هوبز ولوك يحكمون العرب.. ولماذا نحن في ذيل الامم؟
يتساءل المعارضون على امتداد رقعة وطننا العربي المكلوم عن أسباب تخلفنا، ويلقون باللوم على كاهل نظم الحكم المستبدة في معظمها والتي احتكرت القوة والثروة وهيمنت على آليات القرار، تاركة لشعوبها الفتات على موائد وهمية أسموها زورا وبهتانا ” المشاركة الشعبية”، وباتت كمسمار جحا، فهو طورا يدق في الجدار وطورا آخر ينزع منه، ولكنه يبقى مجرد مسمار، لا يكفي وحده لتعليق حتى لوحة، فما بالك بتغيير الجدار؟
ويتبارى المعارضون في تفسير أسباب تلك الهيمنة، فتارة يلقون بأوزارها على شماعة الاستعمار وأذنابه وبقاياه، وتارة أخرى يلومون الشعب الخامل الغارق في سباته يركض وراء لقمة عيشه حتى لو كان ثمنها فقدان حريته وكرامته ومعظم حقوقه، وطورا يلومون الدين ورجاله، باعتبارهم أدوات السلطة وحاضنتها ومن يبرر لها أفعالها ويساعدها في تربية قطعان من الأغنام تهشها عصا الراعي، وطورا آخر يتوجهون نحو نظم التربية والتعليم فيلومونها على تكريس الحفظ الأصم ومحاربة التفكير الحر والاستقلالية، وتعميد أجيال من المقلدين والتابعين وأشباه الأميين ممن يحملون شهادات لا تعدو كونها شهادات زور. ثم، وبعد أن لا يشفي غليلهم ذلك كله، يتحولون نحو الإعلام المهادن الذي باتت معظم وسائطه أبواقا للبروباغندا والتضليل والتسطيح، ثم لا يجدون في ذلك كله نفعا، فينقلبون باتجاه ذواتهم ليلوموا أنفسهم على جبنهم وعجزهم عن تغيير الواقع ومواجهة آليات السلطة التي يمسك الحكام بعصبها وذروة سنامها، بل وبكل تجلياتها في السياسة والاقتصاد والمجتمع والقانون والاكاديميا والاعلام والفن والرياضة، وحتى في الثقافة!!
وهم، في نقاشهم هذا كله، محقون، ولكن معظمهم يغفلون عن نقطة البداية التي انطلقت منها تلك النظم واستمدت منها مسوغات وجودها وبقائها، ألا وهي فلسفة الحكم التي تدار بها شؤوننا في وطننا العربي الممتد من الشهقة إلى الغصة.
تحرك نظم الحكم الملكية والجمهورية في وطننا العربي سواء بسواء فلسفة عميقة تحكم ممارساتها الخفية والظاهرة، وهي على خلاف ما يعتقد بعض المعارضين ليست نظما عشوائية تفتقر الى المعرفة والفهم والاستجابة، بل هي نظم تعي تماما ما تفعل، وتبعيتها لقوى الاستعمار القديم ما زالت ظاهرة في صميم تلك الفلسفة التي تحركها، حتى وإن خاض بعضها مغامرات كلامية ضدها.
والقصة يا سادة يا كرام، تعود إلى أواسط القرن السابع عشر، وبالتحديد إلى عصر فلاسفة العقد الاجتماعي، وظهور هذا المصطلح للمرة الأولى مع توماس هوبز، ثم تجلياته لاحقا مع جون لوك وجان جاك روسو وغيرهم.
