كوع الكحّالة بعد خمسين عاماً
حادث إغتيال جوزف بجّاني صادم في حدّ ذاته. ولكنّ الصدمة كانت مضاعفة لأنّه كان مصوّراً. ثمّة عمليات قتل أخرى حصلت منذ ثلاثة أعوام تمّ ربطها بمقتل بجّاني ولكنّها لم تكن مصوّرة. ُصوِّرت جثث القتلى ولكن لم يتمّ تصوير القَتَلة. من أنطوان داغر الموظّف في أحد المصارف إلى العقيد جوزف سكاف والعقيد منير أبو رجيلي وغيرهم… في قضية بجّاني كان المشهد أكبر من أن يتمّ احتماله. ثمّة كلام كثير عن القتل العمد وعن القتل بدم بارد ولكن دائماً لم تكن الصورة حاضرة لتحكي عن نفسها وعن اللحظة وعن القَتَلة المحترفين، الذين يقفون أمام ضحيّتهم ولا يرفّ لهم جفن وكأنّهم يتلذّذون بما فعلوا وكأن لا عقل ولا دم ولا ضمير لديهم. هذا ما حصل في عملية قتل جوزف بجّاني. رأينا صورة القاتِلَين ولم نرَ صورة القتيل الشهيد.
الدم البارد والدم الحار
كانا يعرفان ما يفعلان. توجّها مباشرة إلى الهدف ونفذا العملية كأنّهما رجلين آليين من حديد. لم يكونا لوحدهما. هكذا قيل. قيل أيضاً أنهما كانا من ضمن مجموعة تولّت المراقبة وحماية العملية. العملية كما تمّ تنفيذها تكشف أنه تمّ التخطيط لها مسبقاً. المسألة اللافتة هي وجود الكاميرا التي صوّرت مسار العملية. هل غفل المنفذون عن وجودها؟ هذا الأمر يحتاج إلى التأكّد من تاريخ وضعها ولماذا تمّ وضعها وهل كان جوزف بجّاني متخوّفاً من تعرّضه للقتل؟ وما هي المسائل التي كان يعمل عليها وتستوجب اتخاذه إجراءات احترازية وتستدعي قتله، وهل لها علاقة بتفجير مرفأ بيروت مثلًا؟ الجريمة في حد ذاتها ليست عادية أو شخصية. القاتلان متدرّبان وربّما ليست العملية الأولى التي ينفذانها. على الأرجح أنّهما من فرقة متدربة على القتل والإعدام. وهما لا يعملان بصورة مستقلّة. ويبقى على التحقيق أن يكشف الخلفيات والأسباب ويحدّد المسؤولين، وربما كان من الممكن الإستفادة من الصور التي وثّقت عملية القتل من أكثر من كاميرا في المنطقة واستدعت فورة الدم الحار لأهالي الكحّالة.
عملية القتل في حدّ ذاتها زادت منسوب القلق لأنّها أتت متزامنة مع جوّ رعب يتمّ بثّه في البلاد ويتعلّق بعودة مسلسل الإغتيالات. ولكن عندما يتحدّث البعض عن هذه المسألة لا يكون المقصود اغتيال أشخاص عاديين كجوزف بجّاني بل اغتيالات سياسية. عملية اغتيال بجّاني تشبه في هذا الإطار، ضمن السياق الذي يتمّ وضعها فيه، عملية اغتيال الرائد وسام عيد إذا صحّت مسألة الربط بينها وبين جريمة تفجير المرفأ. فهل كان لجوزف علاقة بهذا الموضوع وهل هناك معلومات لم يتمّ الكشف عنها بينما توفّرت للذين اتّخذوا القرار بتصفيته؟
قبل 50 عاماً
قبل خمسين عاماً عاشت الكحالة أحداثاً هزّتها وهزّت لبنان تمّت استعادتها بالتزامن مع حادثة اغتيال جوزف بجّاني. قبل خمسين عاماً كان لبنان يعيش حال قلق على المصير في ظلّ انتشار السلاح الفلسطيني وتغطية فريق من اللبنانيين له، مع العمل على تحييد دور الأجهزة الأمنية والقضائية والعسكرية. واليوم يعيش لبنان حال قلق أكبر في ظل الخلاف حول أحقّية “حزب الله” في امتلاك السلاح والتمسّك بخيار الحرب والسلم، بمعزل عن خيارات اللبنانيين الآخرين وموقف الدولة الرسمي ودور الجيش الوطني.
في نيسان 1968 قتل في الأردن اللبناني خليل الجمل الذي كان منتظماً في إحدى المنظمات الفلسطينية وذلك خلال اشتباك مع العدو الإسرائيلي، وكان أول لبناني يسقط هناك في سبيل هذه القضية. خلال نقله من الإردن إلى بيروت لتشييعه مرّ موكبه على طريق الشام وكان له استقبال في الكحالة نفسها كما في عدد من البلدات والقرى التي مرّ بها الموكب المسلح. بعد عامين ستنقلب المقاييس.
