لودريان يؤسس لمرحلة ما بعد سعد الحريري
حسين أيوب
أتى الفرنسيون. ذهب الفرنسيون. النتيجة واحدة. الفراغ الحكومي مقيم ولبنان مهدد. ماذا بعد؟ قبل خمس سنوات، قرر سعد الحريري إبرام تسوية رئاسية أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. كان يُركّز على ثلاثة أسباب موجبة للتسوية، أولها، عدم جواز إستمرار الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية في لبنان، ثانيها، التماهي مع ميشال عون وبالتالي دفعه إلى أخذ مسافة من حزب الله حتى لا نقول الفصل بين الإثنين، ثالثها، حماية الطائف من خلال رشوة ميشال عون برئاسة الجمهورية. هذا الكلام سبق للفرنسيين أن سمعوه من الحريري في مطلع العام 2016، في معرض تبرير موقفه الذي تحوّل من معارض لإنتخاب عون رئيساً للجمهورية إلى مؤيد له. أكثر من ذلك، وللتاريخ أيضاً، فإن باريس كانت “الشاهد الملك” على الإجتماعات الماراتونية التي عقدها الحريري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، برعاية رجل الأعمال اللبناني علاء خواجة، وحضر بعضها مستشارون ورجال أعمال من الطرفين، وكانت نتيجتها وضع خارطة طريق لـ”البيزنس” السياسي والمالي المشترك. مثلاً الطاقة وكل ما يتفرع عنها لباسيل والإتصالات وما يتفرع منها للحريري. وعندما كان البعض يضغط على الحريري، من أجل رسم مسافة ما بينه وبين باسيل تحديداً، كان يجيب “لن أختلف مع ميشال عون تحت أي عنوان كان”. بلغ الأمر بالحريري حد طلبه من بعض موظفي الإدارة العامة في الدولة من أبناء الطائفة السنية أن يمرروا سيرهم الذاتية إلى باسيل وإجراء مقابلات معه، ضمانة لتعيينهم أو لتثبيت من هو مهدد منهم في مركزه في الفئة الأولى! أعطى رئيس تيار المستقبل لكل من ميشال عون وجبران باسيل ما يفيض عن طلبهما ومطالبهما. بالمقابل، لم يكن يقدم تفسيراً مقنعاً لكل المتحفظين على سلوكه، سواء في الداخل أم في الخارج، مقارنة بما كانت عليه مواقفه في السابق. يكفي نبش الأرشيف الفرنسي للعام 2005، غداة إستشهاد الرئيس رفيق الحريري، من أجل الإطلاع على محتويات المراسلات اللبنانية ـ الفرنسية، سعياً إلى عرقلة عودة ميشال عون إلى لبنان من منفاه الباريسي، وكيف كانت فرنسا جاك شيراك مستعدة للتجاوب مع مطالب الحريري وفريق 14 آذار، لولا أن القوانين الفرنسية التي لا تجيز تقييد تنقل الأفراد. لقد رعى الفرنسيون، وتحديداً شيراك كل فكرة “التحالف الرباعي” من أجل محاصرة ميشال عون إنتخابياً في ربيع العام 2005، فكان “التسونامي” الذي أتى بسبعين في المئة من اصوات المسيحيين. برغم ذلك، رفض الحريري وكل الفريق الذي ينتمي إليه فتح ابواب الحكومة أمام عون. قال الحريري، وقتذاك، إنه يعتزل العمل السياسي ولا يضع يده بيد ميشال عون. من هذا المطرح البعيد، في العام 2005، إلى التسوية الرئاسية والجلوس في أحضان ميشال عون في العام 2016. ومن رقصة التانغو طيلة ثلاث سنوات على إيقاع “دويكا القصرين” (بعبدا والسرايا) إلى ما يشبه القطيعة الكاملة مع عون وباسيل، وتحديداً مع الأخير منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019.. وماذا كانت النتيجة؟ أولاً، إنتقلنا من سنتين من الفراغ الرئاسي إلى سنة ونصف من فراغ وإفراغ موقع رئاسة الحكومة.. والحبل على الجرار. ثانياً، كان هدف التسوية إبعاد عون وباسيل عن حزب الله، وها هما أكثر إلتصاقاً بحزب الله من أي وقت مضى، لا بل صار باسيل يتعامل مع حزب الله بندية الإنتساب إلى “نادي العقوبات الأميركية”! ثالثاً، كان هدف التسوية الرئاسية حماية الطائف، وها هو ميثاق الوفاق الوطني اللبناني مهددٌ أكثر من أي وقت مضى. حتماً، لا يريد سعد الحريري أن يعيد أحد تذكيره بما مضى أو مشاركته في إستشراف المستقبل. بات الرجل أقرب إلى النموذج الذي يهوى غلبة “الزجالين” في بيته ومن حوله، وهو نموذج موجود في كل البيئات، ولا سيما بشكله الفاقع في القصر الجمهوري! هذا التذكير وظيفته متصلة بزيارة وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان. الضيف الفرنسي جدول أعماله محصور بنقطة وحيدة: “شكّلوا حكومة وإلا”.. وبمعزل عمن سيلتقي أو يقاطع، فإن المرجح أن تكون نتيجة الزيارة صفرية، وهو إستنتاج يستند إلى الآتي: أولاً؛ ثمة إدارة فرنسية تستوجب الترحم على الزمن السوري وربما العثماني. أربعة فرنسيين إنخرطوا في الملف اللبناني طوال الأشهر التسعة الأخيرة هم إيمانويل بون، برنارد إيمييه، وبرونو فوشيه (الثلاثة خدموا سفراء في بيروت سابقاً)، وباتريك دوريل. برغم خبرة الأربعة، إلا أن تجربتهم، بالمفرق والجملة، لا يجب أن يقال عنها سوى أنها لا تليق أبدا بدولة كبرى إستعمرت لبنان عقوداً ولا بتجربة كل واحد من الثلاثة ما عدا دوريل. تجربة يختلط فيها الشخصي بالسياسي. النتيجة إرباك تلو إرباك وإخفاق تلو إخفاق. على هذه القاعدة يأتي لودريان محاولاً أن يفهم مباشرة (بمعزل عن الفرسان الأربعة) ويكوّن إنطباعاته قبل إتخاذ “قرارات كبيرة”، كما يردد الفرنسيون. إقرأ على موقع 180 أمين الجميل أول رئيس لبناني في البيت الأبيض ثانياً؛ حتى في موضوع العقوبات والتوبيخ، على الفرنسيين أن يتعلموا من تجارب غيرهم. قالها لهم جيرانهم البلجيكيون، في معرض مناقشة العقوبات الأوروبية على شخصيات لبنانية: لقد عاشت بلجيكا 535 يوماً من دون حكومة (حوالي 18 شهراً)، فماذا يمنع أن تفرضوا عقوبات مماثلة علينا مستقبلاً؟ قصارى القول أن الفرنسيين يحاولون تعويض قصور إدارتهم السياسية بالقفز إلى عقوبات لن تقدم ولن تؤخر مع جبران باسيل الذي سبق له أن فاز بالجائزة الأميركية الكبرى. ثالثاً؛ ماذا يضير لو أن الفرنسيين قدموا مقاربة مختلفة، تنطلق أولاً من زاوية مصالحهم في لبنان وماذا يعني لهم هذا البلد كآخر موطىء قدم فرنكوفوني في المنطقة، وبالتالي، يمكن تحديد منظومة مصالحهم اللبنانية وأين تلتقي مع مصالح اللبنانيين وذلك على قاعدة تشكيل قوة دفع للخيارات التي يطرحونها وصولاً إلى ملامسة جوهر قضايا اللبنانيين السياسية (الصيغة، النظام الطائفي، العدالة الإجتماعية إلخ..). رابعاً؛ توصل الفرنسيين إلى شبه قناعة بإستحالة التعايش بين عون والحريري، وبالتالي طالما ان رئيس الجمهورية سيكمل ولايته حتى خريف العام 2022، على فرنسا البحث جدياً عن بديل للحريري، خصوصاً ان اي إنعاش إقتصادي للبنان وتحديداً مع صندوق النقد الدولي يقتضي تعاون رئاستي الجمهورية الحكومة وليس خوض حروب داحس والغبراء بينهما. خامساً؛ على الفرنسي أن يُدقّق جيداً في حقيقة مواقف الدول الداعمة للمبادرة الفرنسية بالعلن والتي أمعنت في السر بطعنها وباتت تتصرف على أساس أنها مبادرة من الماضي، فضلاً عن الموقف السعودي المتحفظ بشدة على الحريري. سادساً؛ بات مستحيلاً فصل ملف لبنان، برغم كل تداعيات الفراغ التراجيدية، عما يجري من مفاوضات سواء في بغداد أو فيينا أو دمشق وفي العديد من العواصم الكبرى. بكل الأحوال، سيصل لودريان غداً (الأربعاء) إلى بيروت، وسيمضي فيه حوالي الأربع والعشرين ساعة. لن يحتاج لأكثر من ساعتين مع كل من رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي. أين سيمضي باقي وقته، وهل من صلة بين زيارته وبين إحتمال إعتذار سعد الحريري في الأيام القليلة المقبلة؟ على الأرجح نعم. هذه الزيارة تأسيسية لما بعد تنحي الحريري، لكن الأهم أنها تأسيسية للذهاب إلى ما هو أبعد من إعتذار رئيس الحكومة المكلف، وهو الأمر الذي قد يُلمح إليه الوزير الفرنسي، قبيل مغادرته بيروت. لماذا هذا الإستنتاج؟ عندما تُكلف شخصيتان برئاسة الحكومة على مدى تسعة أشهر ولا تتألف حكومة، فهذا أمر غير مسبوق في التاريخ السياسي اللبناني منذ الإستقلال حتى يومنا هذا، وبالتالي هو دليل على أن الدستور صار عامل تعطيل بدل أن يكون عامل تسهيل. وعندما تُكلف شخصية جديدة (ثالثة) بتأليف الحكومة من بعد سعد الحريري، ولا تتألف حكومة، يكون قد حُكم على الدستور بالإعدام. هل يصارح لودريان اللبنانيين القول أن المطلوب منكم الذهاب نحو أقل من طائف وأكثر من دوحة؟ في تغريدات له عبر “تويتر”، قال حمد بن جاسم وزير الخارجية القطري السابق وأحد عرابي مؤتمر الدوحة (2008) إن لبنان “لا يحتاج إلى وساطات من الخارج، بل يحتاج أن يجلس كل الفرقاء على الطاولة لبحث مستقبل هذا البلد”، وأضاف أن ساسة لبنان بحاجة اليوم إلى مكان يجمعهم “ويسهل عليهم الحوار في ما بينهم لعلهم يتوصلون إلى صيغة توافقية تخرجهم من هذا النهج المدمر”. ليس بالضرورة أن يكون موقف بن جاسم منسقاً مع الفرنسيين، لكن على الأرجح، هي دعوة إلى قلب معادلة إيمانويل ماكرون. كان مقرراً وفق المبادرة الفرنسية بنسختها الأصلية أن يتوج مسار تأليف الحكومة بمؤتمر ينعقد على الأراضي الفرنسية مطلع العام 2021 وظيفته وضع اللبنانيين على سكة عقد إجتماعي جديد. لا مفر من الذهاب إلى فرنسا أو اي مكان آخر، ومن يراهن على تأليف حكومة سريعاً من بعد سعد الحريري، عليه أن ينتظر أكثر مما إنتظر البلجيكيون.. إلا إذا تم تكليف شخصية وحيدة برئاسة الحكومة، ما تزال تردد حتى الامس القريب انها لا تريد ان تننطح لهذه المهمة. إختار وزير خارجية فرنسا أن يحتفل بالذكرى المئوية الثانية لوفاة نابوليون بونابرت، على أرض لبنان. المؤسف أنه سيجد عندنا الكثير من الأباطرة ممن تعمي مصالحهم الضيقة أبصارهم إلى حد وضع بلدهم في آتون الفوضى والإنتحار. حمى الله لبنان. للبحث صلة.