وتبدأ الحكاية حين أراد الملك الانجليزي شارل الأول، ومعه جيل من الملكيات الأوروبية، التخلص من سلطة الكنيسة، مع أنها مصدر شرعيتهم التي كانوا يحكمون باسمها وينهبون بها الأرض والثروة وثمرات الإنتاج، ويستعبدون من ولدتهم أمهاتهم أحرارا، فكان لا بد من ايجاد مخرج فكري يبرر استمرارية تلك السلطة بعيدا عن نظرية التفويض الالهي التي لا يمكن أن تستقيم في حروب الملوك مع الكنيسة، فكان أن تفتق ذهن توماس هوبز، وهو ابن تلك المرحلة العاصفة، عن نظرية العقد الاجتماعي التي حول فيها مصدر شرعية الملك من الله إلى الشعب، قائلا إن الناس في حالتهم الطبيعية بدون سلطة حكم، أشرار وجشعون وعدوانيون، وأن الأمن في ظل هذه الحالة الطبيعية معدوم، وعليه، وكي ينعموا بالأمن فقد ارتضوا أن يعقدوا عقدا اجتماعيا يختارون بموجبه سلطة حاكمة مطلقة هي الملك يفوضونها إدارة أمرهم ويتنازلون امامها عن حريتهم ليحصلوا على الأمن. ولأن الملك خارج العقد الاجتماعي، فهو منزه عن أي مساءلة، ولا يحق لأحد محاسبته على أفعاله، وسلطته يجب أن تكون مطلقة وقسرية كي يتمكن من إحلال الأمن.
ونلاحظ هنا مفهومين هامين ما زالا يلعبان دورا في فلسفة الحكم في بلادنا، الأول أن الشعب عليه ان يتنازل عن الحرية من أجل الأمن، وهو مفهوم يتسيد المشهد في منطقتنا، والثاني أن سلطة الحاكم مطلقة وغير قابلة للمساءلة، وهو مفهوم مهيمن في الدساتير العربية وفي الممارسات على الارض، باعتبار الحاكم أبا للجميع والمنعم المتفضل بالمكرمات.
ولكن، ولأن الشعوب لا يمكن أن تقبل سلطة مطلقة زمنا طويلا، ولا يمكن أن يدوم الأمن المزعوم حين يهيمن فرد أو سلطة على كل السلطات وتصادر الحقوق والحريات، فإن مفاهيم هوبز سرعان ما جاء من يعدلها بعد خمسين عاما، ليقول الفيلسوف الانجليزي الأشهر جون لوك إن السلطة التي يفوضها الشعب للحاكم عبر العقد الاجتماعي مشروطة وليست مطلقة، ودورها حماية الحرية والملكية (الثروة)، ولذلك لا بد أن يكون هناك مجلس يمثل الشعب (البرلمان) يراقبها ويضع لها الحدود (يسائلها)، وإلا فإن الخروج عليها يضحي مشروعا.
ونلاحظ هنا ظهور مفهوم جديد هو المساءلة البرلمانية التي تمثل سلطة الشعب غير المباشرة في مواجهة سلطة الملك، ولكنها تبقى دونه، إلى أن يستبد فيبيح استبداده خلعه أو استبداله، كما حدث في حراكات الربيع العربي التي باءت حتى اللحظة –باستثناء تونس ربما- بهزائم موجعة.
ولكن، وبعد صراعات دامية بين اللاعبين السياسيين في اوروبا في ذلك الوقت: البرلمانات والملوك والكنيسة، وبعد حروب دينية وسياسية دامية أكلت الأخضر واليابس، ظهر فيلسوف آخر بعد 75 سنة، ليقلب كل المعادلات ، وليكون المنظر الملهم لمفهوم سلطة الشعب وإرادة الأمة كما نفهمه اليوم، ألا وهو جان جاك روسو، الذي قادت أفكاره النيرة إلى جوار مبدع آخر هو فولتير إلى إشعال الثورة الفرنسية، والتأثير في الثورة الأمريكية، وإلهام الثورة البلشفية، وكانت فلسفته البذرة التي تلقفها ماركس وانجلز، والتي ينسب لها الفضل في ولادة الفلسفة الاشتراكية وفي التحول نحو الديمقراطية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
روسو قال إن هذا العقد الاجتماعي هو عقد بين الناس وليس بينهم وبين الحاكم، والناس أخيار وأحرار بطبيعتهم، ولم يعرفوا الشر إلا حين تجمعوا في مجتمعات أعطت الحق في الملكية للبعض دون الآخر، فراكمت الثروة والسلطة في يد أقلية، وهم حين يتنازلون عن جزء من حريتهم طوعا في هذا العقد الاجتماعي، إنما يتنازلون لباقي الناس الذين يشاركونهم المجتمع، وهم جميعا، أي كل الناس، عبر إرادتهم المشتركة ينتخبون السلطة التي تمثلهم وتدافع عن مصالحهم وتحمي حقوقهم وحريتهم، وتلك السلطة هي خادم يخدمهم وليست قوة فوقهم، وحين تنحرف عن دورها وغاياتها، فإن تغييرها يصبح واجبا عبر الثورة، التي تضحي مشروعة ومبررة، ولكن، إن كانت السلطة في يد حاكم، وكان الحاكم مستبدا، ويملك كل عناصر القوة وأدواتها، فإن الشعب لن يتمكن من خلعه إلا إن امتلك قوة تكافئه أو تتفوق عليه.