في 25 آذار 1970 قتل الفلسطيني سعيد غوّاش من مخيم تل الزعتر خلال اشتباك مع مسلحين آخرين من آل ستيتية، قيل أنهم كانوا يشكّلون عصابة للإتجار بالمخدرات وكان القتيل ضابطاً في الكفاح المسلح الفلسطيني. كان ذلك بعد أربعة أشهر من توقيع اتفاقية القاهرة التي سمحت بانتهاك سيادة الدولة اللبنانية وشرّعت العمل الفلسطيني المسلح وحوّلت المخيّمات من مخيّمات للّاجئين إلى مخيّمات مسلّحة. جرت محاولة لنقل الغواش عبر مطار بيروت إلى الأردن ولكن العملية لم تتم بسبب عدم توفر طائرة في الوقت المناسب. لذلك تقرّر نقله برّاً إلى دمشق عبر موكب مسلح. خلال مرور الموكب في الكحالة أطلق مسلحون النار في الهواء وحصل احتكاك مع عدد من الأهالي الذين أصيب عدد منهم، ولكنّ الموكب مرّ وأكمل طريقه. جرت محاولات لمنع الموكب المسلّح العائد من سوريا من المرور في الكحالة ولكن المحاولة فشلت. خلال عبوره حصل الإشتباك الذي أدى إلى سقوط عدد من القتلى قبل أن يتمدّد ليشمل أحياء في بلدة الدكوانة والمكلِّس القريبة من مخيم تلّ الزعتر وفي حارة حريك القريبة من مخيم برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت. على أثر هذا الحادث تم خطف الشيخ بشير الجميل على أحد الحواجز الفلسطينية واحتجازه في تلّ الزعتر، بعد اتّهامه بأنّه كان في الكحّالة يوم الحادث مشاركاً في إطلاق النار، قبل أن تحصل تدخّلات أدّت إلى إطلاقه لعب دوراً فيها وزير الداخلية كمال جنبلاط.
هل يبقى لبنان؟
كمال جنبلاط كان نجم جلسة مجلس النواب التي انعقدت الساعة السابعة إلا ربعاً مساء الثلاثاء 7 نيسان 1970، لمناقشة ما حصل في الكحالة وفي المكلّس والدكوانة وتل الزعتر وحارة حريك. أظهر النقاش الإنقسام الداخلي حول دور السلاح الفلسطيني في لبنان. جنبلاط دافع عن دوره كوزير داخلية واتهم المكتب الثاني بأنه لعب دوراً في الأحداث الدائرة، وسمّى الرائد سامي الخطيب متّهماً إيّاه بأنّه يعرف من يلقي المتفجرات وتطرّق إلى الحوادث المختلفة التي تحصل، وانتقد توزيع الجيش اسلحة في الجنوب على الأهالي منتهياً إلى طرح الثقة بنفسه في المجلس. الردّ الأساسي عليه كان من النائب رينيه معوّض الذي استعرض تفاصيل حادث الكحالة مدافعاً عن الجيش والمكتب الثاني منهياً مداخلته، كما ورد في محضر الجلسة الرسمي، بأن أهداف هذه الأحداث هي: “إبعاد الجيش الطلب الاول. والإتيان برئيس ضعيف في الانتخابات المقبلة، أول مرحلة الفوضى. هذه ثاني مرحلة. ثالث مرحلة، الطعن بالقوى واتّهامها بالرجعية واتّهامها بالخيانة وبمحاولات تصفية العمل الفدائي وكل ذلك ضمن مخطط، مخطط طويل الامد، ولا اعتقد انه سينتهي بانتخاب رئيس جمهورية؟… لا يا سيدي، المعركة ستبدأ منذ انتخاب رئيس الجمهورية لأنّهم يريدون ان يظهروا للبنانيين ان كل ما يحصل هو بسبيل انتخاب معركة السبعين. فأصلح لك من هنا: لا تهمّنا معركة السبعين، الذي يهمّنا هو أن يبقى لبنان قبل السبعين وبعد السبعين، يبقى كما هو ولا مجال فيه لأي ارتباطات مشبوهة ولأي اخطار لا يتقبّلها هذا البلد”.
اليوم بعد حادث الكحالة الجديد كأن الكلام نفسه يتكرّر. في معركة السبعين أتى سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية واستمرّ السير نحو الهاوية حتى حصل الإنفجار الكبير في 13 نيسان 1975.
المهم أن يبقى لبنان. قالها معوّض قبل خمسين عاماً وهي تقال اليوم. حادث اغتيال جوزف بجاني يعيد طرح المعادلة نفسها، هو ليس حادثاً معزولاً في الزمان والمكان. بل يأتي ضمن سلسلة من الأحداث التي تسرع في غرق السفينة. كوع الكحالة لم يتغيّر مكانه. الزمن وحده تغيّر. والسلطة وحدها لا تعرف كوعها من بوعها.