الحياد اللبناني بين المرجوّ والممكن
..وأي حياد ينفع في اللادولة؟ (المدن)
توطئة لغوية
يجب التفريق، ابتداء، ما بين المعنى اللغوي للحياد والمعنى الاصطلاحي؛ فالحياد في اللغة العربية هو مجانبة الشيء أو الميل أو العدول عنه، فحاد عن فلان: جانبه ومال عنه؛ وحاد عن الطريق: عدل عنه وسلك غيره؛ وحاد عن الحق: جانبه؛ ويقال: لا مَحيد عنه، أي لا يمكن مجانبته وتركه إلى سواه؛ وفي القرآن الكريم: « وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ»، أي ذلك ما كنت تجانبه وتفر منه. وفي لبنان مثل عامي معناه :«حِدْ عن الشر وغَنِّ لَهُ»، أي تحاشاه. فالحياد عمل بسيط يدل على الانصراف عن الشيء والانحراف عنه، ليس إلا.
أما الحياد بالمعنى الاصطلاحي فيدل على انتفاء الانتماء إلى أحد ضدين: الأبيض والأسود في الألوان، مثلاً، والمذكر والمؤنث في النحو، والسالب والموجب في الكهرباء، الخ. وهو ترجمة للمصطلح الفرنسي neutralité أو ما يقابله في الإنكليزية وغيرها، وقد اشتُق من أصل لاتيني يعني: لا هذا ولا ذاك، ثم أصبح يعني من لا يكون مؤيداً لهذا ولا لذاك، وبعد ذلك اتخذ معنى سياسياً هو عدم الانتماء إلى أحد معسكرين عدوين في الحرب.
ما تطلبه مرتا واحد
ولهذا يمكن القول إن مشروع الحياد المطروح حالياً في لبنان ملتبس، ونية التزيين واضحة فيه، فقد وُصف بالحياد الإيجابي والفاعل والملتزم مرة، وبالحياد الناشط مرة ثانية، وأنه مرادف لعدم الانحياز مرة ثالثة. وكل هذه الصفات، باستثناء عدم الانحياز، مضادة للمفهوم الاصطلاحي للحياد؛ والحقيقة أن المطلوب عند طارحي هذا المشروع واحد، ويجب أن يقال صراحة، هو رفع هيمنة حزب الله المفروضة على الدولة اللبنانية، وفك ارتباط لبنان بما يسمى محور المقاومة والممانعة، أي بمحور واحد، وهذا لا شأن له بأي مفهوم من مفاهيم الحياد الاصطلاحية، سواء في ذلك ما سمي بالحياد الإيجابي – وهو مصطلح ينطوي على تناقض على ما سبق قوله – أو ما وصف بعدم الانحياز. إنه أقرب إلى المعنى اللغوي العربي للكلمة، علماً أن عدم الانحياز ترجمة غير دقيقة أيضاً للمصطلح الفرنسي (non-alignement) وما يقابله في الإنكليزية وغيرها، وكان يعني الامتناع من الانخراط في أي محور من محوري القوتين العظميين: الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، ولعله يشبه في الموضوع السوري ما سماه اللبنانيون النأيَ بالنفس، أي عدم الانخراط في أي طرف من طرفي الصراع في سورية: النظام والمعارضة، حتى إنه ليجوز القول إن مفهوم النأي بالنفس أشمل من مفهوم الحياد المطروح حالياً في لبنان.
والحقيقة أن لبنان الرسمي ليس الآن جزءاً من أي محور دولي أو إقليمي، ولا حاجة به إلى طلب الحياد، فهو لا يحارب في سورية ولا في اليمن ولا في غيره، والذي يحارب في تلك البلاد إنما هو حزب لبناني يرتبط ارتباطاً عضوياً بالنظام الإيراني، وسواء أعلن لبنان الحياد أو امتنع من ذلك، فإن الحزب لن يقطع تلك الصلة العضوية، لأنه حين انضوى تحت اللواء الإيراني وشارك في معارك إيران لم يستأذن الدولة، وهو لن يطيع الدولة إذا أمرته بقطع تلك العلاقة، سواء أعلن لبنان الحياد في الأمم المتحدة أو في جامعة الدول العربية أو حتى في ساحة النجمة أو السراي أو بعبدا، فلماذا إضاعة الوقت في مشروع لن يبدل من الأمر شيئاً؟ وغني عن البيان أن معالجة مشاكل الأحزاب شأن داخلي ولا يدخل في اهتمامات الأمم المتحدة، وأن الدولة الراغبة في الحياد هي التي تقرره وتعلنه وتبلغ الأمم المتحدة به، وليست الأمم المتحدة هي التي تقرر حياد الدول أو تشرف على مؤتمرات دولية لإعلانه.
