لودريان في بعبدا: الإنذار الأخير!
كتبت ملاك عقيل…
أكثر من رسالة تحذيرية يحملها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى المسؤولين اللبنانيين بما في ذلك الخطوة المقصودة بإضفاء الغموض على جدول لقاءات الزائر الفرنسي ما أحدث بلبلة داخلية خصوصاً على مستوى “الإيحاء” باستثناء لودريان الرئيس المكلّف سعد الحريري من اجتماعاته.
وبحسب مصادر لبنانية موثوقة مواكبة للحراك الفرنسي باتت الإليزيه تنظر إلى الأزمة اللبنانية، التي لامست الخطوط الحمر، بوصفها “نكسةً” للسياسة الفرنسية الخارجية وكارثةً على اللبنانيّين والنازحين السوريّين وفلسطنيّي المخيّمات، وكارثةً على المنطقة برمّتها، مع تسليمٍ فرنسيٍّ منذ البداية بأنّ “الحريري لم يكن الرجل المناسب للمرحلة الإصلاحية المطلوبة ولا يملك البروفيل المتناسب مع متطلّبات المبادرة الإنقاذيّة. كما أنّه اعتمد المناورة منذ ما قبل تكليفه رئيساً للحكومة. ومسار الأزمة أثبت للفرنسيّين أنّهم كانوا على حقّ”.
استغنى الفرنسيّون عن “الجزرة” هذه المرّة. سيتركها وزير الخارجية الفرنسي في باريس، ويكتفي بحمل العصا خلال جولته في لبنان على مدى يومين، بدءاً من مساء الأربعاء، مُستظلّاً “عباءة” الحراك الناشط إقليميّاً ودوليّاً.
لم يغيّر الوسيط الفرنسي رأيه عمّا سبق أن أدلى به باعتبار لبنان “تايتانيك تغرق، لكن من دون موسيقى، والمسؤولون اللبنانيون في حالة إنكار تامّ لهذا الواقع”. هؤلاء لم يخيّبوا ظنّ الراعي الأول للمبادرة الفرنسيّة الإنقاذية إيمانويل ماكرون ولا ظنّ وزير خارجيّته وخليّة الأزمة الفرنسية التي شكلّاها للبنان خصيصاً، بل ذهب هؤلاء المسؤولون إلى حدّ تنظيم حفلة رقص جماعيّ قبل الارتطام الكبير!!
لكنّ العصا الفرنسية المرفوعة بوجه “معطّلي” تأليف الحكومة والإصلاحات و”المتورّطين بالفساد” لا تلغي سعي الزائر الفرنسي، وفق المعلومات، إلى القيام بمحاولة أخيرة لتحريك مساعي تأليف الحكومة وتسجيل نقاط تقدّم في خارطة الحلّ السياسي قد تقود إلى زيارة ثالثة للرئيس ماكرون إلى لبنان، كانت قد أُجِّلت منذ نهاية العام الفائت لسبب ظاهري هو إصابته بفيروس كورونا.
أمّا السبب الأساس للتأجيل فهو تيقّن الدائرة الاستشارية للرئيس الفرنسي بأنّ مجيء ماكرون إلى بيروت في ظلّ “الفوضى العارمة” سيشكّل انتكاسة شخصية وسياسية له، وتحديداً في الداخل الفرنسي المقبل على استحقاق رئاسيّ مفصليّ!
المفارقة أنّ لودريان الذي لم يتضّح جدول لقاءاته بعد قد يجلس مجدّداً مع من يتّهمهم “بالعرقلة والتقاعس عن القيام بأيّ خطوة تقي لبنان من الانهيار الشامل”، بمن فيهم النائب جبران باسيل الذي قاطعه وزير الخارجية المصري سامح شكري خلال زيارته لبنان، وكذلك مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد هايل. فالأسلوب الفرنسي هنا مغاير للأسلوب الأميركي في “فرز” القوى السياسيّة، مع حرص الإليزيه على التأكيد أنّها “لا تقف مع طرف ضدّ آخر”، والأدقّ القول إنّها “مستاءة من الجميع”.
