بسبب القدس يجب إجراء الانتخابات
الاحتلال نظم انتخابات 1976 المحلية ففاز أنصار منظمة التحرير
طوني فرنسيس
يخشى الرئيس عباس من خسارة منصبه وعدم تمكن حركة “فتح” من ضبط مرشحيها (رويترز)
لم يكن إرجاء الانتخابات التشريعية الفلسطينية أمراً تقنياً عادياً، فالانتخابات ينتظرها الفلسطينيون منذ عقد ونصف العقد لتجديد ممثليهم ومحاولة الخروج من حال الانقسام والتخبط، والانطلاق في البحث عن أفضل السبل لإحقاق حقوقهم في قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
وعندما أعلن الرئيس محمود عباس ذلك الإرجاء الذي يتكرر منذ 2006، اُستقبل اعلانه بالرفض والوجوم، ولو أن حجته التي استند إليها في تبرير قراره كانت ممانعة اسرائيل في السماح لفلسطينيي القدس الادلاء بأصواتهم في مدينتهم.
الاستناد إلى هذا التبرير لا يمكن القفز فوقه بسهولة، فالقدس هي الأساس في المشروع الفلسطيني، وهي خصوصاً منذ قرار إسرائيل جعلها عاصمة أبدية لها، ومن ثم اعلان مقترحات صفقة القرن واعتراف الرئيس الأميركي الأسبق بها عاصمة لإسرائيل وجعلها مقراً لسفارة بلاده، صارت رمزاً مُضاعفاً يختصر النضال الفلسطيني في زمنه الحاضر، ولذلك بدا تبرير التأجيل مدعماً ولكنه غير كاف.
منذ اتفاقات أوسلو عام 1993 جرت الانتخابات التشريعية الفلسطينية مرتين فقط. في الأولى عام 1996 قاطعتها “حماس” واليسار ممثلاً بالجبهتين الشعبية والديمقراطية، وفي الثانية عام 2006 فازت “حماس” مما أدى إلى صراع انتهى بقيام إمارة غزة الحمساوية، ومنذ ذلك الحين يدفع الفلسطينيون ثمن الانقسام ويتراجع مشروعهم الوطني، ويتوسع المشروع الإسرائيلي استيطاناً وقضماً للأراضي، فيما يفتقد الفلسطينيون قيادة قادرة على اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب.
من هنا تكتسب الانتخابات أهميتها الفائقة، فهي تجديد للدم القيادي، واختبار للرأي العام الفلسطيني فيما آلت إليه سنوات الترهل والانقسام بقيادة المسؤولين عنها. إنها أيضاً المدخل لفحص احتمالات الخروج من آثار تلك السنوات، ورسالة إلى العالم فحواها أن الفلسطينيين شعب حي قادر على تطوير مجتمعه ويستحق الدعم في سعيه إلى استرداد أرضه وبناء دولته.
أجرت إسرائيل أربعة انتخابات نيابية في عامين، وهي قد تذهب إلى انتخابات خامسة أملاً ببلورة غالبية نيابية تستطيع الحكم، وكان الأجدى أن يُجري الفلسطينيون انتخاباتهم فيقدمون نموذجاً حضارياً مختلفاً ويثبتون في التزامهم بالنتائج أنهم يختلفون عن محتليهم، في القدرة على الاختيار واحترام خيارات الناخبين تحت مظلة الأهداف الوطنية الجامعة.
وقد استعد الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع للتجربة وأقبل بحماس على التسجيل. ومن مليون ونحو 340 ألف ناخب تسجلوا للاقتراع في 2006، ارتفع الرقم إلى مليونين و350 ألفاً تسجلوا للانتخابات المرجأة، منهم 150 الفاً في القدس، بنسبة بلغت 93 في المئة ممن يحق لهم التصويت في الأراضي المحتلة عام 1967.
في حقيقة الأمر، نالت القدس خطاباً عاطفياً مؤثراً في قرار الإرجاء، وخسرت ومعها الشعب الفلسطيني فرصة تحويل الانتخابات إلى معركة لتجديد الالتزامات الوطنية وفتح نوافذ جديدة. كان يمكن إجراء الانتخابات والمدينة تعيش على وقع تظاهرات احتجاج كالتي شهدتها أخيراً، فيما يتوجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع وعاصمتهم دليل لاختياراتهم.
وقد حصل مثل ذلك في الماضي تحت الاحتلال عندما كانت المنظمات الفلسطينية تقاتل خارج فلسطين، ففي عام 1976 وبينما تلك المنظمات منشغلة بالقتال في لبنان، أسفرت انتخابات المجالس المحلية التي أجرتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية عن فوز مؤيدي منظمة التحرير، وفي العام نفسه اندلعت أحداث يوم الأرض الذي يحتفل الفلسطينيون في دولة إسرائيل بإحيائه سنوياً.
تشير تلك التجربة إلى تهافت مبررات التأجيل الذي نحن بصدده الآن، وإلى أن من يستند إليها قد يجد في المستقبل مبرراً آخر، فحواه ألا انتخابات إلا في حال الانسحاب الاسرائيلي الكامل وإزالة المستوطنات، وربما يأتي طرف آخر ويشترط إنهاء دولة إسرائيل لإجراء انتخابات على كامل أراضي فلسطين التاريخية.
قيل الكثير عن أسباب الإرجاء الفعلية، ومن ذلك خشية الرئيس عباس من خسارة منصبه، وعدم تمكن حركة “فتح” من ضبط مرشحيها، مما أدى إلى تعدد اللوائح المنسوبة إليها، والخوف من نيات “حماس”، وانعدام الثقة بين الفصائل، وفي ذلك شيء من الصحة، بل هي أمور طبيعية في المنافسات الانتخابية، ولكن الأجدى والأفضل كان بلا أدنى شك السير قدماً في الاحتكام إلى رأي الناخبين، وليس تجميد آمالهم في صناديق مقفلة.