تحقيقات - ملفات

“السيدة الأولى” من عبد الناصر إلى السيسي: انتصار تسير على خطى جيهان وسوزان

محمد رمضان

“أنا بشكر ربنا عليه…”

في حديثها التلفزيوني الشهير خريف عام 2020 مع الإعلامية إسعاد يونس، لم تجد انتصار عامر ما يختصر رأيها بزوجها الرئيس عبدالفتاح السيسي، سوى اعتباره هبة من السماء لها وللمصريين.

أتت تصريحاتها حينها في وقت حرج، تتعالى فيه الأصوات شاكية من أزمة اقتصادية تبتلع الجميع، وتنديد دولي بانتهاك حرية التعبير وحبس النشطاء. خرجت السيدة انتصار في لقاء مطول لتتحدث عن السيسي الزوج “الرحيم” مع أبنائه، وأصناف الطبخ التي يهواها مثل أي رب أسرة، لاستدعاء صورة “الأب” لكل المصريين، وهي الصورة التي تستهوي كل رؤساء مصر، ربما لأنها تستدعي الطاعة في مخيلة الشعب المصري.

منذ وصول عبد الفتاح السيسي الى السلطة عام 2014، كان حضور زوجته السيدة انتصار عامر محدوداً في الحياة العامة. هيأتها الممتلئة وملابسها المحافظة التقليدية وترددها في الحديث أمام الإعلام أوحى منذ بداية وصولها إلى موقع زوجة الرئيس بأن المقارنة بينها وبين سوزان مبارك قد لا تكون منصفة.

نادراً ما كان يسجل لها لقاء أو حديث، وهو أمر اعتبره البعض قصوراً في إمكانات التواصل مع الإعلام، وهذا ما دفع إلى إجراء تدريبات وإعداد لها كما سرّب بعض الإعلام. وفعلاً، فبعد خمس سنوات من تولي السيسي، بدأت السيدة انتصار الظهور أكثر في الحياة العامة، مع كلام عن تلقيها تدريبات على الحديث والحركة وتفاصيل بروتوكولية. 

وفي الآونة الأخيرة، لوحظ حضور السيدة انتصار على مواقع التواصل الاجتماعي وتسليط الضوء إعلامياً على نشاطها، وسط همس أن المخابرات المصرية نصحت بتكثيف حضورها بشكل أكثر فاعلية.

السيدات الأول

اقترن لقب السيدة الأولى في مصر، بسلطة متوارية خلفه، ممنوحة بحذر شديد، ولا تعطي مجالاً كبيراً للارتجال أو النقد. من هنا، لم يسجل للسيدة انتصار أي مواقف تذكر بشأن أوضاع النساء المصريات اللواتي يعانين على مستويات مختلفة. فبينما تصرخ النسويات المصريات، تنديداً بمواد قانون الأحوال الشخصية الجديد، الذي يعيد المرأة إلى العصور الوسطى، بانتهاك حقوقهن الخاصة، كالزواج، والطلاق والولاية، تبارك انتصار القانون مرسخة الدور السلطوي الذكوري الذي يمثله زوجها، وتقمع صوت النسويات المستقلات، وتنحيه وتهمشه، إذ تشيد دوماً بخطوات المجلس القومي للمرأة، “البيئة الرسمية الموازية للمجال العام النسوي المستقل”، ودور زوجها الرئيس، في “دعم” المرأة.

 المحامية  عزة سليمان، مديرة  “مركز المساعدة القانونية للمرأة المصرية”، تقول لـ”درج”: “لا أرى لها أي دور، لم تتحدث خارج سياق الخطاب العام، أي في ما يتعلق بالمساواة في القانون، والخطاب الإعلامي والديني، والتعليمي، بين الرجال والنساء”. 

لم يُسمع  لانتصار السيسي موقف، ولو من باب الاستدراك، حينما برر زوجها الرئيس جرائم التحرش بإلقاء اللوم على المرأة- الضحية، بسبب سلوكها غير الأخلاقي، حينما قال بالحرف: “طبعاً بعضهم بيكون فيه مشكلة، الأمر ما يسلمش”.

وكان اسم انتصار السيسي برز بشكل واسع مع ظهور سلسلة فيديوات رجل الأعمال والممثل محمد علي، التي تحدثت عن صفقات فساد كبرى داخل المؤسسة العسكرية في مصر، فأتى محمد علي على ذكر السيدة انتصار مرات عدة، تحديداً في ما يتعلق بإنشاء قصور واستراحات بتكلفة عالية بأوامر منها.