حزب الله بين الضرر والنفع
وحقاً أن جمهوراً كبيراً من اللبنانيين مستاء من تدخل حزب الله في سورية وغيرها من البلاد العربية، وبعضه شاجبٌ له، وأن هذا الجمهور يعتقد عن حق أن ذلك التدخل لم يكن في مصلحة الاستقرار في لبنان، وأنه أصاب السياحة والاقتصاد والمال بضرر جسيم. وحتى التحالف الذي عقده الحزب مع بعض الأحزاب اللبنانية إنما ساعد في حماية الفساد والتسلط والتخلف. بل إن الأمر ليتعدى عند بعضهم هذه الحدود إلى تحميل الحزب مسؤولية اللجوء السوري الكثيف إلى لبنان، وهو لجوء أبهظ الاقتصاد اللبناني وأنهكه، فسلوك الحزب من أسباب نشوء داعش والنصرة لأنهما نشآ كرد على مشاركته هو والميليشات العراقية والإيرانية وغيرها في الحرب السورية، والصراع مع داعش وأمثاله من أكبر دوافع اللجوء المشار إليه، فضلاً عن أن تلك المشاركة سمحت لأَتباع النظام بإجراء التغيير الديمغرافي الواسع في سورية، ومن ثم التهجير الضخم. زد على ذلك أن الحزب فرض رؤية النظام السوري على الدولة اللبنانية بحيث اعتُبرت المعارضة السورية ومؤيدوها في لبنان منظمات إرهابية، ولو لم تحمل السلاح أو تعرفه، وزُجّ بكثير من هؤلاء في السجن من غير محاكمة، على حين سمح لمؤيدي النظام بالتحرك بسلاحهم بحُرية تحت عنوان: سلاح المقاومة وبيئتها، وأتيح لهم أن يقصفوا بمدافعهم أحياء بعض المدن اللبنانية، وأن يفجّر بعضهم المساجد، وأن يباهي أحدهم على التلفاز بقتل مواطن بريء واستعداده لقتل غيره، من غير أن يلاحقه القضاء.
كل هذا أمر يتفق عليه كثيرون؛ لكن في المقابل، هل تحرّرَ جنوب لبنان لولا المقاومة التي كان الحزب أهم مكوناتها؟ وهل يمكن أن نأمن اجتياحاً صهيونياً جديداً في حال نُزع سلاح حزب الله منه؟ والأهم من ذلك، هل سيوافق الحزب نفسه على تسليم سلاحه؟ وإذا سلّمه فَلِمَن؟ للجيش اللبناني؟ لكن الولايات المتحدة لا تسمح لهذا الجيش بحيازة أسلحة تهدد الكيان الصهيوني، فضلاً عن أن هذا التسليم لو حدث يرهن لبنان لمصادر السلاح الإيراني وخبرائه. ولبنان، علاوة على ذلك، كيان سياسي متفكك، تقسِّمه الطائفية والعشائرية والمافيات المالية والاقتصادية وغيرها، ولا يؤمَن أن يستعمل هذا السلاح يوماً في النزاعات الداخلية لنصرة طرف على طرف. أَوَلمْ يساهم هذا التفكك في إشعال الحروب الأهلية المتعددة؟ أولم يرتمِ الحكم اللبناني يوماً في أحضان العدو الصهيوني حتى بلغ الأمر به أن حاول عقد صلح معه، وحتى انضم فصيل من الجيش اللبناني إلى الجيش الصهيوني وظلت رواتب عناصره تُدفع من خزانة الدولة؟ كل الوقائع تنفي إذن إمكان تسليم حزب الله سلاحه للجيش؛ وحتى إذا سلمه له فإن الولايات المتحدة ستطالب به حمايةً لإسرائيل، ولأنه في تقديرها سلاح إرهابي، وإلا فسيتهم الجيش اللبناني نفسه بالإرهاب.