ولكن روسو أعطى خيارا آخر هو التربية لتكون طريق تغيير الحكم المستبد عبر تكوين الوعي والضمير الذي سيقود حتما إلى إفرازات مختلفة لطبيعة الحكم، وهو الطريق الذي أيده مبدع آخر هو الألماني ايمانويل كانت.
وهنا نلاحظ ظهور مفاهيم في غاية الأهمية وهي “الأمة مصدر السلطات”، و”الحاكم خادم للشعب”، و”الديمقراطية الخيار الأنسب للحكم ووسيلتها الانتخابات”، ” والناس ليسوا أمتعة تورث”، و”الحرية قيمة مقدسة لا يصح التنازل عنها لأحد”، وأننا حين نضحي بجزء يسير منها لنفسح المجال لحكم القانون، فإننا لا نتنازل عنها من أجل السلطة، بل من أجل باقي الشعب.
وبالعودة إلى واقعنا الذي تغيب عنه الحريات، نجد أن النخب الحاكمة في أوطاننا، وبالأخص في البلدان التي كان يستعمرها الانجليز، قد عجنت مفاهيم هوبز ولوك المادية النفعية وخرجت منها بخلطة مبتكرة، ملكيات كانت أم جمهوريات، تمنحها الحق في ممارسة السلطة المطلقة باطنيا تحت مظلة التمثيل الشعبي ظاهريا، ولكي تحكم قبضتها على شريان الأفكار في المجتمع، فقد غيبت تعليم الفلسفة في المدارس والجامعات كي لا يسائلها أحد عن أخطائها أو يشكك في شرعيتها، في حين بقيت معادلة الأمن مقابل الحرية مهيمنة حتى اللحظة لخدمة مصالحها، توظفها في كل آن وحين لتسويغ بقائها في السلطة، فإما هي وإما الفوضى.
في المقابل، فقد تأثرت البلدان التي احتلها الفرنسيون بأفكار روسو وفولتير ومن تبعهم ضمن هذه الفلسفة المثالية، ومالت إلى ممارسات أكثر ديمقراطية بعد الاستقلال، وتبنت نظما جمهورية، بعضها اشتراكي وبعضها ليبرالي، ولكن النخب الحاكمة سرعان ما انحرفت عن مسارها، واستهوتها مشاهد السلطة المطلقة لدى جاراتها، فانساقت إلى تقليد ما تراه من قمع وتسلط، فالشر يعم، والخير يخص.
والسؤال هو كيف الخلاص مما نحن فيه؟ وما هو سبيلنا إلى استعادة حريتنا؟
لتأتي الإجابة من روسو، ففي ظل اختلال معادلات القوة بين الشعب وحكامه، وسواء اخترنا طريق الثورة السريع أو طريق التربية البطيء، فلن يكتب لنا الخلاص إلا بحملة تنوير جديدة، تعود فيها الفلسفة والمنهج العلمي رفاق سلاح يتربعان سويا على عرش التعليم في المدارس والجامعات، وليطلق العنان لحرية التفكير والشك والمساءلة في كل البديهيات، فهذا هو سبيلنا الوحيد للنهضة السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية، ويكفي أن ننظر حولنا لنرى أن الدول المتقدمة سياسيا هي ذاتها المتفوقة علميا واقتصاديا واجتماعيا وقانونيا، وأننا نحن، ما زلنا في ذيل الأمم، نلعق جراحنا ونرش عليها أملاحا من بحورنا الميتة.