عندما تتعارض حريات الأفراد مع صالح المجموع
د. علي الدين هلال
عندما كان الدكتور “أنطوني فاوتشي“، كبير أطباء الحميات في أمريكا والمستشار الطبي للبيت الأبيض، يُلقي بشهادته أمام إحدى لجان مجلس النواب في 18 أبريل 2021.
قاطعه “جيم جوردون” العضو الجمهوري عن ولاية أوهايو متسائلاً: إلى متى ننتظر حتى يستعيد الأمريكيون حرياتهم مرة ثانية؟ فأجابه فاوتشي: سيدي إننا لا نناقش في هذا الاجتماع موضوع الحريات، ولكن قضية الصحة العامة وحماية أرواح الأمريكيين.
تلخص هذه الحادثة أحد أهم موضوعات الجدل والحوار السياسي في الولايات المتحدة والدول الأوروبية في فترة انتشار وباء كوفيد- 19، فجوهر السؤال الذي طرحه عضو مجلس النواب هو استنكار الإجراءات التي اتخذتها الحكومة والخاصة بارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي والحملة لحث الأمريكيين على التطعيم باللقاح والتي يعتبرها انتهاكاً للحريات والحقوق الشخصية التي كفلها الدستور لجميع الأمريكيين. ومن ثَم، فإن هذه الإجراءات تُمثِّل، من وجهة نظره، مخالفة دستورية. وجدير بالذكر أن هذا العضو ينتمي إلى فريق المؤيدين للرئيس ترامب وكان قد سبق له أن صرح في داخل المجلس بأن تطبيق الإجراءات الاحترازية قد حوَّل أمريكا إلى “دولة ديكتاتورية”.
أما رد فاوتشي، فكان جوهره أن الموضوع لا يتعلق بحريات الأفراد، ولكن بالإجراءات التي ينبغي اتخاذها لمواجهة وباء فتك بأكثر من نصف مليون أمريكي مما يتطلب التدخُّل لحماية صالح المجتمع وصحة المجموع. ونبَّه إلى أن الالتزام بالإجراءات الاحترازية والإقبال على التطعيم هو الحل الوحيد لإنهاء الأزمة الصحية والعودة إلى الوضع الطبيعي.
جاءت هذه الواقعة جزءاً من جدل أكبر حول العلاقة بين حدود حريات الأفراد ومتطلبات مصلحة المجتمع خصوصاً في ظروف وباء صحي. وكان من مظاهر هذا الجدل خروج عشرات بل ومئات المظاهرات في القرى والمدن في أمريكا وكندا احتجاجاً على فرض الإجراءات الاحترازية.
وفي مارس 2021، اجتاحت أغلب العواصم والمدن الأوروبية مظاهرات مماثلة اعترضت على قسوة إجراءات التباعد الاجتماعي المفروضة، وما خلفته من آثار نفسية سلبية على الناس خصوصاً كبار السن. ووصل الأمر ببعضها إلى رفع شعارات تشكك في جدوى التلقيح، وأن الأمر كله يتم لصالح الشركات الكبرى، والمطالبة بحماية الحقوق الدستورية للأفراد.
وفي الولايات المتحدة، أخذ الخلاف بُعداً سياسياً. فبينما تحاشى الرئيس ترامب ارتداء الكمامة، ولم يدعُ أنصاره إلى استعمالها، كان المرشح الديمقراطي بايدن يلح في أحاديثه على ضرورة الالتزام بالتدابير الاحترازية واتَّهم ترامب صراحةً بالتهور وعدم تقدير خطورة الوباء.
أدى هذا الخلاف في عام 2020 إلى أن أصبح ارتداء الكمامة رمزاً للانتماء السياسي فالذي يرتديها هو من أنصار الحزب الديمقراطي ومن لا يفعل ذلك فهو جمهوري بالضرورة. أكد فاوتشي هذا المعنى عندما أوضح أن بحوث استطلاع الرأي تؤكد أن 45% من أنصار الحزب الجمهوري يرفضون تلقي اللقاح، وأن هذا الوضع سوف يؤدي إلى استمرار الإجراءات الاحترازية التي يشكو أنصار الحزب الجمهوري من أنها انتهاك لحريات الأفراد.
والحقيقة أن موقف المتظاهرين والمعارضين للإجراءات الاحترازية لا يمكن تبريره بدعوى احترام حريات الأفراد. فجميع المفكرين الذين وضعوا الأساس النظري لليبرالية والديمقراطية كتبوا صراحةً أن حرية الفرد لا يمكن أن تكون مطلقة أو بدون حدود، وأن حريته تنتهي عند النقطة التي تبدأ فيها حريات الآخرين، وهو ما ورد في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي صدر في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1789 من أن الحرية تعني فعل كل ما لا يضر بأي شخص آخر. وهو ما أكده الفيلسوف البريطاني “جون ستيوارت مِل” في كتابه “عن الحرية” والذي ذكر فيه أن الحالة الوحيدة التي يجوز فيها للسلطات العامة أن تفرض على الإنسان سلوكاً بعينه هي من أجل منعه من إيذاء الآخرين. وهكذا، فإن الفرد ليس حراً في إيقاع الأذى بالآخرين أو الاعتداء على حقوقهم، وهو ما يشير إليه مبدأ “أنت حر ما لم تضر” في الفكر القانوني أو قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” في الفقه الإسلامي.
فالحرية مفهوم لا معنى له خارج إطار الجماعة أو المجتمع. فلو تصورنا إنساناً يعيش بمفرده على جزيرة أو في منطقة نائية فإن قضية الحرية لا تكون مثارة أساساً. فهي تنشأ في داخل الجماعة، وفي سياق علاقات الفرد مع أفراد آخرين. ويترتب على ذلك، أن ممارستها -من ناحية- ترتبط بالالتزام والمسؤولية، فكل واحد منا حر في اتخاذ قراراته بشرط أنه يتحمل نتائجها وعواقبها. ثُم إن ممارستها -من ناحية أخرى- ينبغي أن تكون في إطار القانون وصون مصلحة المجتمع وعدم إيذاء الآخرين.