إنها إشكالية حقيقية قائمة لا يمكن تجاوزها ببساطة، وهي حتمت الدعوة المشهورة إلى النأي بالنفس، أي إلى استمرار المقاومة في عملها الوطني على الحدود اللبنانية الجنوبية، وامتناع لبنان من التدخل في الحرب السورية. لكن ما أفسد تلك الدعوة عقبات عقدية إيمانية غيبية خلافية يصعب التغلب عليها. ولا أحد يفكر في تحقيق النأي بالنفس بقوة داخلية أو خارجية، لأن ذلك أسرع طريق نحو الحرب الأهلية التي لا مصلحة لأي لبناني فيها.
إن الإشكالية المذكورة لا تعالج إلا ببناء دولة حقيقية، ونشوء توافق داخلي، ووصول البلد إلى حال يجعل النزول عن الامتيازات حاجة للجميع. بمعنى أن الإعلانات الدولية، وهي مستبعدة، بلا فائدة في هذا الشأن، والحاجات الحيوية أقوى منها بكثير. وغاية ما يمكن رجاؤه إلزام الحزب بالعودة إلى ما كان عليه، أي إلى مقاومة العدو الصهيوني فقط، وحصر نشاطه بلبنان، وسيكون تحقيق ذلك مكسباً كبيراً، ولندَعْ طرح المطالب الملتبسة.
للحياد تاريخ طائفي تقسيمي
لا بد من التذكير هنا بحقيقة لا يمكن تجاهلها أو التعمية عليها بتأويلات جميلة للحياد، وهي أن الدعوة إليه في لبنان كانت دائماً ذات لون طائفي، وكانت مصاحبة لمشاريع التقسيم، وكانت بعضها ينطلق من فكرة التنكر للعروبية والتقرب إلى العدو الصهيوني، ومن دعاة الحياد من كان يتصل فعلاً بالعدو، حتى إذا نشبت الحرب الأهلية ذهب بعضهم إليه، وتحالف عسكرياً معه، وتولى الحكم بفضله، وعقد معه اتفاق صلح لم يعمر إلا قليلاً، على ما ألمحنا إليه آنفاً. وبكلمة، إنه لم يكن أحياناً حياداً بين العدو الصهيوني والبلاد العربية، بل ربما عنى في بعض المواقف وبعض السلوك تقرباً إلى العدو وانسلاخاً عن العرب.
هذه الحقيقة لا يمكن محوها من ذاكرة اللبنانيين، ولا يمكن أن تطلب إلى الناس نسيانها، وليس من الممكن إزالة آثارها العميقة بجميل العبارة، أو بالقول إن الحياد المطلوب لا يشمل العدو الصهيوني. إن الميالين إلى ذلك العدو لا يزالون فاعلين، وحسبنا أن نائباً جديداً ممن حالف حزبُه المحْدَثُ المحتلَّ الصهيوني في الحرب الأهلية قد صرح أن الحياد ينهي العداء مع إسرائيل (التي يسميها الوطنيون كياناً مغتصباً)، وذلك بُعيد إطلاق البطريرك دعوته إلى الحياد، مع أن حزب ذلك النائب صمّخ آذاننا منذ شهور، وربما منذ سنوات، بالتزامه القضية الفلسطينية وعدائه للصهيونية؟
ذلك يرجعنا إلى الخلاف الإيديولوجي الجذري الذي نشأ منذ قيام ما سمي دولة لبنان الكبير، وعبّر عنه بعدَ زمن ما وصفه الرئيس بشارة الخوري في مذكراته بالميثاق الوطني، وهو ميثاق لم ينص عليه الدستور ولا القوانين ولم تقره مؤسسة دستورية، وما ليس في الدستور لا يُلزم، فكيف إذا كان اتفاقاً بين رجلين لا يعرف أحد ماذا دار بينهما؟ وليس بين أيدينا ما يؤيد الزعم أن البيان الحكومي لرياض الصلح هو مضمون هذا الاتفاق، وليست البيانات الوزارية ومذكرات رؤساء الجمهورية دساتير، على كل حال. والأهم من ذلك كله أن ذلك الاتفاق قد تم قبل تولي بشارة الخوري ورياض الصلح رئاستي الجمهورية والحكومة، على ما هو مفترض، وذلك يعني أنه لم يمر في المؤسسات الدستورية، فهو اتفاق شخصي، فضلاً عن أنه جرى قبل الاستقلال، كما يتضح من كلام بشارة الخوري الوارد أدناه، فلا غرو أن ينفى إدمون رباط معنى الميثاقية عنه، وأن يعده غير ملزِم.
