتقفز الانتفاضة آنذاك في غضون نحو شهر من المواجهات بالحجارة والزجاجات الحارقة والمسيرات إلى عمليات إطلاق نار واشتباكات مسلحة وعمليات استشهادية. هذا الأمر يبدو أنه لن يحدث في المدى القصير مع هذه الهبّة، إذ تبدو شعبية عفوية، وتسير منتظمة، كما يحكمها سلوك العدو ومدى تصاعد انتهاكاته وإيغاله في الدم الفلسطيني. ويبدو أن التجربة التراكمية حفرت آثارها في أذهان الفلسطينيين وفصائلهم أيضاً، إذ باتوا أذكياء وتعلّموا الدرس جيداً، وهو أن «الحرب تحتاج إلى نفس طويل وعدم حرق مراحل… هي معركة استنزاف».

اللافت أنه أول من أمس، خرجت مسيرة مسلحة من دون إطلاق نار في الهواء في نابلس، وفيها هتف المشاركون بجوار مسلّحي «كتائب الأقصى» لقائد «كتائب القسام»، محمد الضيف، ما يعني أن ما أنتجته الهبّة الجارية عميق ولا يمكن التنبّؤ بكامل تداعياته، لكن الضفة تعيش حالة من التماهي والتلاحم مع خيار المقاومة المسلّحة عامة، وترتبط وجدانياً بشخصيات معينة مثل الضيف، و«أبو عبيدة» (المتحدث باسم «القسام»)، و«أبو حمزة» (المتحدث باسم السرايا). ومع أن المتحدثين باسم الأجنحة العسكرية ليسوا سوى الواجهة الإعلامية، فإن الفلسطينيين في الضفة والقدس، الذين يعيشون حالة من «الاغتراب التنظيمي العسكري»، يهتفون لهم بصفتهم أبطالاً، بل يُطالبونهم بالردّ على جرائم العدو. وهذه الهالة تظهر تعطّشهم للقادة المبادرين، ولِمَن يقودهم ويعرفهم ويعرفونه.
في المقابل، وبعد أيام من فرض السلطة الفلسطينية طوقاً أمنياً حول بعض التظاهرات ومنعها من الاقتراب من مقرّ المقاطعة في رام الله، وإعاقة مسيرات أخرى في جنين وعند قبر يوسف في نابلس، يبدو أن «فتح» التي تتزعّم السلطة أيقنت أنه لا مناص من التماهي مع الشارع المنتفض ومحاولة اللحاق به، ولذا فهي دعت إلى أسهل ما يمكنها فعله، وهو الالتزام بالإضراب الشامل اليوم، و«إشعال نقاط المواجهات». مع ذلك، تُواصل السلطة السير في الخطّ المعتاد: «التسوية السلمية ووقف النار»، مع الإشارة إلى أن رئيسها، محمود عباس، كان أوّل من تلقى اتصالاً من الرئيس الأميركي جو بايدن، للتنسيق في شأن التهدئة ولجم الانتفاضة.
ثمّة عاملٌ آخر جعل «فتح» تحسم أمرها وتدعو إلى الانخراط في الإضراب والمواجهات، وهو حرصها على ألّا يُترك الفراغ في الشارع لتملأه «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية» وغيرها، ولا سيما أنه بات واضحاً أن «حماس» قادت عدداً كبيراً من المسيرات في قلب المدن نحو نقاط التماس، مع وجود تصميم عند الأخيرة على عدم انتظار تحرّك أحد وإشعال الميدان في الضفة. كما دعت قيادات «حمساوية» في الضفة بوضوح إلى الانتفاضة، ومنهم القيادي جمال الطويل الذي قال: «أشعلوا الأرض ناراً تحت أقدام الاحتلال والمستوطنين، ولا هدوء حتى تهدأ غزة». وبذلك، تترك السلطة و«منظمة التحرير» الباب موارباً، فيما تخرج «فتح» متأخّرة للانخراط في المواجهات، ويبدو واضحاً أن هذه الخطوة هي «لحفظ خط الرجعة» وعملية التسوية والمفاوضات إذا توقّف التصعيد، في ظلّ رهان السلطة على إدارة بايدن كـ«منقذ مخلّص من شر نتنياهو وترامب».