مع ذلك، ثمّة من يجزم أنّ لودريان لن يكبس زرّ العودة إلى الوراء من خلال اجتماعات حصلت سابقاً مع القادة السياسيّين، ومن ضمنها تلك التي تولّاها ماكرون ولم تؤدِّ إلى أيّ مخرج للأزمة. ووفق المعلومات، سيلتقي لودريان رئيس الجمهورية الخميس قبل الظهر، ثمّ رئيس مجلس النواب. وفي حال استثناء الحريري من جدول مواعيده، فهذا سينسحب، على الأرجح، على باقي القوى السياسية المعنيّة بالأزمة. فيما لم يتأكد بعدما إذا كان سيلتقي البطريرك بشارة الراعي الذي أطلق مواقف عالية السقف أخيراً، وبدت موجّهة بشكل مباشر ضدّ فريق العهد. ويرجّح مطّلعون أن يجتمع لودريان مع قائد الجيش العماد جوزف عون من باب تأكيد دعم المؤسسة العسكرية ورفدها بما تحتاج إليه، إضافةً إلى اجتماعات مع بعض قوى المجتمع المدني.
ومع تعثّر الديبلوماسيّة الفرنسيّة في جرّ الأوروبيّين إلى ملعب “العقوبات الجماعيّة” بحقّ المسؤولين اللبنانيّين لأسباب تقنية وقانونية وسياسية وبيروقراطية، أكملت باريس طريقها باتّجاه مزيد من الضغط على القوى السياسية، مع حرصها على أن لا يأخذ طابعاً فئويّاً لإدراكها، وفق مطّلعين، أنّ المقصّرين في إيجاد حلّ للأزمة هم من مختلف الانتماءات الحزبيّة والطائفيّة.
تقول شخصيّة لبنانيّة على تماس مع الحراك الفرنسي والأوروبي “طفح كيل باريس من المسؤولين اللبنانيّين، ولذلك سترتدي الزيارة طابع التبليغ بالإجراءات التي ستعمد الإدارة الفرنسية إلى اتّخاذها”.
وتؤكّد مصادر مطّلعة أنّ “باريس رصدت معرقلي عملية التأليف، ومن ضَغَط لإفشال المبادرة الفرنسية وإفراغها من مضمونها، وهؤلاء مروحتهم أكبر”، مشيرةً إلى أنّ “الإجراءات الفرنسية المتوقّعة، بمنع السفر أو تجميد أرصدة أو سحب الجنسيّة، ستكون موجعة كثيراً بعكس ما يروّجه البعض. فالوجهة الأساسية تاريخيّاً للسياسيّين اللبنانيّين مع عائلاتهم، و”البيزنس” الخاصّ بهم، ورحلاتهم، هي غالباً فرنسا أكثر من أيّ دولة أخرى. والإجراءات ستطول عدداً من المستشارين الذين لعبوا دوراً سيّئاً في المرحلة الماضية”.
ويبدو أنّ الرسالة التي سعى باسيل إلى إرسالها إلى الأوروبيّين، وعلى رأسهم فرنسا، باستقباله “الاستعراضي” لوزير خارجية هنغاريا، قد تركت انطباعاً سلبيّاً لدى الفرنسيّين، الذين وجدوا فيها “استفزازاً صريحاً ولعباً “مشبوهاً” على التناقضات الأوروبية”.
لا يمكن في الشكل فصل زيارة لودريان عن التطوّر القضائي اللافت في باريس بعد رفع منظمة “شيربا” غير الحكومية دعوى ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا سلامة ومساعدته ماريان الحويك بشبهات فساد وغسل أموال وشراء عقارات بملايين اليوروات في فرنسا. وقد حاولت جهات لبنانية، في الآونة الأخيرة، الاستفسار من الفرنسيّين عمّا إذا كانت العقوبات الأوروبية أو الفرنسية المحتملة، في الشقّ المتعلّق بالفساد، ستطول حاكم مصرف لبنان، بالاستناد إلى دور سلامة طوال العهود الماضية، لكنها لم تحصل على جواب واضح.
في الخلاصة، الفرنسيون بدأوا يغيّرون أسلوبهم، ويبدو أنّ زمن “الجزر” قد انتهى، ودخلنا في مرحلة العصا لمن عصا.