أياً يكن من رأي فإن بشارة الخوري يقول :«وما الميثاق الوطني سوى اتفاق العنصرَين، اللذَين يتألف منهما الوطن اللبناني، على انصهار نزعاتهما في عقيدة واحدة. فاستقلال لبنان التام الناجز يجب أن يتم دون الاعتماد على حماية من الغرب، ولا التطلع إلى وحدة أو اتحاد مع الشرق»؛ وقد رأى بعضهم في هذا النص دعوة إلى الحياد بين الشرق والغرب، وليس كذلك، لأنه يصف الوسيلة إلى الاستقلال ليس إلا، ولم يكن لبنان دولة مستقلة حتى يطلب الحياد، والخوري يتكلم، على كل حال، في نزَعات يراد صهرها، ويكاد يؤكد حقيقة معروفة هي أن بعض اللبنانيين ذوو ميول عروبية، وأن آخرين منهم ذوو ميول غربية معادية للعروبية، ولذلك جاءت عبارة «لبنان ذو وجه عربي» في بيان حكومة الصلح ضرباً من التسوية، وهي تسوية ألغاها دستور الطائف بإعلان «لبنان عربي الهوية والانتماء»، وألغى من ثَمّ كل ما ينسب إلى الميثاق الوطني المزعوم.
إن ذلك التعارض بين التوجه العربي والتوجه الغربي أفضى إلى مشاكل لم تنته ولما تنته، وقد تجلى ذلك في الأزمات الشِداد: أزمة 1958، وأزمة 1969، والحرب الأهلية، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وأزمة 17 أيار، وانشقاق الجيش اللبناني سنة 1984، والأزمة الوزارية في نهاية عهد أمين الجميل، ونشوء حكومتين، الخ. بل تجلت حتى في الأحكام القضائية التي صدرت مؤخراً في حق عملاء العدو الصهيوني. والمؤسف أن ما زاد الطين بِلة نشوء أزمات من نوع جديد، هي الأزمات المذهبية التي وسّعت الشقاق بين اللبنانيين، وجعلت بعضهم يشارك في حروب إقليمية، بعد أن كانوا يخوضون الصراعات داخل لبنان فقط، وإن بتأييد من الخارج أحياناً، ولذلك اتسع الخرق على الراقع.
إنقسام سياسي حاد
إن هذه الحقيقة أفضت إلى جعل حكام لبنان وزعمائه وأتباعهم منقسمين انقساماً حاداً، منافقاً بعضهم لبعض وعاملاً بعضهم على خداع بعض، وهو أمر قضى على معنى الانتماء الوطني، وصار كل فريق يستحل أموال الدولة ومرافقها، ويعتبر الفساد مزية ما دام يخدمه ويخدم بيئته. كيف لا وكثير من الزعماء المسيحيين لا يزالون منذ نشوء النظام اللبناني يعتقدون أن لبنان دولة أُعطيت لهم، وأن للمسلمين مندوحة عن لبنان في البلاد العربية الواسعة. وكثير من الزعماء المسلمين السنّة لا يزالون يحلمون بالوحدة العربية، ويشعرون بنوع من الإقصاء. وكثير من الزعماء المسلمين الشيعة يشعرون بالانتماء إلى إيران والعراق أكثر من انتمائهم إلى لبنان وسائر البلاد العربية. إن الانتماء إلى المنظومات الإقليمية والدولية راسخ في نفوس الزعماء اللبنانيين، وهو أقوى من العبارات البليغة، والابتسامات اللامعة، والإيقاع الصوتي الرخيم. البلاغة والابتسام ورخامة الصوت لا يمكن لها أن تخفي العقائد الراسخة.
من هنا نفهم لماذا قاوم الحكم الحالي إلغاء الطائفية بعنف، مع أن الدستور اللبناني ينص صراحة على وجوب إلغائها، إذ تولاه متطرفو الطائفية والعنصرية حتى بدا الدستور بين أيدهم كخرقة بالية، وصار النظام اللبناني القديم هو المطلوب تطبيقه، لكن بغلو أكبر. ولا جدال في أنهم لا يزالون مستعدين لغض الطرف عن كل رذيلة شرط هيمنتهم على السلطة والإدارة، وهم لأجل ذلك يغذّون الطائفية والتطرف بأقوى الفيتامينات والمقويات. فلا غرابة إذا عاني البلد شروخاً عقدية جذرية، ونزل زعماؤه عن انتمائهم اللبناني والعربي في سبيل انتماءات أخرى، وعرّضوا لبنان لأحد هذين المصيرين أو لكليهما: إما الزوال واعتباره دولة مصطنعة غير قابلة للحياة، أو تجديد الحروب الأهلية الموسمية التي تستغل فيها أوضاع معيشية وفكرية مزرية لخدمة أهداف لا علاقة لها بتلك الأوضاع ولا بتغييرها. في مثل هذا النظام يبدو الكلام على الحياد ترفاً وجدلاً غير مجد – مع تقديرنا لمن يقترحه – فضلاً عن أنه يحرك الهواجس الطائفية والقومية القديمة، ومن الخير تركه والانشغال ببناء الدولة وبالخروج من النظام الفاشل المتهاوي.