لم يُسمع  لانتصار السيسي موقف، ولو من باب الاستدراك، حينما برر زوجها الرئيس جرائم التحرش بإلقاء اللوم على المرأة- الضحية.

تحية عبد الناصر … سيدة الهامش

يقتصر دور من حملن اللقب في مصر على امتداد أكثر من 70 عاماً منذ عهد جمال عبد الناصر حتى حقبة عبد الفتاح السيسي، على تلميع صورة الحاكم خلال حكمه وفي تدوين المذكرات المرتبطة به بعد وفاته، والتعتيم على جرائمه، والابتعاد من هموم الناس عموماً والنساء خصوصاً.

اكتفت تحية زوجة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر  بدور سلبي، بل اعترفت في مذكراتها المنشورة بعنوان “ذكريات معه”، قائلة :”لم أفتقد أي شيء إلا هو، أي لا رئاسة الجمهورية، ولا حرم رئيس الجمهورية”.

ظلت تحية منزوية، إلى أن كانت زيارتها الرسمية الأولى خارج مصر، برفقة  “زوجها الحبيب” إلى يوغوسلافيا عام 1958، تقول “سرت بجانب الرئيس، كان يلتفت إلي بسرعة ويقول لي هامساً أن أقف، أو أمشي، أو أتقدم بضع خطوات حتى لا أغلط، ومشيت بتوجيهه همساً”، وبعدها بعام حضرت أول عشاء رسمي مع إمبراطور الحبشة هيلاسلاسي، ولم تحتمله، إذ زادت ضربات قلبها، وأغمي عليها. وأرجع الطبيب الأمر إلى “انفعال حضوري”، بسبب رهبة الموقف “وأعطاني الطبيب حبوباً أتناولها قبل ذهابي إلى مآدب العشاء الرسمية، وبعدما اعتدت الموقف، تخليت عنها”. 

اختارت تحية دوراً هامشياً، قياساً إلى الدور الذي كان يمكنها أن تلعبه، واكتفت بلعب دور “ربة منزل”، لتنحّي نفسها جانباً، حتى من قضايا المرأة، إذ لم تشر في مذكراتها طوال 137 صفحة إلى أي شيء يخص النساء، سواء سلباً أم إيجاباً، واكتفت بدور “الساردة لسيرتها مع الزوج الحبيب”. 

الدكتورة هالة كمال في دراستها “لمحات من مطالب الحركة النسوية المصرية عبر تاريخها”، شرحت، أن جمال عبد الناصر حل الاتحاد النسائي المصري، والحزب النسائي، واحتكر مصالح النساء، وتبنى موقفاً متناقضاً بين الإطار “التقدمي” المتمثل في تعديل القوانين لزيادة حقوق النساء المدنية، وبين تمسكه بالإطار “المحافظ” فيما يتعلق بقوانين الأسرة والأحوال الشخصية المتحكمة في المجال الخاص. 

جيهان السادات: السيدة الأولى تحكم

“حكم دايان ، ولا حكم جيهان” هذه كانت صيحات طلاب المدارس في محافظة اسيوط ضد الدور الذي تلعبه جيهان السادات في صوغ سياسات مصر. كما عارض وجودها الناصريون، وأحسوا أن السادات لا يحكم وحده، إذ كانت تحضر الاجتماعات، وتتواصل مع الوزراء لرسم سياسة تخصُها.

جيهان وأنور السادات

توغلت جيهان للعب دور سلطوي، مبكراً، قبل أن يصل زوجها إلى كرسي الرئاسة عام 1970، خلفاً لـ”ناصر”، إذ بدأت بخطوات صغيرة اجتماعية في محافظة المنوفية عام 1960، دعمتها بصحبته حينما كان رئيساً لمجلس الأمة، في زيارة للولايات المتحدة الأميركية، وأجرت أحاديث صحافية مع وسائل إعلام أميركية. 

أنشطة جيهان السياسية، كما الاجتماعية، كانت تتماشى في نسق ممنهج مع سياسات السادات، القائمة على تجفيف منابع الغضب تجاهه، خصوصاً في أوساط النساء، إذ ترأست أكثر من 30 جمعية ومنظمة خيرية، بجانب زيارتها زوجات معارضيه لتستشف منهن خلسة، الأخبار والإشاعات والمؤامرات التي قد تحاك –على حد وصفها- ضده. 

لا تخجل جيهان من الاعتراف بدورها السلطوي، إذ تعترف في لقاء تلفزيوني :”لو كنت أقدر أشارك أكثر من كده، كنت شاركت، ولم أكن يوماً خلف السادات، كنت جانبه، وعملي الاجتماعي و السياسي، أكملت به دور زوجي الرئيس”. 

وعلى رغم إحساسها النرجسي، بدورها في مساندة المرأة المصرية، واعترافها الدائم، بالوقوف وراء سن  القوانين الخاصة بها ، لعل أبرزه “قانون الأحوال الشخصية لعام 1979” المُسمى قانون “جيهان”، إلا أن سليمان توضح لـ”درج”، أن كل محاولات جيهان أو غيرها من زوجات الرؤساء، كانت تجميلية، وترقيعية، جزئية، مجرد مسكنات موقتة، لا تتخطى القضايا الإشكالية العامة، ومعظمها يأتي وفقاً لرؤية الدولة ومنظورها. 

مخالفة الدستور والقانون 

واستكمالاً، لوصف دور الزوجات بـ”السطحي”، تؤكد سليمان، أن تدخلاتهن ليس لها سند دستوري أو قانوني، بل تطيح بدولة القانون، كما أن توجيههن يأتي وفقاً لتوجهات الدولة التي لا تضع قضايا النساء على طاولة النقاش كأولوية إطلاقاً. ولا يتحركن لتغيير كلي وحقيقي، على أساس المواطنة والمساواة، بل يلعبن أدواراً دعائية وتجميلية لأزواجهن.  وترى سليمان أن جيهان لم تدخل معركة حقيقة تخص النساء، حتى إن القوانين التي ساهمت في سنها، ألغيت بعدها بسنوات، لأنها أقرّت بشكل إجرائي قانوني خاطئ، في غياب مجلس الشعب، و”لم يكن هناك توجه حقيقي لتغير ثقافة الشعب، أو تدشين مبادرات لمناقشة إشكاليات حقوق المرأة في الشريعة”. 

دعاية نرجسية 

ولا تنقص جيهان السادات نرجسية تجعلها تتسبب بأزمة بروتوكولية، أثناء زيارة رسمية للرئيس المصري إلى السعودية، إذ كسرت الأعراف، لتجاور زوجها “السادات” على متن طائرته الخاصة، وتجري حوارات مع الأمراء السعوديين، وهو ما فعلته أيضاً في زيارة إلى أبوظبي. 

وما يفسر الأمر، ويؤكده، انفعالها، إثر نشر صور لـزوجها في الصحف المصرية، لحظة تنصيبه رئيساً للجمهورية، واعترضت بشدة، وطالبت وقتها، بالرجوع إليها في هذه المسائل، إذ انفعلت بشدة على سامي شرف، رجل المخابرات المصرية، احتجاجاً على منع صورها، قائلة :”أنا أشرّف البلد”. 

جيهان السادات

وإمعاناً في تكثيف الدعاية حولها، دخلت في معركة مع أم كلثوم، إذ عكّر مزاجها، أن تشاركها سيدة، بخاصة أنها في نظرها “مجرد مطربة”، الزعامة، وتنافسها في مشروع “الوفاء والأمل” لدعم السيدات، عبر تأسيس مشروع مواز. 

وعلى رغم الإشارات المتكررة، الدعائية في المقام الأول، إلى أنها حاربت من أجل حقوق النساء، إلا أن “جيهان” اعترفت في حوار تلفزيوني لها، قائلة “أنا لم أطالب بالمساواة بين الزوجين في الميراث، وكل ما طالبت به هو إبلاغ الزوجة الأولى قبل الزواج من الثانية”، وهو ما تطالب به النساء في مصر في الوقت الحالي، باعتباره حقاً أصيلاً لهن، في ظل حرمانهن منه في محافظات مصر، من الآباء، والإخوة، بزعم الولاية. 

سوزان ترث دور جيهان

الدور الذي لعبته جيهان كان مغرياً لزوجة الرئيس حسني مبارك، إذ سارت سوزان على نهج جيهان، عبر انتزاع سلطات غير دستورية أو قانونية، والتدخل في تعيين وزراء، والتخطيط لمشروع توريث السلطة لابنها المدلل جمال.