شرط البحث في الحياد
ذلك أن البحث في قضية الحياد، سواء أيدنا المطالبة به أو رفضناها، يقتضي شرطاً لازماً هو وجود الدولة القوية الموحدة، لا نظام المقاطعات الطائفية. وليس اكتشافاً أن لبنان لم يعد دولة، وحكمه غير محل ثقة، ولو كان دولة حقاً لما أقدم أي حزب على تجاوز مؤسساته والتدخل السافر في الحروب الإقليمية. فلكي تكون الدولة حيادية يجب أن تكون موجودة أولاً. هذا شرط ضروري ولازم. ذلك لأن الإنسان لا يشتري ثياباً للزوجة أو الحبيبة التي يحلم بها قبل أن يراها ويعرف لون بشرتها وطول قامتها ومقدار رشاقتها أو ضخامتها؛ أي قبل أن تكون حقيقة واقعة ومعروفة، وإلا كان ضحية وهم وخيال سقيم. وأي حياد ينفع في اللادولة، وتحت نظام فاسد ضعيف يزعم كل طرف من مكوناته أنه قوي، مع ذلك، ويديره حكم ممزق وشبه مفلس، ويخضع له شعب جائع؟ لا يمكن للادولة أن تتعامل مع الدول، والمطالبة بحيادها أشبه بأن يكون مطالبة بحياد شيء غير موجود عن شيء غير معروف.
لبنان والدولة القوية
وسؤال آخر: هل يمكن قيام الدولة القوية في لبنان؟ أعني تلك التي تلتزم نظاماً ديمقراطياً صحيحاً، وتكون في خدمة الشعب، وتعمل على تقدمه، والأهم من كل ذلك، تستطيع حمايته من العدوان الصهيوني الوجودي الدائم الذي يهدده ويهدد كل الشعوب العربية؟ لا أعتقد أن ذلك مسموح به دولياً، لأنه يخالف الخطة الصهيونية العالمية التي ترمي إلى أن تظل كل البلاد العربية ضعيفة عاجزة عن الدفاع عن نفسها، بعيدة من الحداثة، متخبطة في صراعات لا تنتهي، مكبلة بفقر محبط ومعطل للحركة النشيطة وللتقدم. ولنعترف، على الرغم من كل مآخذنا على حزب الله، أن القوة التي اكتسبها كانت فلتة لن يتاح للدولة اللبنانية مثلها، بل سيُعمل على إبطال مفاعيلها وتجفيف مواردها بكل الطرق الممكنة. ولهذا فلا معنى للزعم بأن الحياد يساعد في منع وجود دويلات داخل الدولة، أو في تحرير الدولة من هيمنة أحد الأحزاب. نعم، كادت الثورة الأخيرة تفعل ذلك عندما تبرأت من الطائفية ودعت إلى الديمقراطية والحداثة ومحاربة الفساد؛ لكن الفساد كان أقوى منها، وكان سلاح الطائفية والمذهبية والارتهان للخارج أمضى من سلاحها الديمقراطي.
لكن يبقى الأمل في ألا تنطفئ شعلة الثورة وإن هبّت عليها رياح التخلف والفساد العاتية، بل عسى أن تزيدها تلك الرياح اشتعالاً. هو أمل يستمد قوته من طبيعة الأشياء وقانون التطور والتغير. وقد قلنا في مقالة سابقة إن الطائفية ظاهرة خارج التاريخ، وموتها قضية وقت، ونزيد الآن أنه عندما يحين أجلها لن نحتاج إلى نظريات مثل نظرية الحياد، ولا إلى جدل اصطلاحي، لكن لذلك شرطاً هو العمل الدؤوب والجدي على إلغائها.