خلعت سوزان مبارك لقب “الهانم” الذي حصرها في قصر الرئاسة، لتربية الأبناء ورعاية شؤونهم، وتحركت تجاه انتزاع دور سلطوي، وأصرّت على لقب “السيدة الأولى”، وارتبط اسمها بمشروعات “دعائية”، لتجميل صورة الرئيس.

أما المشروع الأبرز، المحوري في رسم دورها المدروس بعناية، فكان “المجلس القومي للمرأة” الذي أسسته لتحقيق رؤية الدولة “المباركية” تجاه المرأة المصرية، بعد الانضمام لاتفاقية الأمم المتحدة لمنع التمييز ضد المرأة عام 1981، وكان المجلس معنياً بتحسين صورة مصر  دولياً، فيما يخص قضايا النساء، بالإضافة لتعزيز دور “السيدة الأولى”.

وعلى الرغم من وجودها على رأس المجلس القومي للمرأة، كانت سوزان مجرد شكل كاريكاتوري، لم تنجح في تمرير أي قانون ينصف المرأة بشكل جاد، بل نجحت في خلق صورة مزيفة فقط.

سارت سوزان على نهج جيهان، عبر انتزاع سلطات غير دستورية أو قانونية، والتدخل في تعيين وزراء، والتخطيط لمشروع توريث السلطة لابنها المدلل جمال.

ثورة 25 يناير 2011، كشفت الستار “السلطوي” والفاسد لـسوزان مبارك، إذ وجهت لها تهم بالفساد، في كل ما يروج بأنها أنجزته، وباستغلال أموال الجمعيات التنموية والتوعوية، الخاصة بالطفل والمرأة، لتحويلها إلى حساباتها المصرفية خارج مصر في فرنسا وسويسرا، بحسب وثائق “وكيليكس”، وألقي القبض عليها، وسلّمت 3 ملايين دولار، وفيلا خاصة، للإفراج عنها. 

والمفارقة، أن الاحتفاء بمشروعات “مكتبة الأسرة”، و “مهرجان القراءة للجميع”، الذي نُسب لهما الفضل في تثقيف قطاع واسع من الأسر المصرية، بأسعار مخفضة للكتب، تضمن فساداً ضخماً، إذ وجهت النيابة العامة تهماً للمسؤولين عنه تحت إشراف سوزان مبارك، بإهدار أموال الدولة، ونهب أموال التبرعات التي جُمعت لتمويلهما، والتصرف فيها بعيداً من أجهزة الرقابة الإدارية، والجهاز المركزي للمحاسبات. 

الكاتب محمد عيداروس في كتابه “كل حريم الهانم”، يلفت إلى سطوة سوزان، “إذ لم يكن كاتب مصري يجرؤ على الحديث عنها، لسلطتها، وتدخلاتها الصريحة في شؤون البلاد، وإنفاقها لثروات البلاد على المقربات منها، كما احتفظت لنفسها بنسبة محددة في تعيين عدد من المناصب القيادية والوزارية”. 

ويحكي عيداروس قصصاً مثيرة، تكشف عن وجه قبيح لـ”السيدة الأولى”، التي أهدت جزءاً من دخل البترول لسيدة ضمنتها في قسط “ثلاجة” في بدايات حياتها، وأبقت أخرى على منصب وزاري لأنها انحنت وقبلت يدها، وعيّنت أخرى وزيرة لأنها رافقتها كمرشدة سياحية في بيروت، وكافأت سيدة  أخرى برئاسة المجلس القومي للمرأة لأنها كانت أستاذتها في الجامعة الأميركية. 

نجلاء …”الخادمة الأولى”

بعد سقوط مبارك، وانتخاب محمد مرسي رئيساً لمصر، رفضت زوجته نجلاء لقب “السيدة الأولى”، وفضلّت أن تكون “الخادمة الأولى“.

وتنطلق نجلاء في اختيارها هذا اللقب، من رؤية الجماعة الدينية التي تنتمي إلى أفكارها، حيث المرأة مطيعة، خانعة، خادمة لزوجها. 

ولم يُكتب للسيدة مرسي، أن تكون “خادمة” ولا “سيدة” إذ استولى المجلس العسكري على البلاد، بعد الانقلاب على الحكم، وسجن زوجها وغالبية قيادات جماعة “الإخوان المسلمين”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى